هل بدأ الأمر في مطلع التسعينيات، أم كان قبله بسنوات قليلة؟ لا يمكنني الجزم، فذاكرة الطفل مخاتلة، أليس كذلك؟ لكن ما أستطيع تأكيده أن الأمر بدأ بمسلسل «الكابتن ماجد»، حين كنت أشجعه مثل أي طفل طبيعي، ضد منافسه «بسام»، صارم القسمات، القوي، الذي يكاد يكون «متنمراً» تقليدياً يكرهه الأطفال، أو هكذا أريد لهم.
كان هذا قبل أن يصدمني أحدهم بالاحتمالات الأخرى للرؤية، بدءاً من «كابتن ماجد» وحتى «باتمان»، مروراً بكل شيء بينهما يمر على الطفل حتى يبلغ الأربعين.
مقدمة ليست ضرورية.. لكنها لطيفة
يمت لي «حافظ» بصلةٍ بعيدة كما هو متوقع في بلدة صغيرة يكاد كل من يعيش فيها يكون ابن عم لآخرين. كان يكبرنا في السن - ليس كثيراً – ويكبرنا في الوعي كثيراً، بنزعة اشتراكية راديكالية اشتهر بها وسط أقرانه، وانحياز تلقائي للعدالة، يتناقض والأيديولوجيا المحلية لمجتمع بُني على قرون من التسلط، وتلك حكاية أخرى.
رآنا «حافظ» منفعلين أمام شاشة التلفاز نشجع بطلنا «ماجد» ونحن نكاد نرفع أقدامنا خلف رؤوسنا في جلستنا القلقة لنسدد معه «الضربة السريعة» أو «الضربة الساحقة»، لا نرمش محاولين اختزان ما نستطيع من المشاهد لنطبقها لاحقاً في هستيريا فاقت تلك التي أصابتنا قبلها، حين حرسنا ورش الحدادة ونبشنا مخلفات الحديد لصنع سيوف تشبه السيف المعقوف لـ «رماح» في مسلسل «غضب الصحراء» مع ما صاحب ذلك من جروح ورضوض حتى انقضت الموجة.
جلس «حافظ» بيننا وهو يشجع بسّاماً بصراحة رأيناها وقاحة، وهو ما فجر نقاشاً بيننا عقب انتهاء الحلقة، فكيف لا يشجع البطل، الحريف، اللطيف، المنتصر دائماً، مرتدي الأبيض، والأبيض هو نفسه، ويستبدله ببسام القوي، الغاضب، الخشن، ذي الشخصية القوية، الأسود؟ (لأكون صادقاً مسألة اللون لاحظتها لوحدي لاحقاً ودفعتني للبحث عن دلالات اللون في الكوميكس والرسوم المتحركة)، إنه الشرير يا رجل! شرير نموذجي، ألا ترى؟! إلا أن ما صبّه على تساؤلاتنا المستنكرة يومها، على بساطته، علمني كيف أنظر إلى خلفية كل شيء أولاً، أحللها، ولا أكتفي بالاقتراح المباشر المعروض أمامي. لقد غيّر الطريقة التي أنظر بها إلى الحياة، وأيضاً أفسد عليّ متعة بعض القصص المصورة والأفلام في متبقي أيامي.
قال إن بساماً ولد مكافح، يتيم من الطبقات العاملة الفقيرة، يكدح طول اليوم ليرعى أمه وأخته، وفوق هذا يجد الوقت والطاقة والرغبة ليلعب وينافس الكابتن ماجد، المدلل والمرفه، ابن الطبقة البورجوازية حدّ أن لديه مدرباً برازيلياً خاصاً، والغني حتى إنه لا يشغله شاغل عن التدرب ومطاردة عشقه – كرة القدم – ببطن ممتلئة دائماً. كان «حافظ» منحازاً إلى بسام فهو يشبهنا كما قال، ومعادياً لماجد فهو ليس نحن، ثم لاحقاً في مسلسلات أخرى ظل وفياً لوعيه الطبقي ذاك، فشجع «قط البكتيريا» ضد «رغيف العجيب»، وشجع كل شرير صورته الدراما عدواً لأصحاب الأعمال ومالكي المصانع والأرستقراطيين.
لماذا فارس الظلام؟
لطالما شدّ باتمان انتباهي منذ قابلته على صفحات مجلة كوميكس تحمل اسمه، مطبوعة على ورق جورنال رخيص، ومكتوبة حواراتها بخط رقعة يدوي عجول. فهذا «البطل» لم يأت من كريبتون، ولا عضت يده عنكبوت مشعة، لا يمتلك أياً من القدرات الخارقة المتعارف عليها للأبطال، عدا القوة الأهم: المال، كما قال هو نفسه في فيلم «عصبة العدالة» الأخير.
حسناً، باتمان بشري عادي، لذا فهو النموذج القابل للتمثّل بالنسبة لمن يتوق إلى أن يصير «بطلاً خارقاً»، من دون تغيير في الـ «DNA» مثلاً. لذلك ظللت أستخدمه دائماً للمقارنة والتحليل في ما يتعلق بشؤون الخارقين وخياراتهم وحيواتهم، وتأثيراتها على الوعي الجمعي لمن يتعرض لسلطتهم طفلاً، ثم بعد ذلك، ليصير – تلقائياً - أعداء البطل الخارق أعداءنا، وأصدقاؤه أصدقاءنا، لذا فإن إمعان النظر في من هم أعداء باتمان وأصدقاؤه، أمر يستحق الحديث عنه.
ومثلما تعلمت مبكراً من «حافظ»، فإن تتبع سيرة فارس الظلام، ستلخص كينونته حقاً، بعيداً عن تزويقات البطولة المنتجة من الرغبات الدفينة لمخترعي الشخصيات، وسعيهم اليائس إلى انتصارات مثالية على خيباتهم الذاتية. أول ما أمكنني ملاحظته، أو التقاطه من سياقات عالمه، هو أن باتمان «يكره» الفقراء، لذا لن تجدهم في عالمه إلا مجرمين، أو خاضعين لسلطته، فهو نقيضهم في كل شيء، ونقيض ما يمثلونه.
لقد قتل فقير والدي بروس وين، من أجل المال، ولم تفلح إعادات التأويل اللاحقة التي ربطت مقتلهما بمؤامرات أخرى؛ في محو التأسيس الأوّلي أو حجر الأساس لشخصيته، لذلك يبدو مفهوماً تركيز «حملته الانتقامية» تجاههم، في تعريف سطحي مبتذل لماهية «الجريمة»، وليس تجاه المؤسسات الشبيهة بمؤسساته، التي يستهدفها في العادة من يتم تعريفهم بأنهم مجرمون.
إن النظر طبقياً إلى باتمان، يرينا من هم أعداؤه الحقيقيون: الفقراء، الناس العاديون، المتمردون على السلطة، المعترضون على التفاوتات الطبقية، المتميزون... الخ. فيما تضم قائمة حلفائه الرأسماليين، الشرطة، وبقية الخارقين!
خارقون في لباس العم توم
ينحاز أبطال فقراء مثل الرجل العنكبوت، وفلاش، إلى القيم نفسها التي يقاتل من أجلها أثرياء مثل توني ستارك وبروس وين! أليس هذا غريباً بعض الشيء، أن تكون أولويات «السوبر هيروز» هي أولويات رأسمالي عادي لا يرى غير استحقاقه في العالم؟ بالطبع يحاول صناع الشخصيات جعل المبادئ العامة مشتركة بين الجميع باختلاف مواقعهم الطبقية، وهو تزييف هش وطفولي، لذا يجعلون من المنطقي إهدار قوى خارقة للغاية في مطاردة «مجرمي الشوارع» كما يسمون، بدلاً من حل مشاكل أكبر مثل الفقر وتدهور البيئة وسباق التسلح والاستغلال، أو حتى «السلام العالمي»! واستبدال ذلك بمساعدة الشرطة (التي توجد بالأساس لحماية الأثرياء ونظامهم من الفقراء) على قهر المزيد من المعدمين المضطرين للسرقة طالما أنهم يحاولون الحياة برغم الشرط الرأسمالي المصمم ضدهم.
إن الخلط المقصود بين القانون والعدالة، ينتهي به الأمر إلى صنع المزيد من «العم توم» في العالم، صنع المزيد من رجال الشرطة، والجنود، والموظفين ذوي الطموحات الخفيفة. هذا الخلط يجعل الأبطال الخارقين موظفين لدى باتمان/بروس وين، ويجعل الأطفال يكبرون ليكونوا موظفين راضين عند بروس وين/ باتمان.
الأبطال الخارقون حلفاء القانون وليس العدالة، القانون المفصل للحفاظ على التراتبية الاجتماعية، وحماية الأثرياء. مجرمو القصص المصورة والرسوم المتحركة هم حلفاء العدالة وأعداء القانون، لذلك حين نعاديهم فإننا نعادي فرصنا للعيش بعدالة.
وضع الأوساخ تحت السجادة
على الرغم من المحاولات المستمرة لتحسين صورة فارس الظلام من خلال القصص الفرعية للشخصيات الثانوية مثل الجوكر وألفريد وهارلي كوين وروبن، إلا أنها لم تستطع أن تمس جوهر الشخصية ودلالاتها، بل عمقت موضعها الطبقي أكثر، مثلما فعل مسلسل بينورث «Pennyworth» حين يرينا كيف تكونت ثروة عائلة وين من خلال علاقات السلطة وتكافلية النظام نفسه، التي فتحت لعميل المخابرات توماس وين أبواباً مفاتيحها لا تتاح إلا لربائب النظام وخدمه المخلصين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق