الاثنين، 28 مارس 2011

نشادر


محفوظ بشرى
      
(1)

ما بعد العام 2003م، جامعة الخرطوم. الصيف يدخل بوابات الجسد، يحتل في الذهن مناطق كانت من قبل تشغلها ذكريات المدارس الإبتدائية، وحمى السحايا الشعبية، وإحساس مداري عمَّق طعمه فينا ماركيز وأمادو. الصيف، وبقية من حرارة تتآكلنا، نحن ثوريو ما قبل تلاشي المعنى والقضايا، المتمردون، بدوغمائية أغرقنا بها مشاتل التفكير باتساع كل الجامعات.

قال عبد الرحيم: (ولد عجيب، بيكتب شعر مفاجئ، لازم تسمعو). كان في نفسي شيء من آثار فلسفة مادية تأبى أن تندهش. كان في نفسي ذلك الغرور الصفوي بأننا قد ملكنا مفاتيح الحقيقة المطلقة. كان الوقت أكثر شباباً من أن يعترينا الذهول.

على حافة رصيفٍ بها شيء من الحدة، جلسنا. الوقت بعد الظهر، بتلقائية آلة، وبترددٍ لم يولد لديه، أنزل حقيبة الظهر المثلثة وقرأ:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ/ وامْتَطَتْ ذاتَ الْمُغَنِّي/ فَتَّتَتْ حزنَ دِمَاه/ فأشاعَ الطُّهْرَ في الجَّوِّ ومات.

كانَ النَّشادرُ يغمُرُ الأقدامَ بالحِنَّاء/ بالحزنِ المقيم/ بالشهوةِ... الأوجاعِ/ نظراتِ الرِّجالِ الضَّاربينَ غُرُوبَهم في غَرْوِ بَادِيَةِ الشّروق.

صَلَّيْتُ بالرُّوح/ فى هَوَجِ التناسلِ والتلاقحِ/ دونَ عُذْر/ صَلَّيْتُ حتى اْرْتَابَتِ الأشياءُ/ واهْتَبَلَتْ مساماتُ السَّمَاء/ ونَشَقْتُ أشرعةَ النشادر. كان وَعْيُ الماءِ وَعْيِي/ كنتُ فى لاوَعْيِ وَعْيي/ أتَدَاعَى بالهطول/ للمجاعاتِ سمائي/ للمدامعِ ما أرى*.

للحظةٍ نظرتُ لأعلى، بدت الأشجار شاهقة، وكأن هنالك من حثا تراباً ساخناً بقلبي، الدوي، الدوي. إستعدته القصيدة من أولها، وبذات التلقائية، بدأ من جديد:

النَّشيد الأول:

الرُّوح... مساءُ النَّشَادِرْ... طِبَاعُ الأرض:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ........

(إسمك منو؟)

(أحمد محمد إبراهيم).

(بتقرأ وين؟)

(في الإسلامية.. طب).

كانت الأسئلة تتقطم دون أن تفصح عما أردت، كانت الأجوبة أكثر براءة من رنينها السريع. أمعنتُ ذاكرتي بالفتى النحيل حد أن تشتكي الثياب، الوجه المبتسم، صغير السن حتى بالنسبة لي. أمعنتُ يقيني في داخله الخارجي. موسومٌ كصاحب الوقت، حركة دائمة في سكون مقلق.

قلت لعبد الرحيم ليلتها: ( الود ده جبتو من وين؟).

بعدها اغتبنا روحه مشرحين ذراته بحسدٍ لذيذ. (يالعاديته التي تصدم بتعقيدها، يا لقربه العميق جداً). كان ذلك ما قلته في نفسي وأنا أتهيأ للرحيل خارج المدينة.

(2)

لن تعرف صدق الرجل إلا مما يكتب.  فإن قال، فلن تميز الصدق من الخيال. أحمل معي وريقات بها القصيدة كاملة، قرأتها قبل أن أقرأها، استوقفتني شهوات مشاغبة تتناثر في متن النص، كنا نرى أن التعبير المباشر عن غريزة الجسد الأولى، يفسد النشيد الشعري، كنا نلمِّح بأبعد ما نستطيع، حتى جاء هو ليقول بكل بساطة: تَرْقُصُ الْحِنَّاءُ فى عينيكِ/ يَرْقُصُ الصَّدْرُ الْمَضِيقُ الكَثُّ/ دهراً/ أشتهيكْ/ أتَعَالاكِ عَلَيّ/ ثم أنسلُّ كجرحٍ نَاعِلاً حزني/ وألْعَق**.  وذات قلق، هاتفت أحدهم ليخبرني دون تعمد أن الإسم صار (أحمد النشادر). لست على يقين بمن جاء بالإسم، ربما عبد الرحيم، ربما.  ورغم لقائي القصير به، لكنني رأيت كيف أنه في بداية أن يصير النشادر داخله، هو النشادر الذي يراه الآخرون، أو هكذا إعتقدت.

(3)

الأول من يوليو 2008م، صيفٌ شاخ سريعاً، الخرطوم، شارع البلدية. قال مأمون وهو متعجلٌ كالعادة: (إنت وأحمد حتقوموا تظبطوا المسائل، تعال ألاقيك برئيس التحرير). كنت متوجساً، فيما بعد صادفتني مقولة رامبو: (في نفسي ذعر من جميع المهن)، سبب آخر للتوجس كان هو أحمد النشادر. كنت أعرف مأمون، إلتقينا كثيراً في عصر الفوضى من حياتينا، أفهمه، أستطيع التعاطي معه. لكن النشادر.. كانت لقاءاتنا دائماً سطحية، سريعة، نتفادى فيها الإحتكاك. كنا حذرين من بعضنا دون مبرر غير أننا نخاف الصداقات الجديدة ربما. وانا أعبر صالة التحرير المكتظة، نظرت إليه بخواء يخفي تحته توتراً مخجلاً، نظر إليَّ نظرة خافتة.. وابتسم.

الأيام الاولى كانت صعبة، فجأة بعد غياب عامين عما يسمى بـ(المشهد الثقافي)، يجب علي أن أعمل داخل هذا المشهد الذي صرت لا أعرف عنه شيئاً. لم يتذمر، لم يظهر التأفف، على الرغم من أنه كان ينجز ثلاثة أرباع العمل. شيئاً فشيئاً، بدأت أراه. خرجت من أسر الصورة الأولى لفتى نحيف صغير السن وبرئ يقرأ علي (كتاب النشادر)، خرجت من صورته المعقدة التي لم أرها مباشرة ولكن عبر (الجينوم.. قنصل الأبد). هنا شخص آخر، شخص تمنيت أن أكونه أكثر من مرة.

(4)

لستُ النشادر، ولا ينبغي لأحد أن يكون. أن تقول في شخص ما تراه فيه، أمر عصي، تزداد صعوبته كلما زادت محاولاتك أن لا تكذب فيما يخصك، وأن لا تسقط في فخ المديح الرخيص. لست النشادر لأنني لست فناناً، لأنني لست واضحاً، لأن لدي ما أخفيه، لأنني لا أبتسم بصدق، لأنني أبالي بالتفاهات، لأنني لا أستمتع، لأنني لا أبتكر طرقاً جميلة لأتذوق خارج حدود المنطق والمألوف. لست النشادر لأنني أنا، سجينٌ، خائرٌ، مستهلكٌ، خاسرٌ، منغلقٌ، وأسأل حين لا ينبغي السؤال.

لا أحد النشادر، لأن لا أحد يملك القدرة لتحفيز من هم قريبين منه ليخلقوا أياماً أكثر قابلية لأن تعاش.

