حكى "بلل الشيب" الراعي ذو العشرين سنة، القادم من نواحي ود حسونة والمسمى على خليفة ود حسونة، أنه أطلق النار على سحَّار بسلاح بدائي يصنعه الحدادون في فيافي البطانة، يستطيع حمل رصاصة كلاشنكوف واحدة في كل مرة.
يقول "بلل الشيب" وهو يرتجف، إنه كان سارحاً بالضأن في الخلاء نفسه الذي ظل يسرح فيه منذ بلغ السابعة، لكنه في تلك الليلة أحس بما أحست به بهائمه، بخطر أكبر من البعاشيم1 والقطط البرية. رأى دهمةً فظنها مرفعيناً، صوّب سلاحه ثم أطلقه، فهدأت البهائم.
في الصباح رأى ما جعل الكوابيس تطارده صاحياً ونائماً. وضعه أهله في عهدة فكي2 سيذهب عنه نوبة هلعه التي استمرت سنةً أو تزيد، عاد بعدها للعمل راعياً، ولكنه يعمل فقط داخل البلدات ويسرح حولها.
ثلاثون عاماً مرت منذ حكى لنا "بلل الشيب" حكايته تلك ذات أصيل، ونحن المكذبين للخوارق نتابع تغيرات وجهه وانسحاب ملامحه والذعر الذي يكتم أنفاسه. بعدها بيومين، أخبرنا الكبار أن نترك الراعي الفتي وشأنه، فإن عاودته الكوابيس سيذهب عنا، وإننا ذكرناه بإلحاحنا ما أنفق سنوات لينساه.
2
في منتصف الثمانينيات، حكت جدتي في ونسة نساء أثناء طقس قهوة كنت حاضراً فيه، لظنهن أنني أصغر من أن أفهم؛ أن ابنة جارتها تمرعفت3، بعد أن تزوّجت رجلاً من قبيل يسكن حدود السودان وأفريقيا الوسطى. قالت النساء إنه صنع لها عملاً لتتزوجه وهي من هي حفيدة شيخ الهوي4، وهو من هو.
عندما عثروا على البنت بعد مغامرات وأهوال في عوالم السحر الغربي؛ وجدوها ترعى غنم زوجها وهي مطوّقة بمئات الحِجْبَات5، نزعوها عنها، وقصوا أظافرها – تماماً مثلما في الأحاجي6 - فعاد إليها وعيها وعادت ذاكرتها وبدت كمن استيقظ من نوم طويل.
نجحت مغامرة استعادة البنت من تلك الزيجة الملعونة، ولم يكن تطليقها صعباً. لكن لاحظ أهلها بعد فترة أنها تتمرعف في ليال بعينها وتنقلب سحّاراً، لاسيما إن كانوا يستضيفون غريباً، فتتغير، وتنمو أذناها، ويجش صوتها، وتبرز أسنانها، وتطول ساقاها، ويكبر جسدها حتى إن العنقريب7 يطقطق من ثقلها.
أخذوها في رحلة جديدة للعلاج لدى شيوخ لا حصر لهم، حتى اختفت سيرتها، ولم يعد يذكرها أحد بتواطؤ جماعي مريب، إلا لماماً في جلسات القهوة وسط روائح البن وطين الخريف وصندلية الجدات.
3
حكت لي أمي، قصة الرجل الذي سلمه الله، حين بات من دون علم منه في حِلَّة السحاحير في مكوار، لولا أن كانت لمضيفه السحار بنت مؤمنة، فزجرت أباها وأمها حين تمرعفا على رائحة الضيف.
أمي راوية قصص تعجن الخيال حرفياً في كلماتها، تجعلك تتخيل كل شيء، كل تفصيلة وكأنك بداخل الحكاية، لذا رأيت حلة السحاحير بعيني الرجل الذي سلمه الله، رأيت الخور، والمباني، والنهر، والأبواب، وظللت ساهراً مع الرجل أسمع زمجرة السحارين وهما يتحولان حتى يطقطق العنقريب – كعادة السحاحير، ثم يعودان إلى طبيعتهما بعد زجر البنت لهما وتذكيرهما بالعيب الذي سيلحقهما إن أكلا ضيفهما.
4
هناك فرق بين سحار البَحَر وسحار البر، فسحار البحر لا يتحول بين الحالتين الإنسانية والمرفعينية، بل هو كائن ثابت على حاله السحاريّة، لكن سحار البر على العكس منه يتحول في أيام معدودات إلى كائن أخمن أنه المستذئب بدلالة الفعل «تمرعف» من المرفعين أو المرعفين وهو الذئب، في حين يبدو أن سحار البحر "النهر" حسب قصصه المرتبطة أكثر بالنيل الأزرق، هو مخلوق أو وحش مائي لم يتم جمع معلومات كافية عنه، ربما لندرته وصعوبة الوصول لمكان عيشه داخل النيل، ولندرة هجماته على القرى والبهائم، لذا اكتفى الواصفون له بدمغه باسم السحار كسلاً من البحث أكثر عما يليق به.
أشهر سحاحير البر يسكنون "مكوار" وفقاً لكتاب الأساطير المحلي في بلدتي، ومكوار هو اسم شعبي لسنار، لكن بالنظر إلى العداء والحروب بين بلدتي وسنار عاصمة السلطنة على أيام الفونج، فيبدو طبيعياً بالنسبة لي دمغها بأنها بلد السحاحير ضمن حروبات الوعي والتاريخ والمنافسة على الصيت والمكانة، هذا قبل أن تضمر البلدتان إلى مجرد حبتين في مسبحة الريف المنسي إلا في المناسبات المتباعدة.
ب. أب لمبة
أب لمبة، أو طافي لمبة، أحد المخلوقات الأكثر حضوراً في فلوات البطانة وخلاء الجزيرة، فله قصة مع كل واحد، وإن لم يره أحد، فمن يقترب منه كثيراً سيتم العثور عليه ميتاً متيبساً والذعر في عينيه. لكنني أخمن من الأوصاف التي سمعتها ومن مشاهداتي عندما كنت صغيراً أنه نشاط لمركبات فضائية تجوب تلك الفيافي. يتحرك ضوء أب لمبة بسرعة شديدة، كما أنه يتحرك بزوايا مستحيلة أيضاً.
حكى ابن خالي "محمد"، عن هروب صديقه من معسكر التجنيد الإجباري في نهايات التسعينيات، لرغبة حارقة التصقت به مثل الحكة في الذهاب للبيت وتناول المفاريك بالكسرة والشيّات بأنواعها8.
بعد صلاة العشاء تجاوز السور وزحف في الأرض الوعرة بين الأسلاك الشائكة حتى استطاع المرور من خيام التأمين، فنهض وركض، إلا أن الحراس رأوه فطاردوه بسيارة، لكنه ظل يركض متخيراً الأماكن الوعرة ومتستراً بالظلام حين اقترابهم، قبل أن يعود مرة أخرى بعد تضييعهم إلى الطريق الترابي الذي يذهب صوب ما يظنه اتجاه بلدته على بعد ثلاثين كيلومتراً.
استمرت المطاردة بعض الوقت قبل أن يرى أب لمبة يتجه إليه بسرعة، رأى الحراس يعودون أدراجهم هرباً من الضوء فشعر بالارتياح، ولأنه لم يكن يؤمن بالخرافات، لم يغير اتجاهه حتى اصطدما، ففقد وعيه حتى الصباح حين عثرت عليه دورية الجنود وسط كومة من أغصان الكِتر9 يخترق شوكها جسده كله، وكان على بعد مئات الأمتار من الطريق.
2
شاهدت أب لمبة، أو ما أظنه أب لمبة، للمرة الأولى؛ عندما كنت في السابعة من عمري تقريباً. قررنا ذات خريف الدخول إلى سهل البطانة متجاهلين تحذيرات الأهل بعدم الابتعاد عن حمى البلدة. كنا نأمل أن نرى الثعالب والبعاشيم والأرانب البرية والغزلان إن بقي منها شيء بذلك القرب من المناطق المأهولة، وهو أمل طفولي بالطبع، فعلى طول أربعين كيلومتراً شرقاً تتناثر البلدات والقرى ومشاريع الزراعة، فلم يعد يجرؤ حيوان بري سوى بعض الأرانب الغبشاء على الظهور قريباً من هذا التسمم البشري، ولكي نرى ما نريده، كان علينا الغوص أبعد بكثير وهو ما لم يكن متاحاً لصبية وأطفال يسيرون على أقدامهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع بعشوم وهو الضبع
2 شيخ صوفي معالج
3 صارت مرفعيناً
4 الهوي – الهوج: غرب النيل الأزرق
5 جمع حجاب وهو التميمة
6 الأساطير الشعبية التي تقصها الجدات للأطفال
7 سرير شعبي
8 المفاريك هي الأطعمة اللزجة التي تُفرك بأداة الطبخ الشعبية "المفراكة" وغالباً تتكون من البامية أو الويكة أو الملوخية الطازجة. الكسرة هي خبز الذرة البيضاء. الشيات هي المشاوي
9 شجرة شوكية من نوع الأكاشيا
* اللوحة من رسومات كتاب الأحاجي السودانية - عبدالله الطيب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق