الاثنين، 28 مارس 2011

إلى صديقي أحمد: (يرهقني البشر )

محفوظ بشرى
صديقي أحمد:
أكتب مخاطباً إياك، لأنني شعرت بحاجتي لأن أقول لك، تلك الحاجة التي كانت في تلك الأيام تتمخض عن حوار أشبه ما يكون بحوار (الطرشان)، فقط محض إيماءات وإشارات مبتورة لمن لم يكن أينا، لكنها في عميق حقيقتها كانت إكمالاً لفجوات تفاصيلٍ صارت أكثر من مُفَكَّرٍ فيه في الآن واللحظة، كانت أكثر من ذلك، تندرج ضمن نسيج حياة متغيِّرة نحياها، تفاصيلها تروغ وتنزلق وتتلاشى حين نكاد نلمسها، لكننا ما فترنا من ملاحقتها،  تلك الملاحقة التي أعتقد الآن أنها ما يُسمى الحياة.
كانت الأشياء واضحة، ثمة خير وشر، صواب وخطأ، كان الهدف جلياً بما لا يقاس، ساخناً، يكاد يكون حقيقة،  وكنا أكثر شباباً من أن نرى كيف أن الأشياء لا تسير وحدها فقط؛ ولكننا نسير كذلك. أما الآن، فلا أعرف أي اتجاه سيفاجئ أنفي بلطمة الصديد.
صديقي أحمد:
أرهقني البشر. هذا الأمر ليس جديداً، وأنت تعلم ذلك، كثيراً ما قلت لك إن البشر يرهقونني، فهم يسببون لي ارتباكاً حين أحاول فهمهم. أخبرتك ذلك، في تلك الأيام الصفراء حين كنا نحتسي خيباتنا الباردة، حين شعرنا لأول مرة باللدغة التي أيقظت ما كان في سبات الإيمان. أنت تذكر بلا شك تلك الأيام التي تلونت فجأة بالرمادي، أوان اكتشافنا أولى قطرات ما كان جامداً حتى بدأ يسيل بفعل حرارة المحكات التي تتالت لتفضح أي نتانة كانت تختفي خلف تلك المقولات الزاهية. أرهقني البشر، بلا شك أن ذلك كان من نبوءاتك السرية التي لم تطلعني عليها، أثق في هذا، لأنني أثق بك، أنت، آخر مسمار يجعل لهذه الكلمة معنى ما، يكفي لأن يكون ملاطاً يمسك هيكل ذاتي، ويلصق أجزاءه ببعضها. لم تكن ثقتي عمياء كما يقولون في الأدبيات القديمة، ولكنها كانت إيماناً آخر يوازي ما تورطت في فقدانه، الإيمان الذي غاب وقت أن تبدى عدم الرضا، ثم بعد أن حل محل الأجوبة التي كانت تكفي لإسكات ذلك الطفل الجائع المتسائل باستمرار عن جدوى وجوده، وعن جدوى جدوى وجوده ذاتها، الطفل الذي لم تشبعه المسلمات الجاهزة لتبرير كل شيء بالوصول به إلى نقطة ما بعدها إلا الانقلاب على ما يمكن أن يؤدي إلى عالم آخر بسيط وملون بألوان لا تستفز بذلك الخلط اللانهائي الذي يفرخ لوناً كل رمشة عقل.
 أرغب في الثرثرة معك، الحديث عن أشياء عادية للغاية، سكونك وسكينتك حين تراقب قلقي ونفاد صبري، أرغب كثيراً في بعزقة الوقت في سياق عبثي لا يفضي إلا إلى طرفة (بايخة) تضحكنا. وفي ذات الوقت أحتاج أن أتجاذب معك حياكة الأفكار ونحن نجدف نحو الأعمق في إحداثيات لم نتوقف هنيهة لنتساءل عما إذا كان أحدهم طرقها قبلنا.
(كل خطاب هو خطاب مضاد، بالنسبة لخطابات أخرى «حتمياً»؛ أو بالنسبة إلى عناصره الداخلية «افتراضياً»، مما يعني أن البحث في قراءة العناصر الداخلية للخطاب والعمل على تعرية آليات اشتغاله المخفية؛ يؤدي إلى صنع خطاب موازٍ صالح للتحطيم، بما يحطم الخطاب الأوَّلي). أترى؟ لا زلت أذكر تلك البداية التي لم ندرك - رغم بدائيتها وسذاجتها - إلا بعد وقت، كيف غيرت مسار الرؤية، وكيف بعثرت المسلمات التي سوَّرت الطريق الذي صعب تركه. لا زلت أذكر، الثورة الحارة السابعة، بالقرب من منزل (ناس أكرم)، بيت بلا سقف، المغربيات الدافئة، محاولة ابتكار (منهج) لقراءة ما يبدو غامضاً، انطلاقاً من أن الغموض ثياب تخفي ما يفضح، وأن علينا تعلم كيف نخلع من الخطاب ثيابه، فالعري مرحلة أولى لمعرفة ما تحت الجلد، مرحلة أولى قبل التشريح.
أذكر جيداً كلما غامت الرؤية كيف بدأ كل ذلك، وإلى أين وصل بنا، أذكر المحاولات الأولى لاختبار الفرضية، نماذج الخطابات بسيطها ومعقدها، أذكر الصعوبة والجهد ونحن نحاول التفكير صامتين كل على حدة، أذكر محمد سبيلا، الآيديولوجيا نحو نظرة تكاملية، آفانا سييف وأسس المعارف الفلسفية، أذكر دهشة اكتشاف كم الجمود الموجود في المذاهب التي تحارب الجمود، كل ذلك وأكثر، شكل أولى قطرات الشك، الشك المقدس، الذي أفضى إلى العدم أولاً، ثم إلى تعلم كيف تُقرأ الحقيقة غير الموجودة في إطلاقها المحكي عنه.
أتعرف أن المفهوم الطريف الذي وضعناه لعلاقة الإنتاج لا يزال يحكم بعض مواقفي تجاه العلاقات الاجتماعية؟ أمر مدهش هذا، حين أتذكر أن المتعة تصلح لأن تكون قيمة محسوبة، لها ثمن، ولها سوق، أنا أتحدث عن المتعة بإطلاقها وليس عن نوع واحد.
صديقي أحمد:
كما كنت أقول، البشر مرهقون، فهم غير واضحين، أعني أن تعقيدهم من النوع غير الواضح، وهذا يرهقني. إنهم يفعلون كثيراً من الأشياء لا لأنهم يجب أن يفعلوها، ولا لأنهم يريدون فعلها، ولكن لسبب لا أعرفه، لا تبدو لي الأمور منطقية. قد تسألني: وما المنطق؟ نعم، ما المنطق. هل أصلح أنا أو أنت أو أي واحد لأن يكون منتهى ما، نموذجاً، الثابت الذي تقاس به الأشياء؟ هل من حق أيٍّ كان أن يحدد، أو أن يحكم، أو أن يضع القيمة؟
إن كانت الإجابة لا؛ إذن ما الذي يحدث؟ لماذا نحيا سلسلة من الأحكام والتقريرات بناء على منطق ما أو بناء على هوى؟
وإن كانت الإجابة نعم؛ كيف ولماذا ومن أين جاء هذا الحق؟
إنها الفوضى بلا شك يا صديقي، الفوضى الجميلة التي يخافها البشر لسبب ما لا يفصحون عنه صراحة، الفوضى التي أحلم بها سراً، وأعرف أنك لا تحبذها مثلما لا تحبذ القوانين. هل أنت متناقض؟ هل سألتك هذا السؤال قبل الآن؟ لا بد أنك لم تجبني لو كنت سألتك.
صديقي أحمد:
أتحدث إليك، وأعلم أن حديثي هذا يشبه أحاديثنا القديمة، محض إشارات وإيماءات تكمل فجوات وأحاديث لا تكتمل، ونحن نحلم بالتليباثي ليكفينا مشقة نقل الأفكار بطريق الصوت، تلك الترجمة التي تحدثنا عنها مراراً، وكيف أن الفكرة حين تقطع الطريق بيني وبينك تكون فقدت الكثير، تصل ناقصة ربما، أو تتغير عند مرورها بأوساط مختلفة الكثافة. لكن الكثير حدث، منذ تلك اللحظة التي أدركنا فيها أن هنالك ما يسمى الخطاب، وحتى الآن، وأنا أرى كيف كانت بداية متواضعة وتفتقر إلى الضبط اللازم للتحول إلى نمط، إلى أداة مطاطية تصلح لأن تتمدد بمرونة مذهلة لتحتوى الكثير، تصلح – في ظني – لقراءة على شيء من الوضوح، صانعة ما أحب أن أسميه (التحطيم) في انحياز سري لـ لوكاش، لكنه تحطيم فوضوي (لا زلت أظن الفوضى شيئاً جميلاً) ينتفي منه الهدف بتقليديته المدرسية الكابية.
صديقي أحمد:
أتظن أن يوماً سيأتي ويطعن محاولات التحلل من القيود بإثبات ضرورة القيود؟ أقول هذا لأنني أظن أن الضرورة هي ما تبقى من وقود يحركني، لكن في اتجاه فهم أنماط الضرورة ومحاولة الانفكاك منها، والضرورة ربما كانت قيداً كما أستبطن، لكن كما قيل لي؛ طالما أنني أموت؛ فلا فكاك من القيد، لذا أكره الموت.
صديقي أحمد:
متى سيختفي النعت من اللغة؟ متى ستصبح الأرقام محض أرقام؟ متى ستتوارى التعابير التي تحط وترفع؟ متى سيصبح البشر بشراً؟ متى سيموت الموت؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق