الخميس، 7 ديسمبر 2023

الصفحة الثامنة

 


مجتزأ من رواية «كربون»، ويلوز هاوس للطباعة والنشر 2023

 

باتجاهي يسير «يونس» و«الهادي الأفريقي»، ميَّزتُهما من مسافة بعيدة في الطريق الخالي. اليوم إجازة السبت، ومكاننا وسط مؤسسات حكومية خاوية. تسليت بمراقبة مشية كلّ منهما. 

مشية الريفي لا تخطئها العين. الطريقة التي يطأ بها الأرض رافعاً أصابعه الأمامية غريزياً، انحراف القدم بزاوية إلى الخارج مع تقويس خفيف للساقين من أجل ضمان ثبات ورسوخ في الأرض، التأرجح الخفيف جداً للجسد عند الوطء للاحتفاظ بإيقاع المشية؛ كلها ميزات مكتسبة من السير مبكراً على أرض وعرة مليئة بالعقبات. تظهر مشية الريفي أكثر حين يسير بمركوب بلدي، فلأمرٍ ما، لا يدفع الريفي قدمه إلى الأمام بخط مستقيم. هكذا يمشي «يونس». بينما يسير «الهادي الأفريقي» بوصفه ابن مدينة أصيلاً؛ ضيِّق الخطوات، واضعاً قدمه – دائماً – في خط مستقيم.

هناك تفاصيل صغيرة جداً لا يتخلص منها الناس، لأنهم لا ينتبهون إليها. تشي هذه التفاصيل بالكثير عنهم، تخبرك عن نشأتهم، كيف يفكرون، أين ولدوا، ومتى تأخذ حذرك منهم. أعني تفاصيل مثل نوع أقمشة الملابس وألوانها، طريقة قص الشعر، طريقة الجلوس، وأيضاً اللكنة ونوع الكلمات في حال الغضب؛ حين يرتد الواحد إلى جذره بعيداً عن الصورة المشتركة والمصنوعة لسكان المدينة.

جرَّ كل منهما بنبراً عالياً وجلس، يسيل منهما عرق الصيف اللاذع ويُسمع صوت تنفسهما الثقيل. ولأن اليوم إجازة، بدا كل منهما مرتاحاً أكثر في ملبسه؛ «الهادي» بقميصه الأفريقي المصنوع يدوياً بزخرفاته الحارّة، وسروال قطني خفيف، و«يونس» بقميص الكتان الأبيض الخفيف جداً وسروال كبير من قماش خشن واسع المسامات.

شربنا الشاي متمهلين.

المدينة مبنية على الشاي والقهوة، آلاف البائعات يجلسن في أركانها وتحت أشجارها، خلف مواقدهن، في دوام عمل لا ينتهي، يصرفن منه على رجال لا يعملون، وأطفال يدرسون، ويدفعن منه الرشاوى والإتاوات، يوفرن ملاجئ للعابرين ومن لا يعرفون ماذا سيفعلون تالياً، متفاديات بقدر الإمكان هجمات الشرطة والتحرشات الساذجة، بل والعنف أحياناً. تحيا المدينة بالشاي وصانعاته. نحيا نحن لأننا نستطيع الانتظار قربهن.

سنقضي نهارنا هذا متجولين بلا هدف بين الغيتوهات، وسيحاولان العثور على جلسة شراب في نهاية اليوم. أنا أحب الشراب، لكنني لا أحب مذاقه. أتحايل على هذا الأمر بحيل عدة، مخافة أن يُعرف عني أنني لا أحتمل مرارة الخمر. هذا واحد من تناقضاتي المُسليّة، أرتدُّ في هذه الحال إلى مجرد «رجل»، يجب عليه تحمل الكثير لئلا يترك مغمزاً لأحد، ولو على سبيل المزاح. عليك تحمل الخمر الرديئة ومرارتها، عليك تحمل الألم مهما كان مصدره، وعليك ألا تبكي أو تصير عاطفياً لأي سبب. هكذا حكمت الثقافة السائدة، لا فرق بين الريف والمدينة المركَّبة من أرياف متعددة.

حتى لا أكون كاذباً، أعترف بأنني لا أتحمل الألم، لذا لا أسمح لنفسي بالدخول في التجارب. أما الخمر، فأخلطها بسائل آخر، أو أتجرعها من الحلق إلى أن يتخدّر لساني فلا أعرف طعمها. لا آكل قبل الشرب مخافة التقيؤ، وهو عار موروث من قرون خلت، لا يرغب هؤلاء المثقفون بالتخلص منه، فهو تحدٍّ يوهمهم بالقوة.

لست أعرف حتى الآن ما سبب انغماسي في البرامج الروتينية هذه، التي يتخللها الشراب أو تدخين الحشيش، ومتابعة فعاليات المدينة الرتيبة. ربما هو إذعان مني للسائد. هناك فئات، وأنماط لهذه الفئات التي تعج بها المدينة، وتفرض عليك مظهراً وسلوكاً تصنيفيين إن أردت الدخول في إحدى الفئات هذه. بالنسبة إلى الغيتوهات التي نتحرك في حدودها، توجد مشتركات في الأفكار والملبس والاهتمامات، إن خرجت عنها ستجد نفسك تلقائياً محسوباً على فئة أخرى. هي الصيغة التي تواضع عليها الصانعون الأوائل المنعزلون، لتصبح علامةً تسمهم، منذ أواخر الثمانينيات عقب تغير كل شيء. أعني الشعراء المعارضين وكهنة الحرية المهزومين من الكتَّاب والفنانين.

كان «الهادي الأفريقي» يدندن بأغنية لمحمود عبدالعزيز. يجلس مرتاحاً وسعيداً وفي مزاج للعبث. الحرّ الجاف تصاعد مع تقدُّم النهار. ثمة ما يفتنني في نهار الصيف ولا يمكن رسمه بسهولة، إنها درجات الضوء والظلال التي تتسرب إليك وأنت تحت الشجرة، فلا تعرف إن كنت مستظلاً أم تحت الشمس. حينها يبدو كل شيء ساطعاً من داخل فقاعة ظل، بينما تصلك الشمس خابية بعدما كسرتها عشرات الفروع والأوراق. انشغلتُ بتأمل الظلال الضوئية هذه على ملابسي فرحاً وكأني في السابعة من عمري، في النهاية أنا ابن الأشجار الكثيفة والنهر والصيف الصامت.

من خلف الكسل تحدث «يونس» خالطاً بين النقمة والتهكم.

- من ربط الشراب بالليل هو شخص يخاف الشرطة، أو ربما يخاف الناس.

- لماذا نشرب؟ أعني ما الجميل في السكر؟

السبت، 16 أكتوبر 2021

المستذئبون والسفن الفضائية ومخلوقات أخرى


 

أ. السحَّار

حكى "بلل الشيب" الراعي ذو العشرين سنة، القادم من نواحي ود حسونة والمسمى على خليفة ود حسونة، أنه أطلق النار على سحَّار بسلاح بدائي يصنعه الحدادون في فيافي البطانة، يستطيع حمل رصاصة كلاشنكوف واحدة في كل مرة. 

يقول "بلل الشيب" وهو يرتجف، إنه كان سارحاً بالضأن في الخلاء نفسه الذي ظل يسرح فيه منذ بلغ السابعة، لكنه في تلك الليلة أحس بما أحست به بهائمه، بخطر أكبر من البعاشيم1 والقطط البرية. رأى دهمةً فظنها مرفعيناً، صوّب سلاحه ثم أطلقه، فهدأت البهائم.

 في الصباح رأى ما جعل الكوابيس تطارده صاحياً ونائماً. وضعه أهله في عهدة فكي2 سيذهب عنه نوبة هلعه التي استمرت سنةً أو تزيد، عاد بعدها للعمل راعياً، ولكنه يعمل فقط داخل البلدات ويسرح حولها.

ثلاثون عاماً مرت منذ حكى لنا "بلل الشيب" حكايته تلك ذات أصيل، ونحن المكذبين للخوارق نتابع تغيرات وجهه وانسحاب ملامحه والذعر الذي يكتم أنفاسه. بعدها بيومين، أخبرنا الكبار أن نترك الراعي الفتي وشأنه، فإن عاودته الكوابيس سيذهب عنا، وإننا ذكرناه بإلحاحنا ما أنفق سنوات لينساه.

 

2

في منتصف الثمانينيات، حكت جدتي في ونسة نساء أثناء طقس قهوة كنت حاضراً فيه، لظنهن أنني أصغر من أن أفهم؛ أن ابنة جارتها تمرعفت3، بعد أن تزوّجت رجلاً من قبيل يسكن حدود السودان وأفريقيا الوسطى. قالت النساء إنه صنع لها عملاً لتتزوجه وهي من هي حفيدة شيخ الهوي4، وهو من هو. 

عندما عثروا على البنت بعد مغامرات وأهوال في عوالم السحر الغربي؛ وجدوها ترعى غنم زوجها وهي مطوّقة بمئات الحِجْبَات5، نزعوها عنها، وقصوا أظافرها – تماماً مثلما في الأحاجي6 - فعاد إليها وعيها وعادت ذاكرتها وبدت كمن استيقظ من نوم طويل.

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

عن أصدقاء باتمان وأعدائه وما هو قبل ذلك


هل بدأ الأمر في مطلع التسعينيات، أم كان قبله بسنوات قليلة؟ لا يمكنني الجزم، فذاكرة الطفل مخاتلة، أليس كذلك؟ لكن ما أستطيع تأكيده أن الأمر بدأ بمسلسل «الكابتن ماجد»، حين كنت أشجعه مثل أي طفل طبيعي، ضد منافسه «بسام»، صارم القسمات، القوي، الذي يكاد يكون «متنمراً» تقليدياً يكرهه الأطفال، أو هكذا أريد لهم.

كان هذا قبل أن يصدمني أحدهم بالاحتمالات الأخرى للرؤية، بدءاً من «كابتن ماجد» وحتى «باتمان»، مروراً بكل شيء بينهما يمر على الطفل حتى يبلغ الأربعين.

 

مقدمة ليست ضرورية.. لكنها لطيفة

يمت لي «حافظ» بصلةٍ بعيدة كما هو متوقع في بلدة صغيرة يكاد كل من يعيش فيها يكون ابن عم لآخرين. كان يكبرنا في السن - ليس كثيراً – ويكبرنا في الوعي كثيراً، بنزعة اشتراكية راديكالية اشتهر بها وسط أقرانه، وانحياز تلقائي للعدالة، يتناقض والأيديولوجيا المحلية لمجتمع بُني على قرون من التسلط، وتلك حكاية أخرى.

رآنا «حافظ» منفعلين أمام شاشة التلفاز نشجع بطلنا «ماجد» ونحن نكاد نرفع أقدامنا خلف رؤوسنا في جلستنا القلقة لنسدد معه «الضربة السريعة» أو «الضربة الساحقة»، لا نرمش محاولين اختزان ما نستطيع من المشاهد لنطبقها لاحقاً في هستيريا فاقت تلك التي أصابتنا قبلها، حين حرسنا ورش الحدادة ونبشنا مخلفات الحديد لصنع سيوف تشبه السيف المعقوف لـ «رماح» في مسلسل «غضب الصحراء» مع ما صاحب ذلك من جروح ورضوض حتى انقضت الموجة.

جلس «حافظ» بيننا وهو يشجع بسّاماً بصراحة رأيناها وقاحة، وهو ما فجر نقاشاً بيننا عقب انتهاء الحلقة، فكيف لا يشجع البطل، الحريف، اللطيف، المنتصر دائماً، مرتدي الأبيض، والأبيض هو نفسه، ويستبدله ببسام القوي، الغاضب، الخشن، ذي الشخصية القوية، الأسود؟ (لأكون صادقاً مسألة اللون لاحظتها لوحدي لاحقاً ودفعتني للبحث عن دلالات اللون في الكوميكس والرسوم المتحركة)، إنه الشرير يا رجل! شرير نموذجي، ألا ترى؟! إلا أن ما صبّه على تساؤلاتنا المستنكرة يومها، على بساطته، علمني كيف أنظر إلى خلفية كل شيء أولاً، أحللها، ولا أكتفي بالاقتراح المباشر المعروض أمامي. لقد غيّر الطريقة التي أنظر بها إلى الحياة، وأيضاً أفسد عليّ متعة بعض القصص المصورة والأفلام في متبقي أيامي.

قال إن بساماً ولد مكافح، يتيم من الطبقات العاملة الفقيرة، يكدح طول اليوم ليرعى أمه وأخته، وفوق هذا يجد الوقت والطاقة والرغبة ليلعب وينافس الكابتن ماجد، المدلل والمرفه، ابن الطبقة البورجوازية حدّ أن لديه مدرباً برازيلياً خاصاً، والغني حتى إنه لا يشغله شاغل عن التدرب ومطاردة عشقه – كرة القدم – ببطن ممتلئة دائماً. كان «حافظ» منحازاً إلى بسام فهو يشبهنا كما قال، ومعادياً لماجد فهو ليس نحن، ثم لاحقاً في مسلسلات أخرى ظل وفياً لوعيه الطبقي ذاك، فشجع «قط البكتيريا» ضد «رغيف العجيب»، وشجع كل شرير صورته الدراما عدواً لأصحاب الأعمال ومالكي المصانع والأرستقراطيين.

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

زوايا مختلفة لنظرةٍ واحدة.. عن أسئلة التعليم القديمة الحديثة




قبل خمسة وعشرين عاماً، وقفتُ أمام معلِّم الرياضيات، أتلقى توبيخاً مشوباً بالازدراء والتهكُّم. كان السبب أنني استفسرت عن ماهية النسبة الرياضية (باي π)، ومن أين أتت. كنت أنظر إلى وجه المعلِّم الذي كان يحسّ بالإهانة، وقد اعترته مسحة غضب يحاول مداراتها، وهو يحاول جعلي أحس بالغباء وبالذنب لأن لا أحد من زملائي الذين يتطلعون إليّ بنظرات مشفقة؛ قد سأل مثل هذا السؤال، ما يجعل سؤالي "غير مفيد" على حد تعبيره، فالمطلوب مني فقط "حفظ" أن قيمة باي تساوي (3.14). كان واضحاً أمامي ببساطة أن المعلم لم يكن يعرف من أين أتت هذه الـ (3.14) التي يطالبنا باستخدامها عند حساب مساحة الدائرة.
أعرف الآن أن في ذلك اليوم تآكلت ثقتي في المعلمين والمعلومات التي تصدر منهم، وهو تأثير بلغ ذروته بعد سنتين من تلك الحادثة، عندما تركتُ المدرسة لأنها فقط أصبحت لا تروق لي. بالطبع أُجبرت على العودة إلى الدراسة بعدها، لكن لم أعد آخذ العملية التعليمية مأخذ الجد مثلما كنت أفعل. ولأن أبي، والمعلمين، وزملائي، كانوا يراقبون بكثير من خيبة الأمل انحدار مستواي الدراسي عاماً بعد عام، من المراكز الأولى التي كنت أحتلها، حتى صرت ضمن زمرة الوسط، لذا عندما امتلكت أخيراً القدرة على الإفلات من نظام التعليم هذا، لأترك الدراسة في الجامعة قبل أشهر معدودات على نهاية السنة الأخيرة؛ لم تبد عليهم الدهشة أو يحيطوني بالإشفاق مثلما كان ردّ فعلهم على محاولتي ترك المدرسة في المرة السابقة، بل بدا الأمر طبيعياً، فما عاد أيٌّ منهم ينتظر مني شيئاً على ما يبدو.

الجمعة، 18 أبريل 2014

وداعاً "غابيتو".. وداعاً أيها الساحر



دائماً هناك قصة عن اللقاء الأول لكلٍّ منَّا بماركيز -يكون غالباً على صفحات "مائة عام من العزلة"، أو "الحب في زمن الكوليرا"-  ذلك اللقاء المذهل، المتسبِّب للكثيرين في دهشة قد تستمر أعواماً، وقد يلطم البعض بكوابيس لذيذة. فأن يقتحم عليك ماركيز صمت حياتك في سن الثالثة عشرة – مثلاً- مثلما حدث معي؛ لهو أمر كاف ليزلزل مسلماتك عن الحياة والموت والمنطق، يبذر فيك الريبة فلا تميِّز ما هو حقيقي وما هو ليس كذلك، بل قد يثير رياح مراكبك التي لم تبحر حتى ذلك الوقت في الأنهر الساكنة لحياة الريف المنسي في دولة تقع في قلب أفريقيا. كيف تسلَّل إلى هناك؟ أي قوة تجعل ماركيز يصل إلى هذه المجاهل، يصل إليك، فتعرف أنه أفضل ما أنتجته كولومبيا، حتى قبل أن تعرف ما كولومبيا؟
أحبُّ ماركيز، مثل أكثر أبناء جيلي المفتقر إلى الحياة والحب. أحب ماركيز الذي جاء ليشبعنا ويُغْنِي فقرَنا ذاك بحكاياته، بعالمه المكوّن من عصير الرغبات والاحتمالات والخسارات الصغيرة.
تعرف بعد سنوات أن ماركيز غيَّرك، فترى النهر كالأنهر في قصصه، وحقول قصب السكر تصير حقول موز رطبة، والغابة الصغيرة الشوكيَّة تغدو غابة استوائية مطيرة، وترى الناس الواجمين في بلدتك المُهمَلَة يتدفقون سحراً، كما لو أنَّك تجول بين دفتي رواية، وتصيخ لماركيز يرصّ التفاصيل ليبني حلماً شاسعاً ناريَّ الجمال.
وداعاً الآن، غابرييل غارسيا ماركيز، سنهشُّ النسيان عن اسمك؛ سنهشُّ الموت عن دهشتنا الأولى بك، ولن تموت.

السبت، 28 ديسمبر 2013

سطور قديمة


في سيرة الجبهة الديمقراطية.. 
والحلاوي الذي علمني صناعة "المولوتوف"


(1)
كان الشتاء. والجنوبي* ذو غرابةٍ لطيفة لمن يراه أول مرة ببلاط الأسمنت الذي يمتد من بوابته الشمالية جنوباً حتى نهاية الـ(CR's)**، ليغدو أرضية للنشاط الذي تظلله شجيرات تحده من الشرق، ومن الغرب تظلله الـ(CR's)، قبل أن ينمحق إلى ممر نحيل يستمر إلى ما بعد السياج حتى القاعة الكبرى؛ (القاعة 1)؛ وأخواتها، تحفه على الجانبين شتلات ستنمو، ومن خلفها التراب.. الكثير من التراب. وتمتد بلاطات الأسمنت غرباً من البوابة حتى مباني الإدارة ثم المسرح الذي تقول إحدى أساطيره – أيامها- إن آخر من غنى عليه كان أبوعركي (يا دبشليم الحق صوت الله)، ذلك –كما قيل- كان قبل تجميد النشاط الثقافي.
كان الشتاء، وعدد قليل من الطلاب، ومساحة شاسعة تكاد تكون عارية من الشجر. قبلها بأسابيع، كنت أجلس في سنتر جامعة الخرطوم الظليل والزميل (ج.هـ) يحملني حملاً على استئناف النشاط ضمن الجبهة الديمقراطية، فالأمور – كما قال- تختلف هنا عن الثانويات ومشاكلها وتدافعاتها.
واقفاً في منتصف النشاط أنظر إلى كل الأماكن ولا أعرف إلى أيها أتجه، تطن في رأسي سنوات من التوقعات التي اختفت الآن فجأة، صورة نمطية عن الجامعة لا علاقة لها بما أنظر إليه، رغبات تتدافع فتضيع في بعضها. ثمة بعض الطلاب العبوسين تقبض أيديهم على الكثير من الأوراق وأحياناً الكتب، ويتحركون بسرعة، المكان خالٍ تقريباً وبارد والساعة لم تتجاوز العاشرة صباحاً. كنت أفكر: كيف سأعثر على أعضاء الجبهة الديمقراطية؟ لا يمكنني –بالطبع- أن أوقف أياً كان وأسأله عنهم، فقد كانت لا تزال أياماً مرعبة.
بعد أسبوعين عدت. مع دخولي كان ثمة من يتحلّقون حول متحدث ما، في ساحة النشاط. زاد عدد الطلاب عن آخر مرة.. يبدو أن الدراسة بدأت أو ستبدأ. كان المتحدث من جماعة أنصار السنة، لم أركز كثيراً في ما يقول، أخذت أتفرس في الوجوه؛ الواقفين والقاعدين، أمام المتحدث كرسي حوله زجاجات مياه غازية مملوءة بالماء. أثار اهتمامي أحدهم يجلس على مشطي قدميه في الصف الأول، كان مطرقاً يستمع، كثيف الشعر جدا ويفتل خصلة من ذلك الخنفس. ما إن انتهى المتحدث حتى رفع الشاب ذو الخنفس يده طالباً فرصة منحت له ليدخل ويتحدث بلهجة هادئة ولكن كلامه لم يكن هادئاً. كان يدافع عن عضوية الجبهة الديمقراطية بتحدٍ.. لم أهتم بعدها بمحتوى حديثه؛ فقد عثرت على من أبتغي.

(2)
كان (و.م) يتجه جنوباً بعد أن انتهى ركن النقاش، خطواته واسعة وثابتة. لحقت به قرب شجيرة مانجو ستنمو في ما بعد وأوقفته. استمع لي بما بدا لي شيئاً من الحيرة وأنا أخبره بكلمات مقتضبة ومتوترة بأنني طالب جديد وأبحث عن (الزملاء). سرنا في ذات الاتجاه – الجنوب الغربي- وهو يؤانسني بلطف كمن يعرفني، حتى وصلنا إلى مساحة بين مبنيين تظللها شجرة لبخ عملاقة، ويحدها السور الغربي للجامعة؛ كانت تلك (موسكو).
تلفت (و.م) في عدة جهات، لم يبد عليه أنه وجد من يبحث عنه. ثمة حجارة مرصوصة لتكون مقاعد حول (الخالات) اللائي ينصبن أمامهن مواقدهن فوقها كفتيرات الشاي تحتها الجمر. ليس هناك الكثير من الرواد.. المكان شبه خال.
تحركنا باتجاه الشرق، في الحدود البعيدة للجنوبي يبدو مبنيان عملاقان جيدا البناء، جنوبهما مبنى أقل جودة ثم يليه مبنى يشبهه لكنه مخرّب تماماً؛ بلا أبواب وبلا نوافذ (كان داخلية طلاب قبل تحويله إلى مبنى إداري في ما بعد). عندما تعبر من كافتيريا الوسط شرقاً تواجهك في المسافة بين المبنى المهدم والكافتيريا طائرتان؛ هيلكوبتر وأنتينوف، على مسافة منهما جنوباً بيوت الأساتذة، وعلى مسافة أكبر شمالاً المسجد.
توقف (و.م) عندما شاهد أحدهم يسير باتجاهنا، ناداه وهو يقترب باسم (مناضل).
بينما كان (و.م) يقص حكايتي القصيرة معه؛ تمعنت سريعاً في مناضل. كان يرتدي (كاب) على رأسه، قميصاً طويل الكمين وواسعا بعض الشيء، البنطلون كذلك واسع بوضوح، ويرتدي حذاء عسكرياً ثقيلاً (بوت)، وعلى كتفه حقيبة ظهر. لهجته مع (و.م) بدت لي على شيء من الحدة، واثق، وعجول، بعينين واسعتين جذلتين بهما احمرار. تركنا (و.م) وذهب. أخذني مناضل من يدي دون مقدمات وهو يسألني عن بلدتي، مدرستي الثانوية، أسماء من أعرفهم من الزملاء وفي أي الجامعات هم ... الخ. في النهاية ونحن نقترب من البوابة الشمالية قال لي بلهجة فيها الكثير من الود: "أنا مناضل الطيب.. نتلاقى بكرة في موسكو". سألته أين هي موسكو فأشار إلى حيث كنا أنا و(و.م) قبلاً، وذهب.

(3)
انتظرت (مناضل) في موسكو وحيداً أتناول أكواب القهوة وأتململ على الحجارة المصقولة من كثرة الجلوس عليها. كان واضحاً أنني غريب، تخبرني بذلك النظرات المتمعنة والمتسائلة التي تمر عليّ بسرعة قبل أن تشيح عني. موسكو كانت – كما لاحظت وقتها – مرتبة ومقسمة جيداً، كلٌّ يبدو وكأنه يعرف تماماً مكانه تحت ظل الشجرة البارد ذلك الصباح. بعد سنوات، سيندلع النقاش عن جدوى تجمعنا في (غيتو) خاص بنا وضرر ذلك على تأثيرنا المفترض في المحيط، وكيف أننا صرنا نعزل أنفسنا عن المجال الحيوي لنا. لكن في ذلك الصباح البارد الرمادي، لم يكن يعبر خاطري وأنا في انتظار مناضل؛ غير أنني حيث ينبغي أن أكون.
أنقذني من العزلة حضور (و.م) رفقة (ز)، جلسا وخلفهما جدار ورشة كهرباء. رآني (و.م) فابتسم وهو يشير إليّ بالانضمام إليهما. تمعنت (ز) فيّ باسمة وهو يعطيها نبذة قصيرة عني بطريقة ساخرة، لاحظت للمرة الأولى أنه يبتسم بركن فمه. خلال حديثنا حاولت فهم البيئة السياسية وتوازناتها ووضع الجبهة الديمقراطية ومدى تأثيرها ومدى قوة (الكيزان). كنت مندفعاً في الأسئلة ومتعجلاً، ولم يعجبني الوضع العام. كنا مصابين في الثانوي بما يشبه القابلية لـ (الاستعلاء بالإيمان) لدى الإسلاميين؛ فنحن على استعداد تام لقبول الإيمان بأننا – الجبهة الديمقراطية- الأعلون فقط، الأفضل، الأكثر فهماً، الأحق بالحيز كله... الخ، وهي جرثومة كان التخلص منها فور دخول الجامعة مستحيلاً تقريباً عليّ، بل استمرت معي حتى الحضور الهائل للطيب شريف في تفاصيلي. في ما بعد؛ سنشهد كيف أن هذه الجرثومة تسببت لدى الكثيرين ممن لم يستطيعوا التخلص منها؛ تسببت بأمراض طالنا طرف سوطها بعد سنوات.
عندما ظهر مناضل، كانت موسكو صارت ضاجّة بالكثيرين. كان يرتدي ذات البوت، ذات البنطلون الواسع، والكاب الكحلي الباهت، لكن لم تكن معه الحقيبة. لم يبد عليه الإرهاق وهو يتحدث ضاحكاً إلى (و.م) و(ز) قبل أن نتحرك شرقاً إلى ظلٍّ رطب بين كافتيريا الوسط ومبنى عرفت في ما بعد أنه ورشة (مجاري). كان هناك بعض (الحناكيش) كما كانوا يسمون وقتها؛ المتسربين من معقلهم (كافتيريا الوسط)، يضحكون بأصوات عالية ويتحركون بنشاط.
كان مناضل مرتباً ويعرف جيداً ما يريد وهو يطالبني بكتابة طلب الانضمام. كتبت أنني ذو مهارة في الخط الحر تحديداً والرقعة إلى حد ما. كان الخط الحر ذو قدسية لدينا في بلدتنا اكتسبها من ليالي المطاردات الطويلة لعشرات الزملاء، ومن محمولاته التي عبرت به إلى مئات الأعين طابعةً به آلاف الأبيات والشعارات في جدران الذاكرة، ومن كونه – وقتها- الجين المشترك الذي يجمعك بآلاف مثلك يؤمنون بما تؤمن ويكتبون بذات الطريقة التي بها تكتب، لذا كانت علاقتي معه غريبة بعض الشيء وذاك موضوع آخر.
في انتظار البت في طلبي، أخذت أدخل إلى كيان الجبهة بسرعة، كنت أعرف (و.م) ومناضل سلفاً، عرفت عوض الجبل بعدهما؛ ودودٌ ويبعث الراحة في النفس، تحس بأنه صديقك منذ سنوات. حين ازدحمت القاعات وفراغات الجنوبي بالطلاب بدأ النشاط السياسي ينتظم. بدأت انتظامي في الدراسة بين قاعات الجنوبي وورشة الكهرباء العتيدة في الجناح الغربي قبل ترحيلها بعد ذلك إلى الجنوبي، كنا نستقل إلى الغربي دفارات تتحرك من السوق الشعبي الخرطوم في طريقها إلى الشعبي أم درمان. كان الذهاب إلى هناك لدى الكثير من الطلاب الجدد أمراً مزعجاً يرهقهم، إذ نكون مضطرين للعودة إلى الجنوبي للحاق بمحاضرة ما. في إحدى العودات هذه، كان ثمة ركن نقاش ساخن هنا؛ في الجنوبي، لم أشهد بدايته. في حلقة محكمة الإغلاق وجدت وجوه سكّان موسكو التي صارت مألوفة، ووجوهاً أخرى ستصير مألوفة وأليفة، الكثير من الزملاء، وفي مركز الدائرة كان الكادر الخطابي يتحدث، يتصبب منه العرق، أصلع ذو نظارات خلفها عينان شديدتا الذكاء، كان ذلك بدر الدين عوض. بعدها بسنوات سيتأكد انطباعي عنه أكثر وأنا أستمع لنقاشاته وحواراته، ثم وأنا أناقشه وأحاوره بأفقي الفتي وقتها.. كان ذكياً جداً بالفعل.
لم أرَ مناضل بعدها لفترات، كان كثير الغياب عن الجنوبي، يظهر أحياناً ظهورات خاطفة وغامضة، يتحرك بسرعة متنقلاً بين عدد من الأشخاص وسرعان ما يختفي. أحسست أن الوقت طال في انتظار البت في طلبي. عندما أكثرت من الشكوى لمناضل أصبح يأخذني معه في مشاوير إلى الغربي والجامعة الأهلية، شمبات، منازل زملاء كثيرة موزعة في أحياء الخرطوم.. كان مرحباً به دائماً، ودوداً وضاحكاً، وجذلاً حين يتعلق الأمر بالجبهة الديمقراطية.
في الغربي – التلة، عرفت (ح.خ)، كنت أقدر كلية الفنون، كلية الآداب، معهد الموسيقى والمسرح، وأقدر طلابها، وكان (ح.خ) يدرس في معهد الموسيقى (كلية الموسيقى والدراما في ما بعد)، ذهبت معه بعدها إلى الأهلية ذات صيف.
كانت نهايات التسعينيات، كل شيء ذو رائحة خانقة، أن تكون معارضاً لهي مجازفة لذيذة، وأن تكون معارضاً ويسارياً لهي مجازفة وأكثر من ذلك.

(4)
1999 و2000م كانا أكثر الأعوام توتراً وضغطاً، قبل أن تبدأ الجبهة التنفس مجدداً بعد بداية ضخ الدماء الجديدة في عروقها بعد أحداث أبريل 2000 عندما بدأ تكثيف البناء (التجنيد)، وإن كان أكثر الداخلين الجدد من زملاء الجبهة الديمقراطية بالمدارس الثانوية. شهد العام 1999 أحداثا كبيرة ومؤثرة: الانتخابات، تأمين ذكرى محمد عبد السلام بجامعة الخرطوم، ثم إدخال جهاز الساوند في احتفالات الجبهة بذكرى 21 أكتوبر، وقضية فصل الزميلة نسرين.
كانت الانتخابات وأحداثها بعيدة عني نسبياً وأنا داخل مركز الاقتراع بقسم النفط، لا أتحرك تقريباً وبجانبي مندوب الكيزان ومندوب جماعة أنصار السنة، ويواجهنا مدير المركز ذو الابتسامة القميئة وحوله عشرات من رجال الشرطة ضاقت بهم الحجرة الضيقة أصلاً. في الخارج وحين كنت أتحرك لبدء مهمتي هذه خلّفت عاطف أنيس ينقر على أوتار عوده ويتنحنح استعداداً لبدء أغنية، بعد أن سكت الطيب شريف الذي ظل لساعات يقرأ أشعار حميد في ما يشبه منتدىً الغرض منه جمع الطلاب وإقناعهم بعدم التصويت. انتهى توتر الانتخابات عند الساعة الخامسة عندما أخلينا الجامعة. كان المصوتون في المركز الذي كنت موجوداً فيه –إن لم تخني الذاكرة- 13 طالباً فقط.
في صيف ذات العام، 1999، تجمعنا في الجنوبي صباحاً قبل أن نتسرّب إلى الغربي حتى اكتمل تجمعنا في تلك الظهيرة ثم تحركنا باتجاه السوق العربي. الكثيرون وأنا منهم اعتقدنا أننا بصدد مظاهرة ما، لكن بينما كانت التاتشرات تتحاوم حول ذلك الطابور الطويل جداً المتحرك مخترقاً المباني والناس باتجاه الشرق؛ بدأت المعلومات تنتشر وسط السائرين، كنا في طريقنا إلى جامعة الخرطوم، ثمة احتفال هناك علينا تأمينه، وهو الأمر الذي فسّر الاهتمام الكثيف بالتسليح الشخصي لكل منا، إذ أن كل واحد منا تعرض للسؤال ثلاث مرات على الأقل يومها عن وضع التسليح الشخصي الخاص به.
في بداية الطابور كان يسير الشفيع الطيب ومعه بعض الزملاء وبينهم وبين البقية مسافة، كانوا يتناقشون بصوت خفيض غير آبهين لعربات الأمن التي ترافقنا، بعد قليل صمتوا فساد الصمت المسيرة التي أثارت دهشة من قابلناهم من المواطنين في الطريق.
عند وصولنا، كان ثمة (دفار) يحمل كراسي للاحتفال يقف أمام بوابة النشاط بجامعة الخرطوم وبعضهم يحاول إقناع الحرس الجامعي بالسماح بدخول المقاعد. اتجه بعضنا بلا كلام نحو البوابة وانتزعوها من مكانها وألقوها على الأرض ودخلنا وسط النظرات المتسائلة والمدهوشة لأفراد الحرس الجامعي. على امتداد جدول في الحدود الشمالية للميدان الغربي حططنا الرحال أخيراً، مميزين –كما قيل لنا بعدها- بعبوسنا وتركيزنا العالي على ما نفعله وشيء من العدائية التي قيل إنها تظهر في حركاتنا وسكناتنا، وهي الصفات التي صنعت –إن حقاً أو خيالاً- الصورة النمطية للزميل من جامعة السودان – الجنوبي تخصيصا- في تلك الأيام وما بعدها.
لم تترك لنا مهام التأمين فرصة لحضور الاحتفال. لكن في نهاية اليوم، مساء، انتهى بي المطاف مع من سأرافقهم لسنوات بعد ذلك؛ حاتم، عمر. تحركنا على الأقدام من سنتر جامعة الخرطوم إلى الجنوبي حيث كانا يسكنان داخلية (البركل). كنت أسكن داخلية تحمل اسم شهيد ما، ملحقة بمسجد بالقرب من لفة جوبا بأركويت، رفقة بعض طلاب الجنوبي (جوكس، المؤذن فضل، الهندي حاتم، مصطفى البرلوم، نصر الدين ميكانيكا)، والكثير من طلاب جامعة القرآن الكريم وبعض اليساريين الأفارقة الذين يدرسون في جامعة أفريقيا العالمية. في طريقنا الذي قطعناه بالونسة والتعرف أكثر على بعضنا، توقفنا للعشاء ثم واصلنا، وبالقرب من (نمرة 2) حاولت عربة (بوكس) اعتراض طريقنا لكننا أفلتنا، كانت تجربة مواجهة الخطر المشترك ربما سبباً في تقوية الروابط بيننا. عرضوا عليَّ التحول للسكن معهم في غرفتهم فوافقت. كنت قد حاولت السكن في البركل كونها تقع داخل حدود الكلية، إلا أنها كانت مخصصة لسكن الخريجين كما قيل لي على الرغم من عدم التزام أحد بهذا التخصيص. قابلت –بناء على نصيحة محمد تاج السر – محي الدين النيجيري الذي يبدو أنه كان يرعب المشرف، إذ أخذني معه ودخلنا إلى مشرف الداخلية الذي بذل الكثير من الاعتذارات وأقسم جهد أيمانه بألا طريقة الآن لسكني، وكحل وسط وضعني في داخلية أركويت سالفة الذكر إلى حين توافر فرصة في البركل كما قال.
بعد يومين من احتفال جامعة الخرطوم كنت قد دخلت عالم الغرفة واحد في اتنين (1×2)، لأقابل بالإضافة إلى حاتم وعمر؛ معتز، بدر الدين، دولي، طارق (صديق)، الطيب ضو البيت وهشام (صديقان). وفي ما بعد زاد عددنا في الغرفة.
كانت الجبهة قد بدأت في تنسم العافية للتو بعد أن كان المجال تحت الصيانة بعد ضربة 97، التي حكى عنها كيريا باقتضاب أثناء مسيرنا معاً عابرين خور الامتداد في طريقنا إلى تناول العشاء بقوله: (كل زول لقى اسمو.. بعد داك خلاس) وصمت. كجزء من هذه العافية كان قرار إدخال جهاز ساوند إلى الجنوبي في احتفالات الجبهة بثورة 21 أكتوبر في تحدٍّ للوائح الجامعة. كنا متوترين للغاية عند نصب السماعات، ثم بعد بداية الاحتفال بقليل تم فصل الكهرباء فواصلنا الاحتفال من غير سماعات ساوند، لكن كان الأثر الذي تركه إدخالنا للساوند إلى الجنوبي أثراً مدوياً بالنسبة لنا نحن وبالنسبة إلى الطلاب وبقية التنظيمات، وبدأ منذها الإحساس بأننا ننمو ونزداد قوة، وهو الأمر الذي حفزنا أكثر على إدخال ساوند ومولد كهربائي بعد ستة أشهر في احتفال أبريل الدامي.
قبل الاحتفال بأكتوبر، ظهر مناضل أحد ظهوراته المفاجئة ذات يوم في الداخلية، لعب الورق، ضحك، وما كادت تظلم حتى اختفى بعد أن طلب مني ملاقاته في منزل (ناس زياد) في الديم بالقرب من الكلية. قبلها كنت أضطلع بمهام تأمينية بسيطة أكثرها في الغربي بوصفه بيئة لا تعرف عني الكثير، وذلك قبل أن أجد نفسي في الهيئة الثقافية مع شخصيات (مرعبة)، كان الاجتماع الأول للهيئة الثقافية بمنزل أمجد العطا، كان هناك بالإضافة إليه وإليّ؛ شبشة، صداح، مصعب، وطارق السيد.
 في الصباح وجدت مناضل في منزل زياد، تناولنا الإفطار وخرجنا إلى السوق الشعبي القريب. أمام بائع زجاجات البيرة الفارغة أخذ مناضل يعلمني كيف أختار الزجاجة المناسبة، كان واضحاً ومقتضباً في الشرح. بعد أن أخذنا الزجاجات (تأمينياً أخبرنا البائع أننا تجار جلسرين لذا نحتاج الزجاج) اتجهنا إلى بائع أغطية الفلين، اختبر مناضل كل غطاء على حدة بوضعه في فمه والنفخ فيه. كنا أخذنا ما نحتاجه من (كيماويات) سلفاً من الديم، لذا أخذنا أشياءنا وركبنا إلى الكلاكلة حيث اشترينا الكثير من (السلوتيب) و(صباع أمير) والورق الأبيض و(أشياء أخرى(.
في منزل خالٍ بدأنا التركيب، أنا وعدد من الزملاء الصموتين الذين أقابلهم لأول مرة، كانوا مهرة، وكان مناضل يشرح لي كل خطوة بدقة، ويعيد الشرح النظري وأنا أغسل الزجاجات جيداً وأضعها لتجف، ثم أخذ يشرح عملياً بعدها وهو يوضح نسب خلط المكونات بدقة ليكون عندنا (مولوتوف كيميائي)، كان يجيد ما يفعله تماماً بلا أدنى ريبة، ويستمتع به.
في نهاية اليوم أخذنا ما صنعناه وذهبنا إلى منزل زميل في (جبرة)، وكانت تلك زيارتي الأولى إلى جبرة وستتلوها زيارات في أوضاع ليست ودية كهذه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الجنوبي: الجناح الجنوبي لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، يضم كلية الهندسة بأقسامها المختلفة وورشها، وكلية العلوم الرياضية بميادينها، وداخليات الطلاب.
** الـ (CR's) أو (السي آرات) كما نسميها، اختصار لـ (Class Rooms) وهي حجرات دراسة صغيرة يضمها مبنى من المباني القديمة في الكلية.

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

النُّورُ نورٌ.. كذلك!



والنور حين يرتفع صوته بعد انخفاضة منغَّمة؛ "اطرى يااااااااااا"، ثم في رجاء يشبه ذاك الذي بذله حين مناغاته القمرة "يا القمرة ويا القمرة اقلبي السنسنة الحمراء"؛ ثم في ما يشبهه؛ ينزل بك دائخاً إلى: "اطرى يا عصفور حبايبك"؛ حينها تكون في ذروة الالتذاذ وأنت تقضم السخونة الاستوائية لفاكهة الغناء المنثال من خلايا صوت النور الجيلاني.
حين يغني النور؛ ثمة ما يبدأ الاحتفال باكراً في خلايا البهجة، ثمة ما يجعل اللسان يتذوق كذلك نكهة البساطة الحاذقة، السهولة التي تقف لها "شعرة الجلد" رهبة، وتنحني لها جهات الجسد إذ تبتلّ بفورانات الإيقاع الأفريقي، المندولين بغمزاته اللاهبة، الطنين المولود الآن من ضجة جينات الآلات النحاسية وهي تلتمّ في الهجين الهائل ذاك الذي يزنه صوت النور مائياً  يكاد يُشرب قبل خلقه: "مالو لو صارحت ماااالك".
وللنور نوره؛ هزات رأسه، ضفائره الـ(بوب)، طاقيته التي أطلقها صرعةً صاحبت الألبوم-العنقاء (خواطر فيل). للنور كل ذلك ويدان تجيدان الرقص على موسيقى المعنى، تشرحان كيف أن الرحلة "مكتوبة عليّ وبمشيها"، وكيف أن المحبوب "صرف النظر عني"، بل تشرح بذكاء الأصابع معنى: "من جوة اتقطعت حتة حتة".
للنور أنوار يحبسها خلف نظارته الشمسية في ليل أستديوهات التسجيل؛ ليطلقها –الأنوار- زخّة تلو زخّة، لوناً بمذاقات حارّة تجعل جلد الصحراء أضيق من سم الخياط. للنور مكان يعرفه من رأى إغماضته رافعاً رأسه إلى منتهاه فيتمرد الحصان على اختبائه في الصخرة، وتتفتت الألوان من حيادها إلى فوضى بروائح غامضة لمطر غامض.
والنور نور كذلك. إذ يغني تعشوشب الظلال. إذ يغني تتدلى ابتسامة التاريخ على جغرافيا حارّة يخيطها النور طي كلمات هي أكثر من كلمات؛ صوب جوبا، هجين الأولمب وهضاب الحبشة، رقصة الكدرو على صوت تصفيق أجنحة الفراش الحائم حوله؛ حول النور؛ والنور نور كذلك.
النور فريدٌ في تمام وحشية التفرُّد. والنور مفتاحُ ما ينمِّل تحت الجلد في توقه إلى طبل المكان، أمباية الوقت، نقرات قدمٍ واليدان على امتدادهما جناحان للنور والذين معه خلف ستار الخيال.
والنور نار كذلك. والنور نور.

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...