لا أحد هو النشادر، لأن لا أحد سيقول:

إنَّنِي النَّايُ/ زفيرُ الحُبِّ مِنْ فَمِ إمْرَأة./ حاشداً فِيَّ عصافيرَ سجينة/ حُرقةً/ أَنَّات طَلْقٍ/ كان أنْ حبلَتْ مسامي واْحترقْتُ/إنني النَّايُ/ مبعوثُ الرِّئَاتِ/ وملاءاتي الفَرَاغ/ عارفاً صمتي/ ومُؤْتَزِرَاً كتابي/ نافذاً صوتي / مُحَاطاً بالأثير/ أعتلي السُّمْرَةَ لوحاً / يرشفُ النَّاجِينَ مِنِّي من مُكَابَدَةِ الزَّفير***.

(5)

28 أكتوبر 2008، صحيفة الأحداث، صفحة 14: وسادة تنوّع مفترس. الخرطوم: أحمد النشادر. (وسادة هادئة من التنوع المفترس، ما يمكن أن يسيطر عليك وأنت تضع بصرك على مدخل معرض مركز توقيذر للفنون...الخ)****.

كان هذا آخر عمل صحفي له كمسؤول عن الملف الثقافي لصحيفة الأحداث، بعدها، إنتهى عصر النشادر. كنت موزعاً بين رغبتين، أن يظل، وأن يذهب ليصبح ما يريد أو ما يراد منه. فذهب هكذا، بسيطاً كمن لم يفعل شيئاً، كمن لم يخلخل الذائقة ويشكلها كما يريد. (دبرها أحمد النشادر)، تلك الحياة الذهبية، تلك الحوارات التي تنتظر. ما فعله النشادر في صحافة الثقافة، لن يُرى الآن. يوماً ما، سيكتشفون (هم) أنهم كانوا تلاميذاً لزمن طويل في مدرسة أحمد النشادر. تلك المدرسة التي ضد الملل. المدرسة التي تجعلك تنظر بأكثر من عين وتسمع بأكثر من أذن. مدرسة الغريزة التي تصيب وتصيب. فيما أذكر، أنه كان الأكثر تفهماً للحاجات البشرية (ومنها حاجاتي حين يطلب مني أن أسافر لمدة يومين مثلاً).  كان الأكثر قدرة على توليد الأفكار الجديدة، والأكثر مجازفة بين من عرفتهم.

(6)

هو موت جنون العظمة، إنتصار المجموع، تصالح التناقضات، كاريزما التساؤلات الحصيفة، فضيحة الإنسان في وجوده، شعرٌ مشاكسٌ يخدش عباءات (مريم الشجاعة) الزائفة، وسذاجة (شرف والأسد) المخيبة للآمال. عراقة تتكون في شرط فسادها بعلاقات التأجج الموحية. هو القميص، القميص.

(7)

............................................

.............................................

.............................................

(8)

كل فصول الصيف، وخريف أخير، كل ضحكات الصباح الهستيرية، كل حوارات الشارع ونحن نجمع المواد، كل التمرينات التي دربنا بها أذهاننا على ابتكار المفاجأة طي الروتين، كل أوراق الأشجار التي استرقت السمع لكتاب النشادر، كل الليالي المفعمة بالإرهاق وعشوائية البرامج المعدة سلفاً، كل نميمة بيننا عن الفلاسفة والدوبيت والشعر (أبو ضلفتين)، كل الخبث الساذج الذي جعلنا نضرب في الأرض بحثاً عن مشروع لم نتفق عليه ولم نعرف ملامحه حتى، كل الصفحات التي مُلئت بمضادات العادية الحيوية، كل الوقت الذي انقضى بيننا عن قرب ( 1920 ساعة)، كل هذا هو النشادر.

يناير 2009م

إحالات:
* كتاب النشادر - النشيد الاول
** كتاب النشادر –  النشيد الثاني
*** كتاب النشادر  -النشيد الثالث
**** تقرير للنشادر عن ورشة تشكيل بمركز توقيذر
عبد الرحيم: الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل
مأمون: الشاعر مأمون التلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق