الأحد، 15 يناير 2012

مصطفى سيد أحمد



1
مغنٍّ كثيف الشعر، ينحني على عوده ويغني:
(مهما هم تأخروا فإنهم يأتون
من درب رام الله أو من جبل الزيتون...).
مغن كثيف المسافة بينه والآخرين، ينصب شباكه لمن يهفو إلى بساطة الرؤية (لسه بيناتنا المسافة والعيون واللهفة والخوف والسكون..) لتكتشف الفريسة بعد وقتٍ أن ثمة تعقيداً لم تطأ رائحته أولاً يوجد في ذات (المسافة).
يمد شباكه إلى من يعتريه قلق المنزلة بين المنزلتين بـ (عينيك مدن..)، (الدنيا ليل غربة ومطر..)، (مكتوبة في الممشى العريض..) حتى التخوم الرمادية بين الذات والذات الكلية حين تساوي أنت أكثر من هتاف (عرق الجباه الشم..) وأخواتها، وأكثر من ذوبانـ(ها) في (آه لو تأتين آه من عميق الموج من حضن المياه..)، وبلا شك أكثر من مأساة (عبد الرحيم) والكوميديا المظلمة لـ (الحاج ود عجبنا) عم الجميع.
مغنٍّ كثيف اللغة، حد استحالة أن يحاط بها - لغته - بكل كبريائها حين أنها غيرت طعم الكلام كثيراً وغيرت عدسات الذي كان ينظر صوب الأغاني بوصف الحبيبة شعراً يسيل كما الذهب أو هدفاً يجمد ما عداه من الشعور ليصبح (تختة) يصوب نحوها ما ضاقت به غدد الشعور فكاد ينفجر.
مغنٍّ كثيف الحياة.
مغنٍّ كما ينبغي.

2
مثلما طلى التسعينيات بلغة طردت لغات الغياب إلى الثقوب البعيدة؛ ظل يطلي - مصطفى- يوميَّ الكلام بما يجعل الونسة ضرباً من لغة الطير الجميلة. تنبت مفردات مستعارة منه عبر شقوق الخيال، تنمو فينبت شاعر مفاجئ خلع (بامبرز) (الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان) إلى فساحة أن يفكر: (وما حريق البحر؟ ما عجاجه؟ وما الذي يمنح اللوحة ازدواجية القراية؟ وكيف يمكن أن يكون الحزن كائنا يمشي على ساقين أو دائرة تطوف في فراغ الكون وتمحو عن شعاع الصمت ذاكرة السكون المطمئنة؟ وكيف تنجبني مريم الأخرى قطارا وحقيبة؟ من مريم الأخرى؟ وكيف هو عزاء باقات النجوم في المطر؟...).
مثلما ضرب - كما زلزال - هذا المصطفى، قوانين الواقع، قوانين السؤال، قوانين الترنّم، قوانين المعرفة بوطن كان عميقاً بقدر ما كان باهتاً؛ يعرج - هو - على (ال) القمرية في كل الكلمات ليخترع صيغة توكيد جديدة، أطلقت جيل (فولترون) و(كابتن ماجد)، و(بابار) إلى قلقٍ مضاد للرضا، وإلى أمنيات أكثر نضجاً من (تبقى لي دكتور، وتبقى لي مهندس)؛ إلى أمنيات غائمة في لذتها كما (مشرع الحلم الفسيح) الذي تقف دونه جزر تترامى وموج لديح.
مثلما كوى - كما بركان - الرؤية المعتادة، هذا المصطفى، يكوي احتمالات التشابه؛ فيتوارى كل لحظة مكان من الذاكرة، لتحل مكانه أمكنة صغيرة مليئة بالأطفال والحدود الميتة والأشواق التي بهاراتها من وحدة الوجود في تعدد الأمزجة. حين صارت (نفسي أفهمك) هي: (نفسي أقراك مرة صاح عكس احتشادك في الحضور..)، وعندما أصبح التساؤل: (ليه غبتي يا القمرا)، تغيرت طرق القول، طرق الحب، طرق اللهفة؛ حتى صارت أقرب إلى (بعد ما عز المزار..) عبوراً بـ(يا سر مكتوم في جوف أصداف..) بديلاً لوضع كل شيء على المائدة.

3
ربما ما كان لي ولغيري النفاذ إلى أفق للمتعة التي كانت - قبل مصطفى - دونها الريبة وخوف التعقيد وشدة الجديد على من تعوَّد - بالكاد - على أنماط من الشعر القياسي؛ النفاذ إلى زمن العيون الإلفة والحضن الملاذ، ثم القفز حتى (كأنك من وراء صفحة زجاج مبلول وراك الريح وقدامك مدى السكة ونداء المجهول) وصولاً إلى شهيق عاطف خيري وعزلة الصادق الرضي ورحيل أبوذكرى في الليل.
ربما ما كان لي ولا لغيري استطعام (حاجة فيك) و(البت الحديقة) التي لا أعرف حتى اليوم إن كانت حديقة أي ذات حدقات أو أنها حديقة بأزهارها وأطيارها ونخيلها؛ ثم الركون إلى غرائب الصور قبل أن تصير معتادة فتخلع غرابتها إلى حين مثل (بنية من خبز الفنادق) و(صوتك وكت قطع البحر قبال مراكب العمدة ضهر النيل عرق). هو هذيان خلاق أصابت عدواه كل من جاء به حظه ليعبر تسعينيات القرن الماضي حافياً من كل جميل، أوان لا زال المغنون يبكون على الزمن الدوار وبسمة النوار أو يحاول المغنون الجدد تعديل الذائقة لتطرب لإعداد الشباب ليوم اللقاء وإعادة سلطان الشرق ودك حصون العدا، إلى غيره من الهواء النتن الذي استوى - ليس فجأة - بما كان هواء طيباً.

4
هو مصطفى. المغني الذي حطم المقاعد فظللنا وقوفاً لم نفهم أن الحكمة من تحطيم المقاعد هي عدم البقاء في ذات المكان.. هي التحرك نحو أفق جديد رائحته كما الجنة.
هو مصطفى. صياد الزيف المحلق في سماء تحتها من اهتم لأمرهم. قاتل ما يحجب الشمس الأخرى.. الجديدة.
هو مصطفى... ولن يكفي الكلام.