الاثنين، 8 أبريل 2024

المتبوع





11

الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ما تراءى لي عدة مرات خلف السهوم المبهم بعينيه في كل صباح يعقب أحاديث الليل. كنا على مشارف الامتحانات الصيفية، نبعد عدة أيام عن موعد الأرق القمري وقراراته الطائشة، لكن شيئًا كابيًا رمّد حضوره، وحطّ على وجهه لأيام، حتى صار سواده النضير مدبوغًا برعب خفي يفلت أحيانًا منه فتفضحه نظراته لثوان قبل أن يستعيد تحكمه في نفسه. أخبرني بعد أن هبّ يلملم أشياءه كمن لن يعود، بأنه في حاجة شديدة إلى مقابلة «الفكي»، فقد استدعاه.

ظلّ «الفكي» موضوعًا دائمًا لكراهية «عامر العربي» وخوفه منه واحترامه له في الوقت نفسه. كان يعرف أنه سيعود إليه مرغمًا في يوم ما، لكنه ظل يماطل نفسه متمنيًا أن يحدث ما يعفيه من ذلك الإلزام القدري الذي ربط حياتيهما معًا منذ طفولته، كأن يموت أحدهما فينفك العهد الدموي بينهما ولا يعود مضطرًا للرجوع إليه مرة أخرى. لكن «الفكي» ظل صامدًا، حيًا، وخالدًا في معزله نفسه وسط فلاة العشب الصامتة التي حمله إليها أبوه يائسًا بعد أن غلب خوفه عليه خوفه من الرجل الذي شفاه طفلًا، وداوى أباه، وها هو يسلمه طفله مبتلعًا ارتياعه مما سوف يجده ويراه.

أصابت «عامر العربي» اللعنة عينها التي لحقت أباه وجده، لكنها أدركته في سن صغيرة جدًا، ربما عشر سنوات، حين كان سارحًا ببعض الشياه في حمى الفريق[1]، تهيئةً له لما سيكون مسار حياته وحياة أقرانه التي سترتبط بالماشية من ماعز وغنم وإبل إلى نهاية حياته.

قاد شياهه عائدًا بها إلى مرقدها مع الغروب، وحين اقترب من الفريق ضرب شهاب قطيعه الصغير، وألقى به أمتارًا إلى الوراء. قال لي إنه حين تمالك نفسه ونهض إلى مكان سقوطه بين أشلاء المعيز التي لم تنج منهن واحدة، وجده يفحّ وسط الحفرة. حجر أحمر مثقب في حجم قبضة يده الصغيرة، لفحت حرارته وجهه وهو يقترب بفضول الأطفال منه، خرج منه دخان كثيف متماسك كأنه مرسوم بقلم على الهواء، كان له صوت أقرب إلى الصرير حين يصعد ويهبط أو يتجه يسارًا ثم يمينًا. تجول الدخان حوله قليلًا في رقصة بطيئة، ثم بغتةً هجم عليه ودخل في أنفه الذي يسيل دمًا جراء انقذافه بفعل اصطدام الشهاب بالأرض. يقول «عامر العربي» إنه في تلك اللحظة التي لن ينساها أبدًا أحس بأن الدخان هو الذي استنشقه وليس العكس.

أفاق على هزّات يدي أمه، ووجد الفريق كله متحلقًا حوله. لقد رأوا الشهاب فأتوا يحملون الفوانيس ويبحثون عن مكان سقوطه. لف أبوه الحجر المثقب في قماش وحمله واجمًا، فيما أخذته أمه إلى امرأة معالجة لم تفعل أكثر من تنظيف أنفه وأذنيه من الدم، ثم تفحصته بالضغط على نقاط بعينها في رأسه وعنقه، واختبرت نظره بمتابعة حركة عينيه ليدها وهي تحرك مسبحتها يمينا ويسارًا ثم إلى الأعلى والأسفل، صفقت قرب أذنيه وجعلته يشم بعض «الطايوق»[2] العفن، ويمضغ حبات من القرنفل اللاسع. أرسلته بعدها إلى بيته مطمئنة إلى سلامته، وإن أبدت بعض الشكوك المبهمة لأمه عن ملاحقة الشهب لرجال العائلة.

أعفي «عامر العربي» من الرعي لعدة أيام قضاها ضجرًا، عاد إلى الخلوة[3] بعد إلحاح أمه بعدما ظن أنه تخلص منها حين أقنع والده بأنه يريد أن يسعى البهائم بدلًا من سلوك طريق التعليم أسوة ببعض من هم في سنه. رتبت أمه أن يبقى هذه المرة في الخلوة، وأن يرعى الضأن بدلًا من الماعز، مرتين في الأسبوع فقط. لكنه في أول سرحة رعي بعد سقوط الشهاب أصيب بتشنج وسقط كالمصروع وسط البهائم مبيض العينين ويسيل اللعاب من فمه. أخذوه إلى معلم الخلوة فرقاه بآيات من القرآن حتى ارتخى جسده وعاد تنفسه إلى طبيعته، لكنه ظل نائمًا لساعات. تكرر الأمر بعدها بيومين حين أخذه أبوه إلى مناخ إبله ووقف مع أمه ينظران إليه وهو ينشف ويتشنج كما المرة السابقة. كان أبوه يريد فقط أن يتأكد. لكن هذه المرة لم تصلح الرقية ولا مشمومات العجوز المعالجة في رده إلى الحياة. بعد يوم كامل من المحاولات حمله أبوه وركب بعيره إلى حيث ينبغي أن يذهب.

 

أفاق «عامر العربي» على عنقريب غير مألوف لديه، ليجد أمامه رجلًا لم يره من قبل، وهما داخل حجرة طينية باردة ومعتمة قليلًا رائحتها رائحة الروث المخمر الذي طلي به الطوب اللبن المبنية منه. عرف بطريقة ما أنه لا ينبغي عليه أن يسأل، ولا أن يتكلم من غير أن يُسأل، فجلس وهو يشعر بالضعف والدوار. ظهر الرضا على ملامح الرجل لاستجابته إلى ما أحس به، فنهض وأشار إليه أن يتبعه إلى حجرة أخرى، ثم أخرى، حتى خرجا إلى الخلاء الممتد تحت شمس الظهيرة. امتداد من العشب المصفرّ الناعم على مد البصر، له حفيف مكتوم حين تمر عليه الريح، لكن لا صوت آخر. لم يكن هناك صوت لشيء، ولا حتى الطيور، فلم تكن توجد حولهما مخلوقات، لا نمل ولا هوام ولا جراد ولا شيء، كأنهما يقفان وسط بقعة ميتة تمامًا. أحس بالرعب لكنه تمالك نفسه، همّ بالسؤال عن أمه، وعن أبيه، وأهل الفريق. أراد أن يعرف من هذا الرجل وأين هما. لكنه من جديد خضع لتلك القوة الخفية التي أوحت إليه أن يبقى هادئًا.

مرت به أيام من الصمت في مكانه الغريب ذاك. يوقظه الرجل مع الفجر ويغيب في متاهة الحجرات فلا يعرف أين ذهب. من الخارج يبدو المكان مثل بيت من غرفة واحدة، معتنى بها جيدًا، لكن ما إن تدخل إليها حتى تجد نفسك في متاهة ممرات تقود إلى حجرات تقود إلى أبهاء خالية. لن تستطيع العثور على مخرج إن لم يرد الرجل لك أن تجده، هذا ما اكتشفه بعد محاولات للذهاب إلى الخارج حين يختفي الرجل ويتركه للضجر. 

في كل فجر يستيقظ «عامر العربي» بالحضور الثقيل للرجل الذي يقف عند باب الحجرة. بعد ذهابه يأخذ إبريق الطين الذي يجده ممتلئًا، ويذهب لقضاء حاجته ثم يعود. هناك دائمًا طعام وماء للشرب وآخر للاغتسال، كسرة ساخنة مغطاة في ريكة[4]، وماء بارد في الزير، وآخر فاتر في برميل حديدي، ولبن طازج في قربة مصنوعة من جلد شاة مدبوغ. يأكل حين يجوع، ويشرب حين يعطش، منتظرًا الإطلالات المتباعدة للرجل، حين يشير إليه بأن يتبعه إلى الخارج، حيث يقفان متأملين السهوب، تحت شمس الظهيرة، وعند الغروب. يحدق الرجل إلى البعيد وكأنه ينتظر إشارة ما، ثم يعودان إلى الداخل ليختفي، ويترك «عامر العربي» ليلاعب ضجره المتزايد.

مر أسبوع على تلك الحال قبل أن يتكلم الرجل أخيرًا. قال: «أنا الفكي. سأداويك». ولم يضف شيئًا. لكنه في تلك الليلة أخذه إلى حجرة لم يرها من قبل، بها مسطبة فرشت عليها سجادة بجانبها إبريق من الصفيح. على الجدران نُحتت أرفف من الطين عليها أوعية زجاجية وطينية بأحجام متنوعة، وأشياء ملفوفة في القماش، وأعواد وأعشاب يابسة، وزجاجات صغيرة بها محاليل داكنة.

أشار إليه أن يجلس على ركبتيه في طرف السجادة، وجلس مقابلًا له في الطرف الآخر. أمسك يديه وتمتم فعاد التشنج إليه من دون سابق إنذار، لكنه هذه المرة ظل واعيًا بعينين مفتوحتين، وإن كان مشلولًا تمامًا، حتى لسانه لم يكن يستطيع تحريكه. شعر بذعر هائل بسبب عجزه، لكن «الفكي» مرر يده على وجهه فانتزع الذعر، الذي بدا له مثل دخان يتحول بين اللونين الأبيض والأسود في كل لحظة وهو يتلوى. حمله إلى وعاء فخاري ووضعه داخله ثم أغلق عليه متمتمًا، فانفك تشنج «عامر العربي»، وإن صار بدنه ثقيلًا جدًا حتى إن المشي تحول إلى نوع من التعذيب، لكنه بطريقة ما وصل إلى حجرته ونام.

في اليوم الذي يليه، انتزع منه «الفكي» شيئًا آخر لم يعرف ما هو، ثم في الذي بعده كذلك. أسبوعان مرّا وكل يوم يقفان منتظرين في الظهيرة وعند الغروب، ثم في الليل ينتزع الفكي شيئًا من «عامر العربي». إلى أن جاء ذلك الفجر الذي استيقظ فيه لوحده قبل أن يوقظه «الفكي». جلس على فراشه وقد اجتاح روحه قلق لم يشعر به من قبل ولا من بعد، وكأن حدثًا هائلًا على وشك أن يقع. انتظر أن يأتي «الفكي» ليوقظه، لكنه لم يأت. لم يجد الإبريق هناك، وحين حاول الخروج لقضاء حاجته مثل كل يوم لم يجد الباب، فعاد إلى حجرته وجلس متقرفصًا فوق الفراش. 

 لا نوافذ في حجرات البيت، فلم يعرف كم مضى من وقت، حتى اجتاحه الحدس بأن في إمكانه الآن الخروج. وجد الإبريق خلف ركيزة المدخل خارج الغرفة، أخذه وخرج، فوجد الشمس قد ارتفعت تمامًا.

عندما عاد من قضاء حاجته، كان هناك رجل يقف أمام الحجرة، حين رآه ابتسم له وحياه. شيء ما جعل «عامر العربي» يحافظ على مسافة بينه والرجل. كان تائهًا يبحث عن ماء ليعود به إلى زوجة وطفل تركهما على مسافة ساعات. 

جاء «الفكي» من مكان ما خلف ظهره ووقف بجانبه. كان وجهه هادئًا وطبيعيًا. سأل الرجل عن اسمه، وقريته، واسم زوجته، وعمر طفله، وعن وجهتهم قبل أن يتوهوا في الفلاة. أجابه الرجل إجابات بدت لـ «عامر العربي» صادقة، إلا أن «الفكي» أعادها من جديد بصيغة مختلفة، فأجاب الرجل، ثم أخذ يتوسل إليهما من أجل بعض الماء ودابة يواصلون عليها الرحلة.

أعاد «الفكي» أسئلته بعد أن حشرها وسط كلام كثير وحكايات عن قرية الرجل وعشيرته ووجهته، ومرة أخرى أجابه وتوسل إليه أن يصدقه، بل أصر أن يأخذهما إلى حيث ترك زوجته وطفله.

«في لحظة كدت أتقدم إليه أو أذهب وأحضر له ماء وطعامًا، كان صادقًا وبدأ يبكي وهو يقول إنه يخشى أن يموت طفله وزوجته من العطش إن لم يرجع إليهما الآن، واستمات في دعوته لنا أن نذهب معه إن كنا لا نصدقه». قال «عامر العربي». لكن «الفكي» ظل هادئًا وهو يسأله من جديد. كان النهار قد انتصف، جلس ثلاثتهم على الأرض، وواصل «الفكي» استجوابه بلا كلل، واستمر الرجل في الإجابة من دون تغيير وهو يكاد يبكي، فيما حبس «الفكي» تلك الشفقة التي أخذت تعتري «عامر العربي» خلف قيد سميك وضعه على روحه، خشية أن تدفعه إلى فعل متهور، فجلس متفرجًا.

أخيرًا بدا أن «الفكي» سئم اللعبة، فسأل الرجل: «إن كنت صادقًا فأخبرني لماذا إذن لا تستطيع أن تتحرك من مكانك هذا وتعود إلى من تركتهم برغم كل محاولاتك؟».

هنا، توقفت توسلات الرجل. انتصب واقفًا مربد الوجه وقال كلامًا خشنًا بلغة لم يسمعها «عامر العربي» من قبل، وبلهجة متحدية عالية. أعادت إليه كلمات الرجل التشنجات نفسها، فسقط مصروعًا على جنبه. قبل أن يغيب عن الوعي، رأى «الفكي» يتقدم إلى الرجل، يبطحه أرضًا بسهولة وبلا مقاومة، ثم يذبحه.

 

 

12

عاد «عامر العربي» من غيابه سريعًا، ليجد «الفكي» منحنيًا على جثة الرجل الذبيح، يفعل شيئًا ما. كان ما يزال مشلولًا على جنبه، لعابه يسيل على خده، وسرواله المبتل ببوله يحكّه. نظر إليه «الفكي» فانفك شلله واعتدل جالسًا. بدا له مخيفًا وفارعًا وهو يقف فوقه، سمع صمته يأمره بالحفر. أمامه مجرفة تناولها بيديه الصغيرتين وبدأ يزيح التراب شيئًا فشيئًا. لم يوقفه العطش ولا الشمس التي تعلقت فوق رأسه، بدا وكأنه دمية يسيّرها «الفكي» كما يرغب. حفر حتى الغروب، تقرحت يداه وسال منهما الدم، عرق وجف، شرب من إبريق قضاء الحاجة حتى فرغ. أخيرًا عرف أن عليه التوقف، فأمسك عن الحفر. لم تكن الأرض صلبة لذا تمكن «عامر العربي» خلال تلك الساعات المضنية من صنع حفرة مستديرة يبلغ عمقها طوله. حاول الخروج من الحفرة بالقفز إلى حافتها والاعتماد على يديه ليرفع جسده. وقف «الفكي» يشاهده حتى نجح في الخروج. كان ظلام ما بعد الغروب ينتشر.

تركه يرتاح لبعض الوقت، ثم وكأنه يدفع كومة قش خفيفة، دحرج «الفكي» جثة الرجل بقدمه حتى أسقطها في الحفرة. وضع فانوسًا قربها وأشار إلى «عامر العربي» بالدفن.

حين انتهى من إهالة التراب على المذبوح صانعًا كومة مقببة فوق القبر، أحس بتعب لم يألفه في سنه تلك، عطل حواسه تقريبًا، لكن عندما شرب من قربة اللبن تساقط إرهاقه كله وكأنه صحا للتو من نومة مريحة. لولا ألم القروح الدامية في يديه، المتصاعد مع ضربات قلبه، لما ظن أنه ظل يحفر ويدفن منذ منتصف اليوم حتى الثلث الأخير من الليل.

أشعل «الفكي» نارًا في الخارج ودعاه إلى الجلوس قربه. فك صرة وأخرج منها قطعة من لحم الرجل الذبيح، عرف «عامر العربي» هذا يقينًا وفهم ما الذي رآه يفعل عند جثة الرجل عندما أفاق. كانت خيوط إرادته ما تزال في يد «الفكي» لذا راقبه مستسلمًا وهو يشوي قطعة اللحم في النار على مهل، قبل أن يطعمه إياها كلها.

مع أضواء الفجر الأولى، بدأت بطنه تتحرك. أشار إليه «الفكي» بالذهاب لإفراغها. من الفجر وحتى العصر كان يذهب كل فينة وأخرى ليسلح سلحًا كريهًا له فقاقيع وكأنه يغلي، ويعود منهكًا ليشرب اللبن والماء، ثم مرة أخرى يذهب ليفرغ بطنه. كل سلح كان لونه مختلفًا، بدأ بالأخضر اللزج البارد، ثم أصفر بفقاقيع تنفقئ بصوت طقطقة، بعدها جاء الأحمر بديدان ذات قرون تذوب في الأرض، والأسود بكتل وحبيبات تنبض كأنها قلوب صغيرة، ثم أخيرًا مع أصيل ذلك اليوم خرج الدخان، نفسه الذي التقطه من الشهاب الساقط، خرج من دبره بصوت أنين ممطوط، مباشرة إلى علبة فخار يمسكها «الفكي» الذي ظهر بغتة وكأنه كان ينتظر خروجه.

- اذهب واغتسل.

قالها متحدثًا بصوته هذه المرة وليس بإرادته التي يرن صمتها في أذني «عامر العربي» أغلب الوقت، فأطاعه وذهب.

شرب بعض اللبن فنزل باردًا في بطنه الخاوية، التأمت به جروح لم يكن يعلم بوجودها من قبل فأحس بالراحة. استدعاه «الفكي» بعد الغروب إلى الحجرة ذات السجادة، وجد طريقه إليها بسهولة. جلس على ركبتيه في السجادة مثل كل مرة مواجهًا إياه. وضع «الفكي» لفة صغيرة من القماش على صحن فخار بينهما، فتحها فكان فيها الشهاب الأحمر المثقب نفسه. اضطرب «عامر العربي» قليلًا، لكن يد الصمت ربتت على جنانه فسكن. صب «الفكي» من قارورة صغيرة دمًا أسود كثيفًا على الشهاب، عرف أنه دم الذبيح. فار الدم على الحجر بصوت يشبه صب الماء على الجمر، وتصاعد بخار رائحته كريهة. انكشف الفوران بعد وهلة فلم يبق من الحجر الأحمر المثقب غير شريحة رقيقة من زجاج أحمر، تفحصها «الفكي» قرب أحد الفوانيس، ثم نظفها بالقماش وأخذ يصقلها ويشكلها بمبرد صغير حتى صارت قرصًا له ذيل قصير، لف عليه سيرًا رفيعًا من الجلد بإحكام ودقة، صانعًا علاقة مثل التي تُحمل عليها التمائم والأحجبة، من طرفها تدلى قرص الزجاج الأحمر. علقها على عضد «عامر العربي» وضيقها من أنشوطتها لتناسبه.

قال: «غدًا تذهب. بعد خمس سنوات تعود». وأخبره صمته أن يذهب لينام.

صحا «عامر العربي» نشيطًا وقت السحر، ذهب إلى الحفرة وجلس قبالتها. أحلام مبهمة دفعته إلى ذلك الفعل. مع بداية ضوء الشمس انتبه إلى البساط الداكن على الكومة. ذباب أخضر سمين وكبير حتى يكاد يبدو مثل اليعاسيب. مع صعود الشمس صار يتكاثف حتى لم يعد هناك شبر من التراب لم يغطه. باشمئزاز لاحظ أن الذباب يأتي من داخل القبر نفسه، يحفر خارجًا من التراب ويحط في مكانه، حتى بدأ يزحف على الأرض بكل الجهات حول القبر مندفعًا مثل سيل تزيد سرعته بوتيرة متصاعدة.

ظل متسمرًا مكانه يسمع طنين الذباب، كل ذبابة تطن في مستوى من الحدة أو الغلظة يختلف عن البقية، وبإيقاع يخصها سرعة أو بطئًا، لكن شيئًا فشيئًا سمع صوت الذبيح يتكون من تلك الفسيفساء المنفرة. اعترته الخشية والتسليم معًا، فلم يتحرك من مكانه والذباب يزحف على قدميه، ثم ساقيه، ويصعد، حتى مسّ تميمة الزجاج على عضده، فهاج كله حينئذ وطار في سحابة لولبية حوله قبل أن يختفي دفعة واحدة.

- كل واحدة ذهبت إلى مكانها. ستراهن كلهن يومًا، وسيقابلك بعض منهن في أوقات معلومات.

هكذا أخبره «الفكي» وهو يقف عند باب الغرفة الوحيدة من الخارج، المتعددة من الداخل. ظل الذباب يطن في رأسه مذكرًا إياه بما سوف يحاول الهرب منه طوال حياته: فداحة ما فعل.

همّ بالدخول لكن «الفكي» أوقفه بإشارة قاطعة، ثم أشار إلى الشرق. من بعيد لاح بعير باهت في رهاب الفلاة، ما لبث أن اقترب فتبين فيه «عامر العربي» بعير والده. أحس بفرح مختلط بشك وحذر.

دخل «الفكي» وتركه وحيدًا منتظرًا حتى وصل أبوه وحمله معه عائدًا إلى البيت.

في الطريق، حاول أن يخبر أباه بكل شيء، لكن لسانه انعقد فلم يقل شيئًا. مس أبوه عضده محل تميمة الزجاج، ثم رفع كم جلبابه ليريه تميمتين، بيضاء وزرقاء، معلقتين على عضده أيضًا.

سيخبره، وسيفهم، على مر السنوات؛ عن لعنة رجال العائلة المتبوعين دائمًا بالجن المحمولين على الشهب المتساقطة، والمنذورين للرجل الخالد في معزله الظاهر الخفي. داوى «الفكي» جد «عامر العربي»، ثم داوى أباه من قبل. «هذه لجدك، والثانية لي، وبعد موتي ستحمل تمائم الزجاج الثلاث معًا. هكذا قال الفكي»، أخبره أبوه وهما يقتربان من الفريق. عرف أن حياته تغيرت إلى الأبد حين أحس بهبات الريح مثل الزيت على وجهه، وحين بات يفهم ما تقوله أصوات الطيور، ويرى الرسائل في حركة القطعان العشوائية. أدرك أنه لن يعيش هنا إلا لمامًا. تقيأ مرتين في الطريق. استراح على الأرض وحاول أن يأكل شيئًا من عصيدة الذرة بالروب الأبيض والسمن، لكنه لم يستطع أن يتذوق شيئًا فلفظها واكتفى بشرب اللبن. قال له أبوه وهو يتخير كلماته: «إنه ليس إنسانًا. هو جني جاء بحثًا عنك فوقع في شَرَك الفكي». أخبره أن هناك طلسمًا مكتوبًا على الأرض، فلا يستطيع كائن حي إنسًا أو جنًا أن يجد أرض «الفكي» ويدخلها إن لم يرد له ذلك، المردة من الجن فقط يمكنهم أحيانًا التسلل عبر ثغرة صنعها لهم ليتعقبوا رائحة المتبوعين، فيقعون في الشرك السحري المنصوب حول الحجرة. «أنت لم تـ...». سكت أبوه متفاديًا تذكيره بما سيفسد لحظات صفائه إلى الأبد: لقد أكل لحم إنسان. أو ربما لحم جني إن صدق أبوه في جملته التي قطعها، لكن «عامر العربي» فهمها.

ستأخذه الحياة في مسار أعدّ له سلفًا قبل أن يولد. سترسله أمه ليبقى مع أختها في ضواحي العاصمة الإقليمية، لم تعد الحياة هنا صالحة له، ولا خططه التي تتعلق بالماشية والرعي والتجوال في الفلوات ستتحقق، عليه الآن الحياة في المدينة بقدر ما يستطيع، سيتعلم، ويتمدن، ليطير في النهاية بعيدًا عن أيدي من يتبعونه، إلى بلاد ليس فيها «الفكي» ولا الشيوخ ولا مزارات الجن، ولا يتجول فيها أهل العوالم الأخرى مرتاحين في كل حين. هكذا قررت، وهذا ما حدث، وهذا ما سيفعل.

 «مجتزأ من رواية قيد النشر»




[1] مجموعة منازل أو حي من القرية.

[2] نخاع الساق يستخدم في تزييت صاج صنع الكسرة.

[3] مدرسة تقليدية لتحفيظ القرآن وتعليم الكتابة والقراءة والحساب (كُتّاب).

[4] طبق من الخوص لحفظ الكسرة.

واحد وعشرون نصًا في خيطٍ طويل إلى حد الملل

 

 



 


 

محتويات

«يوميات»: أكتوبر 2023 - أبريل 2024 (تقريبًا)

«لا أقوى من لا أقوى»: مارس 2022

 

 

 

 

 

 

 

 

يوميات

 

1

هذا احتجاجي على أن الأوان سُدىً..

هذا عقابي لأني حين صبَّني الله في الهيئة

ثم قال: اذهب طليقًا إن قدرتَ.. ولن؛

كنت أقول نفاقًا إني قبِلتُ المسافات

قبل خلق المسافةْ..

وإني رضيت بقَيْضِ الحياةِ عَمَىً.

 

  

 

2

أنت تعلم يا رب

أنني لست شاعرًا ولست موسيقيًا ولا كاتبًا

ولست زوجًا جيدًا ولا أبًا حنونًا

ولست إنسانًا تنزّ منه الحياة 

ولا حيوانًا ولا جمادًا 

ولا سعلةً لملاك غافل 

ولا فسوة شيطان مريد..

لست إلا لطخة مؤقتة على صفحة اليوم 

تعتريها انقباضات السير وتعميها الظنون عن لذة الإدراك..

إنني يا رب منهك من غضبي ومن لا مبالاتي معًا

متعب يا رب منك وأشعر بالنقص والضجر

أشعر بالقيد ولا أراه

وأشعر بفوت الفوات وبالدهشة وغثيان الرحلة التي لم تحدث

أريد مكانًا واضحًا يا رب أموت فيه

أريد طيّة تخصني يا رب فأحيا علانية

أريد معنى وظلًا وأرضًا أصلي إليها إن غفوتُ على تراب القيامة

وأنت تعلم يا رب كيف أني طيب أحيانًا وقليل التكلفة

تعلم كيف أني زاهد في الشيء 

وزاهد في الذات وفي المحبة واللهِ 

وزاهد فيَّ وفيك

فأعنّي يا إلهي على السفر

وجازني يا رب حتى ترضى.

 

  

 

 3

 أنا لست سعيدًا

لكن لا يمكنني الشكوى

فداخلي مظلم وخانق ومختنق بالشر والرغبة في فناء العوالم

لكني أداهن

أجعل وجهي هادئًا فيُظَن أني طيب

وأنتحلُ اكتراثًا عند اللزوم.

حياتي هكذا: خوف خسران ما لم أمتلك

وطمعٌ في مكافأة لا يستحقها أحد.

ومع ذلك 

يخبرني شيء بأنني في طريقي إلى النعيم

لأني الآن في أعراف نفسي

وتكفيني دفعة هينة.

 



4

لم تعد لدي أسرار في هذ العمر ولا أشياء تدارى ولا احتشام بليد 

فهلا استعدت الآن ذلك الوقت المضاع في المراوغة والتناسب وادعاء الاستقامة؟

لم أكن صادقًا حقًا في التزامي الصراط إلا كسلًا ربما أو ضجرًا من المغامرة

ولا قنوعًا إلا تفضيلًا لأولى الراحتين على خلاء الفُرص

واليوم لا فرق بين صورتي وظني إلا في الشيب والنظرة

لكن حياتي مسيخةٌ كما توقعتها في القرن الماضي

فيا ليتني أضفت إلى صوتي بعض الوقاحة والعيب وطيش الشباب

فقليل من السفاهة لم يكن ليضر أكثر مما فعل الهزيع بالجسد

وبعض الهراء كان ليصنع ابتسامات في ذكرياتي الآن.

 

  

 

5

عزيزي كارل،

هذا هو العالم اليوم:

يريد الناس أن يصيروا عبيدًا

هل تصدق!

لدينا كتب لتعرف كيف تربح المنافسة

من أجل أن تحظى بسيد رؤوف

لدينا معاهد للتنمية البشرية

لئلا تكتم الحرية الشريرة أنفاسك.

عزيزي كارل،

الآن..

في عالم مزدحم بالوحدة

يخاف الجميع أن يخسروا قيودهم

بينما الرأسمالية في مأزقها

تبدو مثل جنة بعيدة.

 

  

 

6

جاوزت عمري الافتراضي اليوم

فانتهى قلقي من عدم تركي أثرًا

إذ لا وقت باقٍ لفعلها

لكنّ رغبة ملتصقة بحراشف التوق تخزني لأحاول

فربما إن ألقيت زهرة في الهوة الآن 

قد أسمع في الستين صوت الارتطام وأبتسم

إنها الرغبات قد تخدع قلبي وقد لا..

فكل شيء في غد والآن.. هو في غد والآن.

 

 

  

7

يحب العالم هذا: 

الداعشي في بذلة أرماني يسكن أعراف الإنسان

يخاف أن يؤمن فيصبح صيدًا لأجهزة الأمن

يخاف أن يكفر فتعرض عنه الجنة 

يخاف أن يتكلم لئلا يحل دمه

يخاف أن يصمت فينهبه اللصوص

الداعشي في بذلة أرماني 

مثل الإنسان نفسه في وجه من الوجوه:

لا يمكنه أن يكون داعشيًا

ولا إنسانًا في بذلة أرماني فقط.

 

 

 

 8

 في هذه البارحة

عضني الشوق إلى خيباتي كلها

إلى فشلي الذي لا يُحد حده

والطعم الحارق للاعتقاد الميت والإيمان المطعون..

لطالما غنيت في نشاز خاص جدًا وليتني لم أفعل

ليتني تعريت قليلًا قليلًا من تبعات الطرق

حتى البقاء فقط «على قيد الحياة» كما يقال

فلا يسلمني خطأ إلى خطأ 

ولا يغدر بي الركض خلف العيش.

 

 


9

 هلّا رميت طوبة الوطن الحبيب؟

هلّا يئست من نعمائه 

واكتفيت بتذكر الطرق التي أهملتها

الطرق التي يذهب خيطها في البحر ثم الثلج

 ومرات إلى قارعة الخليج وما خلف كل ذلك؟

يا لها من فرصة مهدرة

تلك التي لم تبد مثل فرصة في وقتها

يا لك من إنسان صغير لم تسمع النُّذُرَ ولم تر الموجة

قف الآن أو لا تقف

لا فرق يحدثه الصياح.

  


 

10

 سئمت الأبطال الساذجين الذين تصعب هزيمتهم

من يتمرغون في عناية الله العجيبة

وينجون من كل الفخاخ

ليغذوا خطوط إنتاج السينما يوميًا

من يرون كل شيء أبيض وأسود

قوود قايز وباد قايز 

فينصاع لهم العالم 

خاضعًا للعضلات والأنوثة النحيفة

سئمتهم يا رب

لكن ليس لي غير السباب

فأنا مهزوم على مقعدٍ أمام شاشة.

 



11

 لست أحب الملحقات

لست أحب الهوامش

لست أحب المعارض المصاحبة

لست أحب البرامج التي «ضمن» و«في إطار»

وبغير شك: لست أحب النبات الطفيلي ولا المتسلقات

ولست أحب عروض التسوق واليانصيب والجوائز.

إذن: لست أحب القرعة الذهبية

ولست أحب القرعة الفضية 

ولا القرعة من أي معدن

فكلها مقايضات لئيمة مثل الحياة تمامًا

لكنني ويا للعجب 

أظل أحب الحياة.

 

 

 

12

 يا حيرتي.. أين أذهب؟

ماذا فعل بي الأنتلجنسيا الأشرار؟

لقد طردوا بلادي مني.. أولاد اللذينا، وطاردوها حتى حدود فخري بأني منها

أغلقوا دوني الإياب وقعدوا لي كل مرصد

فكيف سبيلي إلى ما تركتُ.. وكيف نجاتي من المفترق؟

 

 

 

 13

 هناك سوء منقلب 

مناظر كئيبة ووعثاء في المعنى

تخزني أنا المتعايش مع النسق.

لا نجاة من بصمتي الرقمية المنذورة للزمن

تراني أعين النظام التي لا تنام 

فأدعي أنني هادئ

أحاول أن أتمّ عمري كما يشتهي «قوقل»

ولا أسأل قط: ما ديانة الأثرياء؟

  

 

 

 14

 هم عاهرون فطلّع دينهم يا رب

واغمسهم في جحيم أشد استعارًا من بلادي

أراهم يروني فيدهمني تعب وذهول

من حياة تسيل دون لذة

فأرهم يا إلهي بالنيابة عني

أننا محض غبار منسي على زجاجك الخلفي

محض رذاذ من سعال المطلق في فراغه اليومي

أخبرهم يا إلهي بأنا نجفّ مثل كل بصقة

على تراب الكون

فلا داعي للؤم والظن والإثم والشكشكة

فكلنا إلى عدم من عدم عبر عدم صفيق.

  

 

 

 15

 لا أريد إرضاء أحد منهم

ساكت لأنني لابد خائف 

من خفير بسوط وسيف يحرس كل يوم لساني

وإني أخاف الألم والتهديد والرقابة.

لست أحب منهم أحدًا

ولن يفهموا أني لا أكرههم أيضًا

لذا أحذر أن أبدي العاطفة

فربما أفلتت مني نأمة تدل عليَّ الرقيب العتيد القوي

وإني أحرص من إهدار باقي حياتي في صراع كهذا

وإني أبخل بالوقت حتى عليَّ

وإني صغير بشدة

وهم لا يرحمون.



 

16

 أنا من هَبوبٍ يعلمها الله وحده

ومن جنوبٍ متسخ بالحياة 

وغارقٍ في نهر الجهات كلها

لذا نعرفُ كيف سَيري ألجَنٌ

حدَّ أن ينصرف الممنوع

وكيف روحي شاذةٌ عن النظام

لكنها لا تشرئب

خوفًا من مقص الرقيب المساوي/ السماوي

أعني: عدو ماركس.

  

 

 

17

 أبدو طيبًا وهادئًا

حتى إنني أهش عني ذباب نيتشه

لكني فاسد في طويتي 

وضعيف وبلا مخالب أيضًا

أخاف أن أغضب أحدًا 

فيُري هشاشتي تحت يديه

لذا تعلمت الدماثة وأن أصير عاديًا

لأنني أخاف أن يخيفني أحد على الملأ

فأنظر نفسي صغيرًا..

هكذا قبعت حيث وجدني الشيطان.

  

 


18

 خلاصة الحواري

والأولاد الذين اخترعوا البوليتكال كوريكتنس

يستمنون يا رب فوق أفكاري تباعًا 

فهم يعرفون متى تسري القواعد

ويقررون على من تسري القواعد

لقد صنعوا سوطهم/صوتهم

وانهالوا على ظلال الصراع الطبقي

فتبعتهم مرغماً يا رب

لأنهم أساتذة الخديعة.

  

 

 

 19

أنا إنسان المدينة المتعفن ذو الملابس الضيقة 

المدلل بالماء في الصنابير والكهرباء تحت زر الإنارة..

أنا إنسان المدينة العبد الراضي الذاهب كل صباح إلى حقل الخرسانة البهيج، 

إلى صناديق القمامة التي تعلوها أجهزة إنذار الحريق 

وفتحات التهوية المضبوطة عند الرقم 18..

أنا إنسان المدينة الذي يسبح في ظرف غامض، 

ويلعق نعل الحياة شاكراً حامداً مرةً أو مرتين في اليوم..

فكما ترى.. يزداد العالم ازدحاماً.. والفرصة خلفها ألف منتظر..

هكذا ينجو إنسان المدينة من هشاشته: أن يصير جرو السيد.

  

 

 

20

 أسير أسيراً في عالمٍ حشّرت له التكنولوجيا 

وغسلته البغضاء من طفولته الميكانيكية 

أستنشق الوقت الذي غيرت لونه غابة المحركات الثقيلة 

في رحلة السعي إلى ديستوبيا الختام 

ترافق ظلي الصور التي طعنت خصوبتها حضارة البلاستيك المسرطن

وختنتها الأفلام ثلاثية الأبعاد..

لكنني ومع ذلك كله أسأل مرة بعد مرة: 

هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن؟

 

 

 

 

  

لا أقوى من لا أقوى 

 

أنا مرعوبٌ من انتحالي

ومن «كارما» خداع الموت

فمنذ عشرين سنةً أدَّعي ما لستُ عليهِ

رغبةً في نجاح الخطة

أو على الأقلِّ نسيانِ من أكون حقًا

لذا يا اعترافاتي الفاحشة

كوني دقيقةً في وصف حالي

فما زلتُ عبدَ المخاتَلة.

 

 

 

 إنني ساذج يا إلهي

ولطالما كنتُ كذلك

لكنني سيّدٌ في إخفاء نفسي خلف السحابة القلقة للجهل

وبارعٌ في تنظيف ذاتي من الأنَّات

فهل تَراني طيِّبًا متثاقلًا للمحبة

هيِّنًا مراوغًا حَذَر الرغبة

لطيفًا في الإسماع

خائنًا في الدخيلة؟

هل تَراني يا إلهي في إغماضتي عنك

وهلَّا تراني في اجترائي على الإيمان؟

 



لي صورتان تكثران حين المَلمَّة:

العاقل المتأفف من رغبته

والأمين خارج التجربة

بينهما أحشو كذبي فلا أراه..

أُسِرُّ: لي صولجان الظلام الذي في المحبس

في الانتظار 

وفي الكهولة..

ولي القيد المعلّى في الذَّرَابة

أمضي فلا أُستبانُ وأحيا في ضلالة.

 

 

أخاف الزحام لأن أحلامي خبيثة

ولأن قوَّتي في وَحدتي كذلك

ومتعتي في الخِفْيَات

لكن مع كل هذا

يُحسن الظن بي أشباهي

ولا أردّ دَينهم حين الفضيحة.

 

 

 ….

أنا سجينٌ أطلي زنزانتي بخراء ظنّي

وأنصاع لنظامٍ من التفادي والإكراهات

ولأصدقاء متخيلين يعلمون الغيب 

ويجبرونني على الجَلَد وأشياء مضرّةٍ بالحياة

وعلى احتقار التَّوْق 

وفعل المبالاة أحيانًا..

لكن الغريب في هذا 

أن يحتملني حيِّزي من دون امتعاضة.

 



لم أنضج قَط

أعرفُ كابوس كل ليلة: 

أن تُرى تأتآتي خلف وهم الرصانة

أن أُرِي..

وأنا لست مهذبًا في الحقيقة

ولا قانعًا أو صلبًا في الأمور

لكن توفيقي بالله

فلا يدركني شنآن الناظر.