محفوظ بشرى
قبل أن تخفت أصوات الاعتراض على ما تبثه الفضاءات المفتوحة عبر شاشات التلفزيون إلى العقول التي ظلت مسجونة داخل الجغرافيا المحلية هنا؛ بدا وكأن هذه الأصوات أقرب ما تكون إلى هبة ريح خفيفة في مواجهة عاصفة لا تعبأ بالتذمر الذي تواجه به من قبل من تجتاحهم. واستمر هذا الاعتراض لفترة من الوقت إبان شروق شمس “المؤامرة على المشروع الإسلامي في السودان» كما كان يردد المتضررون من انفتاح البشر الذين هم موضوع ذلك المشروع على آفاق أخرى مغايرة قد تدفع بهم إلى التساؤل عما يمكن أن تكون عليه حيواتهم إن هم خرجوا على المشروع الذي ظل القائمون عليه يغذون قدسيته بتدعيمه بنزعات البشر التلقائية وردود أفعالهم على «استهدافهم». بعد ذلك استمر التذمر والاعتراض بالخفوت حتى لا نكاد نسمع اعتراضاً على المادة التي تُبث على الفضائيات إلا في ما ندر، حين فجأة يتذكر أحدهم أن وسائل الإعلام العالمية «تستهدف» البلاد و»توجهها» فيبدأ بتوجيه نيران النقد إليها ولكن دونما حماس واضح، إذ أنه في الغالب من المتابعين لما يبث في هذه الوسائط الإعلامية، أو ربما أهل بيته، أو أنه لا يعرف أين تكمن خطورة ما يحاربه في الحقيقة.
لكن في ظني أن الحرب على ما يسمى «القيم الوافدة والدخيلة» من قبل المتضررين من هذا الوفود وهذا الدخول، ليست حرباً واعية بما يكفي لبلورة خطاب واضح وقوي يواجه هذه القيم، ذلك أن ما تفعله «الميديا» وما يمكن أن تفعله لا يزال المفهوم عنه بدائياً لدى أولئك المتضررين وهم الذين من مصلحتهم المحافظة على نسق القيم الموجود كما هو من أجل تحقيق «مشروعهم» أياً كان ذلك المشروع. ذلك أنه يتم في الغالب تلبيس الحرب على الميديا بمناسبة أو حدث ما، ولا يتم وضع أساس تبنى عليه إستراتيجية طويلة المدى لخوض هذه الحرب، أي أن الإعلام جيد طالما لم يمس «ثوابت» يعتمد عليها النظام المحلي بما يهدد وجوده الذي يعمل على جعله دائماً وغير قابل للنزول عن «مكتسبات» تم الحصول عليها باستثمار أفق الوعي المتاح لهؤلاء الذين يتم اكتساب هذه المكتسبات منهم، ويصبح هذا الإعلام عدواً حين يمس ما لا يرغب سادة نظام ما أن يمس حتى لا يهدد وجودهم.
إذن، كيف يكتسب الإعلام هذه القوة التي بإمكانها السيطرة على عقول من يقعون في دائرة تأثيرها؟ لو نظرنا إلى التلفزيون بعيداً عن الفكرة المسبقة بالنظر إليه بوصفه أداة «تسلية» وحاولنا وضع احتمال بأن يكون أداة «تحكم»؛ إذن لربما أمكننا أن نرى بعض الأوجه الغائبة من مفهومنا عنه، فبرغم كل شيء يظل التلفزيون هو الذي يعلمنا كيف نعيش، كيف نلبس، كيف نتزين ونزين منازلنا، كيف يجب أن يكون سلوكنا، كيف ينبغي أن نفكر «بإيجابية»، كيف نأكل، وغير ذلك من أدق تفاصيل المعيشة اليومية، لكن أخطر ما يعلمنا إياه التلفزيون هو أنه يرينا ما النموذج الكامل الذي علينا السعي لبلوغه، وهنا مكمن عملية السيطرة العقلية التي يعالجها التلفزيون لدينا عبر التسلية، الترفيه، المتعة، أو أي المسميات لما يبث إلى تلافيف عقل المشاهد.
إن عملية صناعة «النجوم» تحتوي قدراً من الرسائل المشفرة التي تتسلل إلى أدمغة من تم جعلهم يضعون نجومهم هؤلاء نموذجاً يحذون حذوه مسيرين باللاوعي الذي يحرك عمليات استيعاب الرسائل المشفرة التي توضع حيث يمكن ألا ينتبه إليها المستهدف، هذه الرسائل تتعلق بالترويج لقيم موجهة سلفاً من أجل حصد المزيد من كل شيء، وهناك أمثلة حدثت لدينا هنا في السودان وإن بشكل بدائي، لكنها تعتبر خطوة في طريق محاولات إحكام السيطرة.
إن الفوبيا التي تنتاب المستفيدين من بقاء الأمور على ما هي عليه؛ من الغزو الفكري أو الثقافي، ما هي إلا رد فعل تجاه تهديد بفقدان السيطرة، إذ أن المحليين لا يرغبون في تقاسم السيطرة على الجماهير المحلية مع خارجيين لديهم مصالح أكبر قد تتضارب مع مصالح هؤلاء المحليين، مما يقود إلى التصادم في المصالح الذي يبرز فيه كل منهما أسلحته الدعائية، فبينما في الغالب يحاول الخارجيون كسب الصراع عن طريق بث خيارات للحياة ترتكز على أقوى محرك لدى البشر «الغريزة»؛ يجاريهم المحليون بالتمترس خلف غرائز مثل التديُّن والخوف من المجهول/الجديد، ما يجعل الأمر في النهاية صراعاً على شيء من التعقيد. إلا أننا نجد أن المؤسسات الإعلامية الكبرى كاسبة، وذلك لضعف آليات الصراع المحلية وفقرها المعرفي بالبشر، إذ أن أهدافها لا تتجاوز حماية النظام القائم دون آفاق أخرى لمكاسب أكثر من خلال تحويل الإنسان إلى مستهلك شره لما يقال له عبر التلفزيون إن عليه استخدامه، أو تحييده من الصراعات التي تدور حول السيطرة عليه.
في الأنظمة التي تعتمد أسلوباً أكثر قوة في السيطرة على الإنسان، يلعب التلفزيون دور الأداة الأولى في هذه السيطرة، فبالنسبة إلى البشر هناك، يؤخذ كل ما ورد في نشرة الأخبار على أنه حقيقة، وكذلك حديث كل من استضيف وبجانب اسمه درجة علمية أو سبقت اسمه كلمة «الخبير»، مما يسهل عملية تمرير الكثير من الحقائق المزيفة التي يكون الغرض منها خدمة قضية اقتصادية، تجارية، أمنية، وغيرها من القضايا المتعلقة بوجود واستمرارية النظام المسيطر. لكن عندنا هنا في البلاد التي لا يزال عليها أن تقطع شوطاً طويلاً حتى الوصول إلى مرتبة الدول الأخرى «العدو»؛ تمرر الأشياء بفجاجة أشبه بالأوامر العسكرية، فيؤتى بمن له سلطة ما «دينية، اجتماعية، وغيرها» ليقدم نصائح مباشرة. لا زلنا - لحسن الحظ - بعيدين عن خبث تمرير الرسائل مغلفة بما يجعلها تبدو وكأننا اخترنا محتواها، إذ يخفى علينا التوجيه الذكي الذي جعلها تتسرب بكل بساطة إلى عقولنا.
يقوم التلفزيون كذلك بصنع الأيقونات، النجوم الذين يشكل الانتماء إليهم رابطاً يستخدم بذكاء لتسيير حياة المسيطر عليهم وفق ما يشتهي من يمسك بالخيوط. إن الخطورة في «النموذج» أنه يعمي عن كل ما سواه أثناء سعي الآخرين نحو التشبه بهذا النموذج، إن خارجياً في المظهر، أو إن في طريقة العيش، ففي الحالين هناك من يكسب من هذا التشبه، ويكون هذا بطريقة لا تشابه ما صادفني قبل عدة أيام في إحدى الصحف، إذ نشرت إعلاناً لبيع الرسائل (sms) المتعلقة بالفقه والحديث والسيرة والسنن، وقيمة الرسالة ١٥٠ قرشاً غير شاملة الضريبة، وفي حين لم يوضح الإعلان إن كانت الرسائل اختيارية أم لا، أي أن المشترك تأتيه الرسائل حين يطلبها أم أن لا خيار له في متى تأتيه وكم عددها؛ نجد أن مقدمة الإعلان توسلت بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، بعبارات توحي بأن من لم يشترك فمحبته له غير تامة. إن هذا لا يشبه دعاية الشامبو التي يظهر فيها كريستيانو رونالدو ليقول إن اسمه كريستيانو رونالدو وهو يستخدم شامبو (....) للقشرة، فهنا كريستيانو لا يعظ أو يطلب من المشاهدين أن يستخدموا الشامبو، إن الإعلان يعتمد على عدة مستويات تستغل نجوميته، فالبعض من المهووسين سيستخدمون الشامبو على الفور لمجرد أن نجمهم المحبوب يستخدمه، والبعض الآخر سيفكرون أنه لولا أن الشامبو جيد لما قام بدعايته نجم، هدا باستبطان أن النجوم لا يخدعون محبيهم بافتراض أن النجم يبادلهم الحب، فطالما أنهم لن يخدعوه فلن يخدعهم هو كذلك، وهناك من سيفكرون بأن الشركة المنتجة طالما استعانت برونالدو فهي شركة غنية إذ أن فاتورة هذا النجم باهظة، إذن هذه الشركة الغنية ستنتج منتجاً يتناسب مع غناها هذا، وسيكون غالياً، والغالي بغلاتو يضوقك حلاتو كما قيل لنا بصيغ مختلفة.
هل لاحظتم بدائية الإعلان الأول وذكاء الإعلان الثاني؟
على مستويات أكثر تعقيداً تتم الدعاية لمنتجات، مفاهيم، أنماط حياة، قوانين سلوك، وغير ذلك من التفاصيل التي تسيِّر الحياة، وكل ذلك دون الانتباه لما يدخل مخلوطاً بالتسلية، الأفلام، الرياضة، الدراما، الأخبار، التقارير، البرامج التعليمية والتثقيفية، وغير ذلك.
إن قوة هذا المكعب السحري (التلفزيون) تكمن في أنه ينتهج الصورة وسيلة لإيصال ما يريده المتحكمون فيه. الصورة - في رأيي - تشبه الحقنة، تحقنها في الوريد فتدخل على الفور إلى دورة المحقون البيولوجية سواء أكانت مفيدة كما يفترض بها أم مضرة وتؤدي إلى آثار غير المقصودة منها، بينما تشبه القراءة أقراص الدواء، تبتلعها فتمر بمراحل كثيرة ليتم في النهاية استخلاص ما ينفع منها قبل الدفع به إلى الدورة البيولوجية للمبتلع، لذلك مثَّل التلفزيون الأداة الأمثل لتمرير المخططات من قبل المخططين للسيطرة على العقول وتوجيهها.
في ظل ضعف النظام المحلي في مجابهة آليات النظام الخارجي الذي يسعى إلى السيطرة على جميع من على البسيطة؛ تبدو المعركة محسومة، ويمكن القول دون الخوف من الوقوع في خطأ كبير إن مشاهدي التلفزيون في السودان يشاهدون قنوات غير سودانية بأكثر من نصف الوقت المتاح لهم للمشاهدة، وهذا يعني أن الرسائل والقيم التي تمرر إليهم يومياً هي تلك التي تخدم نظماً أخرى غير النظام الذي يعيشون تحت سيطرته، مما يجعل خيار هذا النظام أن يمرر ما يريد عبر الوسائل المقروءة والمسموعة، وهي لا تعطي ذات قوة التأثير التي للمرئي، المدعومة بالعاطفة الجاهزة لتلبس ما يوضع أمامها حتى دون مراجعة أو محاولة هضم، بذا يمكننا فهم تشبث السلطة هنا في السودان بأن تكون الصحف تحت سيطرتها مثلها مثل الإذاعة والتلفزيون، فهي المنفذ الوحيد الذي يمكن للسلطة أن تحكم قبضتها عليه دون الخوف من مزاحمة آخرين، وإن كانت حتى الصحف الآن تتعرض للهجمة بسبب ظهور الإنترنت، وهو على الرغم من أنه ليس مثل التلفزيون في اتساع نطاق الحصول عليه واستعصائه على الرقابة، إلا أنه بكل المقاييس أحسن حالاً من الصحف التي يحكمها قانون المكان.
أخيراً، أذكر أنني شاهدت فيلم «الرجل الراكض» إن كانت الترجمة صحيحة، وانتبهت إلى أن في الفيلم تم حذف أهم ما تقوم عليه الرواية التي أخذ الفيلم عنها، وهو أن التلفزيون كان مفروضاً على السكان من قبل الحكام ويعتبر عدم اقتناء تلفزيون جريمة يعاقب عليها القانون. إذ قامت الرواية على أن في المستقبل سيتم التحكم بالناس عن طريق التلفزيون الذي يبث التسلية طوال الوقت محشوة بتعريف من هو المواطن الصالح ومن المجرم بما يشبه غسيلاً للدماغ، لكن ولسبب ما قامت هوليوود بإعادة إنتاج المعنى ليصبح معبراً عن أن البحث عن نمط العيش الذي يتم الترويج له الآن، في المستقبل هو الغاية النهائية التي يسعى إليها البطل «النموذج» أرنولد شوازنيجر، وهذا يشبه ما فعلته هوليوود بشخصيات مثل جيفارا وكلاي وغيرهما من النماذج غير الخاضعة تماماً لسيطرة النظام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق