السبت، 28 ديسمبر 2013

سطور قديمة


في سيرة الجبهة الديمقراطية.. 
والحلاوي الذي علمني صناعة "المولوتوف"


(1)
كان الشتاء. والجنوبي* ذو غرابةٍ لطيفة لمن يراه أول مرة ببلاط الأسمنت الذي يمتد من بوابته الشمالية جنوباً حتى نهاية الـ(CR's)**، ليغدو أرضية للنشاط الذي تظلله شجيرات تحده من الشرق، ومن الغرب تظلله الـ(CR's)، قبل أن ينمحق إلى ممر نحيل يستمر إلى ما بعد السياج حتى القاعة الكبرى؛ (القاعة 1)؛ وأخواتها، تحفه على الجانبين شتلات ستنمو، ومن خلفها التراب.. الكثير من التراب. وتمتد بلاطات الأسمنت غرباً من البوابة حتى مباني الإدارة ثم المسرح الذي تقول إحدى أساطيره – أيامها- إن آخر من غنى عليه كان أبوعركي (يا دبشليم الحق صوت الله)، ذلك –كما قيل- كان قبل تجميد النشاط الثقافي.
كان الشتاء، وعدد قليل من الطلاب، ومساحة شاسعة تكاد تكون عارية من الشجر. قبلها بأسابيع، كنت أجلس في سنتر جامعة الخرطوم الظليل والزميل (ج.هـ) يحملني حملاً على استئناف النشاط ضمن الجبهة الديمقراطية، فالأمور – كما قال- تختلف هنا عن الثانويات ومشاكلها وتدافعاتها.
واقفاً في منتصف النشاط أنظر إلى كل الأماكن ولا أعرف إلى أيها أتجه، تطن في رأسي سنوات من التوقعات التي اختفت الآن فجأة، صورة نمطية عن الجامعة لا علاقة لها بما أنظر إليه، رغبات تتدافع فتضيع في بعضها. ثمة بعض الطلاب العبوسين تقبض أيديهم على الكثير من الأوراق وأحياناً الكتب، ويتحركون بسرعة، المكان خالٍ تقريباً وبارد والساعة لم تتجاوز العاشرة صباحاً. كنت أفكر: كيف سأعثر على أعضاء الجبهة الديمقراطية؟ لا يمكنني –بالطبع- أن أوقف أياً كان وأسأله عنهم، فقد كانت لا تزال أياماً مرعبة.
بعد أسبوعين عدت. مع دخولي كان ثمة من يتحلّقون حول متحدث ما، في ساحة النشاط. زاد عدد الطلاب عن آخر مرة.. يبدو أن الدراسة بدأت أو ستبدأ. كان المتحدث من جماعة أنصار السنة، لم أركز كثيراً في ما يقول، أخذت أتفرس في الوجوه؛ الواقفين والقاعدين، أمام المتحدث كرسي حوله زجاجات مياه غازية مملوءة بالماء. أثار اهتمامي أحدهم يجلس على مشطي قدميه في الصف الأول، كان مطرقاً يستمع، كثيف الشعر جدا ويفتل خصلة من ذلك الخنفس. ما إن انتهى المتحدث حتى رفع الشاب ذو الخنفس يده طالباً فرصة منحت له ليدخل ويتحدث بلهجة هادئة ولكن كلامه لم يكن هادئاً. كان يدافع عن عضوية الجبهة الديمقراطية بتحدٍ.. لم أهتم بعدها بمحتوى حديثه؛ فقد عثرت على من أبتغي.

(2)
كان (و.م) يتجه جنوباً بعد أن انتهى ركن النقاش، خطواته واسعة وثابتة. لحقت به قرب شجيرة مانجو ستنمو في ما بعد وأوقفته. استمع لي بما بدا لي شيئاً من الحيرة وأنا أخبره بكلمات مقتضبة ومتوترة بأنني طالب جديد وأبحث عن (الزملاء). سرنا في ذات الاتجاه – الجنوب الغربي- وهو يؤانسني بلطف كمن يعرفني، حتى وصلنا إلى مساحة بين مبنيين تظللها شجرة لبخ عملاقة، ويحدها السور الغربي للجامعة؛ كانت تلك (موسكو).
تلفت (و.م) في عدة جهات، لم يبد عليه أنه وجد من يبحث عنه. ثمة حجارة مرصوصة لتكون مقاعد حول (الخالات) اللائي ينصبن أمامهن مواقدهن فوقها كفتيرات الشاي تحتها الجمر. ليس هناك الكثير من الرواد.. المكان شبه خال.
تحركنا باتجاه الشرق، في الحدود البعيدة للجنوبي يبدو مبنيان عملاقان جيدا البناء، جنوبهما مبنى أقل جودة ثم يليه مبنى يشبهه لكنه مخرّب تماماً؛ بلا أبواب وبلا نوافذ (كان داخلية طلاب قبل تحويله إلى مبنى إداري في ما بعد). عندما تعبر من كافتيريا الوسط شرقاً تواجهك في المسافة بين المبنى المهدم والكافتيريا طائرتان؛ هيلكوبتر وأنتينوف، على مسافة منهما جنوباً بيوت الأساتذة، وعلى مسافة أكبر شمالاً المسجد.
توقف (و.م) عندما شاهد أحدهم يسير باتجاهنا، ناداه وهو يقترب باسم (مناضل).
بينما كان (و.م) يقص حكايتي القصيرة معه؛ تمعنت سريعاً في مناضل. كان يرتدي (كاب) على رأسه، قميصاً طويل الكمين وواسعا بعض الشيء، البنطلون كذلك واسع بوضوح، ويرتدي حذاء عسكرياً ثقيلاً (بوت)، وعلى كتفه حقيبة ظهر. لهجته مع (و.م) بدت لي على شيء من الحدة، واثق، وعجول، بعينين واسعتين جذلتين بهما احمرار. تركنا (و.م) وذهب. أخذني مناضل من يدي دون مقدمات وهو يسألني عن بلدتي، مدرستي الثانوية، أسماء من أعرفهم من الزملاء وفي أي الجامعات هم ... الخ. في النهاية ونحن نقترب من البوابة الشمالية قال لي بلهجة فيها الكثير من الود: "أنا مناضل الطيب.. نتلاقى بكرة في موسكو". سألته أين هي موسكو فأشار إلى حيث كنا أنا و(و.م) قبلاً، وذهب.

(3)
انتظرت (مناضل) في موسكو وحيداً أتناول أكواب القهوة وأتململ على الحجارة المصقولة من كثرة الجلوس عليها. كان واضحاً أنني غريب، تخبرني بذلك النظرات المتمعنة والمتسائلة التي تمر عليّ بسرعة قبل أن تشيح عني. موسكو كانت – كما لاحظت وقتها – مرتبة ومقسمة جيداً، كلٌّ يبدو وكأنه يعرف تماماً مكانه تحت ظل الشجرة البارد ذلك الصباح. بعد سنوات، سيندلع النقاش عن جدوى تجمعنا في (غيتو) خاص بنا وضرر ذلك على تأثيرنا المفترض في المحيط، وكيف أننا صرنا نعزل أنفسنا عن المجال الحيوي لنا. لكن في ذلك الصباح البارد الرمادي، لم يكن يعبر خاطري وأنا في انتظار مناضل؛ غير أنني حيث ينبغي أن أكون.
أنقذني من العزلة حضور (و.م) رفقة (ز)، جلسا وخلفهما جدار ورشة كهرباء. رآني (و.م) فابتسم وهو يشير إليّ بالانضمام إليهما. تمعنت (ز) فيّ باسمة وهو يعطيها نبذة قصيرة عني بطريقة ساخرة، لاحظت للمرة الأولى أنه يبتسم بركن فمه. خلال حديثنا حاولت فهم البيئة السياسية وتوازناتها ووضع الجبهة الديمقراطية ومدى تأثيرها ومدى قوة (الكيزان). كنت مندفعاً في الأسئلة ومتعجلاً، ولم يعجبني الوضع العام. كنا مصابين في الثانوي بما يشبه القابلية لـ (الاستعلاء بالإيمان) لدى الإسلاميين؛ فنحن على استعداد تام لقبول الإيمان بأننا – الجبهة الديمقراطية- الأعلون فقط، الأفضل، الأكثر فهماً، الأحق بالحيز كله... الخ، وهي جرثومة كان التخلص منها فور دخول الجامعة مستحيلاً تقريباً عليّ، بل استمرت معي حتى الحضور الهائل للطيب شريف في تفاصيلي. في ما بعد؛ سنشهد كيف أن هذه الجرثومة تسببت لدى الكثيرين ممن لم يستطيعوا التخلص منها؛ تسببت بأمراض طالنا طرف سوطها بعد سنوات.
عندما ظهر مناضل، كانت موسكو صارت ضاجّة بالكثيرين. كان يرتدي ذات البوت، ذات البنطلون الواسع، والكاب الكحلي الباهت، لكن لم تكن معه الحقيبة. لم يبد عليه الإرهاق وهو يتحدث ضاحكاً إلى (و.م) و(ز) قبل أن نتحرك شرقاً إلى ظلٍّ رطب بين كافتيريا الوسط ومبنى عرفت في ما بعد أنه ورشة (مجاري). كان هناك بعض (الحناكيش) كما كانوا يسمون وقتها؛ المتسربين من معقلهم (كافتيريا الوسط)، يضحكون بأصوات عالية ويتحركون بنشاط.
كان مناضل مرتباً ويعرف جيداً ما يريد وهو يطالبني بكتابة طلب الانضمام. كتبت أنني ذو مهارة في الخط الحر تحديداً والرقعة إلى حد ما. كان الخط الحر ذو قدسية لدينا في بلدتنا اكتسبها من ليالي المطاردات الطويلة لعشرات الزملاء، ومن محمولاته التي عبرت به إلى مئات الأعين طابعةً به آلاف الأبيات والشعارات في جدران الذاكرة، ومن كونه – وقتها- الجين المشترك الذي يجمعك بآلاف مثلك يؤمنون بما تؤمن ويكتبون بذات الطريقة التي بها تكتب، لذا كانت علاقتي معه غريبة بعض الشيء وذاك موضوع آخر.
في انتظار البت في طلبي، أخذت أدخل إلى كيان الجبهة بسرعة، كنت أعرف (و.م) ومناضل سلفاً، عرفت عوض الجبل بعدهما؛ ودودٌ ويبعث الراحة في النفس، تحس بأنه صديقك منذ سنوات. حين ازدحمت القاعات وفراغات الجنوبي بالطلاب بدأ النشاط السياسي ينتظم. بدأت انتظامي في الدراسة بين قاعات الجنوبي وورشة الكهرباء العتيدة في الجناح الغربي قبل ترحيلها بعد ذلك إلى الجنوبي، كنا نستقل إلى الغربي دفارات تتحرك من السوق الشعبي الخرطوم في طريقها إلى الشعبي أم درمان. كان الذهاب إلى هناك لدى الكثير من الطلاب الجدد أمراً مزعجاً يرهقهم، إذ نكون مضطرين للعودة إلى الجنوبي للحاق بمحاضرة ما. في إحدى العودات هذه، كان ثمة ركن نقاش ساخن هنا؛ في الجنوبي، لم أشهد بدايته. في حلقة محكمة الإغلاق وجدت وجوه سكّان موسكو التي صارت مألوفة، ووجوهاً أخرى ستصير مألوفة وأليفة، الكثير من الزملاء، وفي مركز الدائرة كان الكادر الخطابي يتحدث، يتصبب منه العرق، أصلع ذو نظارات خلفها عينان شديدتا الذكاء، كان ذلك بدر الدين عوض. بعدها بسنوات سيتأكد انطباعي عنه أكثر وأنا أستمع لنقاشاته وحواراته، ثم وأنا أناقشه وأحاوره بأفقي الفتي وقتها.. كان ذكياً جداً بالفعل.
لم أرَ مناضل بعدها لفترات، كان كثير الغياب عن الجنوبي، يظهر أحياناً ظهورات خاطفة وغامضة، يتحرك بسرعة متنقلاً بين عدد من الأشخاص وسرعان ما يختفي. أحسست أن الوقت طال في انتظار البت في طلبي. عندما أكثرت من الشكوى لمناضل أصبح يأخذني معه في مشاوير إلى الغربي والجامعة الأهلية، شمبات، منازل زملاء كثيرة موزعة في أحياء الخرطوم.. كان مرحباً به دائماً، ودوداً وضاحكاً، وجذلاً حين يتعلق الأمر بالجبهة الديمقراطية.
في الغربي – التلة، عرفت (ح.خ)، كنت أقدر كلية الفنون، كلية الآداب، معهد الموسيقى والمسرح، وأقدر طلابها، وكان (ح.خ) يدرس في معهد الموسيقى (كلية الموسيقى والدراما في ما بعد)، ذهبت معه بعدها إلى الأهلية ذات صيف.
كانت نهايات التسعينيات، كل شيء ذو رائحة خانقة، أن تكون معارضاً لهي مجازفة لذيذة، وأن تكون معارضاً ويسارياً لهي مجازفة وأكثر من ذلك.

(4)
1999 و2000م كانا أكثر الأعوام توتراً وضغطاً، قبل أن تبدأ الجبهة التنفس مجدداً بعد بداية ضخ الدماء الجديدة في عروقها بعد أحداث أبريل 2000 عندما بدأ تكثيف البناء (التجنيد)، وإن كان أكثر الداخلين الجدد من زملاء الجبهة الديمقراطية بالمدارس الثانوية. شهد العام 1999 أحداثا كبيرة ومؤثرة: الانتخابات، تأمين ذكرى محمد عبد السلام بجامعة الخرطوم، ثم إدخال جهاز الساوند في احتفالات الجبهة بذكرى 21 أكتوبر، وقضية فصل الزميلة نسرين.
كانت الانتخابات وأحداثها بعيدة عني نسبياً وأنا داخل مركز الاقتراع بقسم النفط، لا أتحرك تقريباً وبجانبي مندوب الكيزان ومندوب جماعة أنصار السنة، ويواجهنا مدير المركز ذو الابتسامة القميئة وحوله عشرات من رجال الشرطة ضاقت بهم الحجرة الضيقة أصلاً. في الخارج وحين كنت أتحرك لبدء مهمتي هذه خلّفت عاطف أنيس ينقر على أوتار عوده ويتنحنح استعداداً لبدء أغنية، بعد أن سكت الطيب شريف الذي ظل لساعات يقرأ أشعار حميد في ما يشبه منتدىً الغرض منه جمع الطلاب وإقناعهم بعدم التصويت. انتهى توتر الانتخابات عند الساعة الخامسة عندما أخلينا الجامعة. كان المصوتون في المركز الذي كنت موجوداً فيه –إن لم تخني الذاكرة- 13 طالباً فقط.
في صيف ذات العام، 1999، تجمعنا في الجنوبي صباحاً قبل أن نتسرّب إلى الغربي حتى اكتمل تجمعنا في تلك الظهيرة ثم تحركنا باتجاه السوق العربي. الكثيرون وأنا منهم اعتقدنا أننا بصدد مظاهرة ما، لكن بينما كانت التاتشرات تتحاوم حول ذلك الطابور الطويل جداً المتحرك مخترقاً المباني والناس باتجاه الشرق؛ بدأت المعلومات تنتشر وسط السائرين، كنا في طريقنا إلى جامعة الخرطوم، ثمة احتفال هناك علينا تأمينه، وهو الأمر الذي فسّر الاهتمام الكثيف بالتسليح الشخصي لكل منا، إذ أن كل واحد منا تعرض للسؤال ثلاث مرات على الأقل يومها عن وضع التسليح الشخصي الخاص به.
في بداية الطابور كان يسير الشفيع الطيب ومعه بعض الزملاء وبينهم وبين البقية مسافة، كانوا يتناقشون بصوت خفيض غير آبهين لعربات الأمن التي ترافقنا، بعد قليل صمتوا فساد الصمت المسيرة التي أثارت دهشة من قابلناهم من المواطنين في الطريق.
عند وصولنا، كان ثمة (دفار) يحمل كراسي للاحتفال يقف أمام بوابة النشاط بجامعة الخرطوم وبعضهم يحاول إقناع الحرس الجامعي بالسماح بدخول المقاعد. اتجه بعضنا بلا كلام نحو البوابة وانتزعوها من مكانها وألقوها على الأرض ودخلنا وسط النظرات المتسائلة والمدهوشة لأفراد الحرس الجامعي. على امتداد جدول في الحدود الشمالية للميدان الغربي حططنا الرحال أخيراً، مميزين –كما قيل لنا بعدها- بعبوسنا وتركيزنا العالي على ما نفعله وشيء من العدائية التي قيل إنها تظهر في حركاتنا وسكناتنا، وهي الصفات التي صنعت –إن حقاً أو خيالاً- الصورة النمطية للزميل من جامعة السودان – الجنوبي تخصيصا- في تلك الأيام وما بعدها.
لم تترك لنا مهام التأمين فرصة لحضور الاحتفال. لكن في نهاية اليوم، مساء، انتهى بي المطاف مع من سأرافقهم لسنوات بعد ذلك؛ حاتم، عمر. تحركنا على الأقدام من سنتر جامعة الخرطوم إلى الجنوبي حيث كانا يسكنان داخلية (البركل). كنت أسكن داخلية تحمل اسم شهيد ما، ملحقة بمسجد بالقرب من لفة جوبا بأركويت، رفقة بعض طلاب الجنوبي (جوكس، المؤذن فضل، الهندي حاتم، مصطفى البرلوم، نصر الدين ميكانيكا)، والكثير من طلاب جامعة القرآن الكريم وبعض اليساريين الأفارقة الذين يدرسون في جامعة أفريقيا العالمية. في طريقنا الذي قطعناه بالونسة والتعرف أكثر على بعضنا، توقفنا للعشاء ثم واصلنا، وبالقرب من (نمرة 2) حاولت عربة (بوكس) اعتراض طريقنا لكننا أفلتنا، كانت تجربة مواجهة الخطر المشترك ربما سبباً في تقوية الروابط بيننا. عرضوا عليَّ التحول للسكن معهم في غرفتهم فوافقت. كنت قد حاولت السكن في البركل كونها تقع داخل حدود الكلية، إلا أنها كانت مخصصة لسكن الخريجين كما قيل لي على الرغم من عدم التزام أحد بهذا التخصيص. قابلت –بناء على نصيحة محمد تاج السر – محي الدين النيجيري الذي يبدو أنه كان يرعب المشرف، إذ أخذني معه ودخلنا إلى مشرف الداخلية الذي بذل الكثير من الاعتذارات وأقسم جهد أيمانه بألا طريقة الآن لسكني، وكحل وسط وضعني في داخلية أركويت سالفة الذكر إلى حين توافر فرصة في البركل كما قال.
بعد يومين من احتفال جامعة الخرطوم كنت قد دخلت عالم الغرفة واحد في اتنين (1×2)، لأقابل بالإضافة إلى حاتم وعمر؛ معتز، بدر الدين، دولي، طارق (صديق)، الطيب ضو البيت وهشام (صديقان). وفي ما بعد زاد عددنا في الغرفة.
كانت الجبهة قد بدأت في تنسم العافية للتو بعد أن كان المجال تحت الصيانة بعد ضربة 97، التي حكى عنها كيريا باقتضاب أثناء مسيرنا معاً عابرين خور الامتداد في طريقنا إلى تناول العشاء بقوله: (كل زول لقى اسمو.. بعد داك خلاس) وصمت. كجزء من هذه العافية كان قرار إدخال جهاز ساوند إلى الجنوبي في احتفالات الجبهة بثورة 21 أكتوبر في تحدٍّ للوائح الجامعة. كنا متوترين للغاية عند نصب السماعات، ثم بعد بداية الاحتفال بقليل تم فصل الكهرباء فواصلنا الاحتفال من غير سماعات ساوند، لكن كان الأثر الذي تركه إدخالنا للساوند إلى الجنوبي أثراً مدوياً بالنسبة لنا نحن وبالنسبة إلى الطلاب وبقية التنظيمات، وبدأ منذها الإحساس بأننا ننمو ونزداد قوة، وهو الأمر الذي حفزنا أكثر على إدخال ساوند ومولد كهربائي بعد ستة أشهر في احتفال أبريل الدامي.
قبل الاحتفال بأكتوبر، ظهر مناضل أحد ظهوراته المفاجئة ذات يوم في الداخلية، لعب الورق، ضحك، وما كادت تظلم حتى اختفى بعد أن طلب مني ملاقاته في منزل (ناس زياد) في الديم بالقرب من الكلية. قبلها كنت أضطلع بمهام تأمينية بسيطة أكثرها في الغربي بوصفه بيئة لا تعرف عني الكثير، وذلك قبل أن أجد نفسي في الهيئة الثقافية مع شخصيات (مرعبة)، كان الاجتماع الأول للهيئة الثقافية بمنزل أمجد العطا، كان هناك بالإضافة إليه وإليّ؛ شبشة، صداح، مصعب، وطارق السيد.
 في الصباح وجدت مناضل في منزل زياد، تناولنا الإفطار وخرجنا إلى السوق الشعبي القريب. أمام بائع زجاجات البيرة الفارغة أخذ مناضل يعلمني كيف أختار الزجاجة المناسبة، كان واضحاً ومقتضباً في الشرح. بعد أن أخذنا الزجاجات (تأمينياً أخبرنا البائع أننا تجار جلسرين لذا نحتاج الزجاج) اتجهنا إلى بائع أغطية الفلين، اختبر مناضل كل غطاء على حدة بوضعه في فمه والنفخ فيه. كنا أخذنا ما نحتاجه من (كيماويات) سلفاً من الديم، لذا أخذنا أشياءنا وركبنا إلى الكلاكلة حيث اشترينا الكثير من (السلوتيب) و(صباع أمير) والورق الأبيض و(أشياء أخرى(.
في منزل خالٍ بدأنا التركيب، أنا وعدد من الزملاء الصموتين الذين أقابلهم لأول مرة، كانوا مهرة، وكان مناضل يشرح لي كل خطوة بدقة، ويعيد الشرح النظري وأنا أغسل الزجاجات جيداً وأضعها لتجف، ثم أخذ يشرح عملياً بعدها وهو يوضح نسب خلط المكونات بدقة ليكون عندنا (مولوتوف كيميائي)، كان يجيد ما يفعله تماماً بلا أدنى ريبة، ويستمتع به.
في نهاية اليوم أخذنا ما صنعناه وذهبنا إلى منزل زميل في (جبرة)، وكانت تلك زيارتي الأولى إلى جبرة وستتلوها زيارات في أوضاع ليست ودية كهذه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الجنوبي: الجناح الجنوبي لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، يضم كلية الهندسة بأقسامها المختلفة وورشها، وكلية العلوم الرياضية بميادينها، وداخليات الطلاب.
** الـ (CR's) أو (السي آرات) كما نسميها، اختصار لـ (Class Rooms) وهي حجرات دراسة صغيرة يضمها مبنى من المباني القديمة في الكلية.