1
بالتدقيق فقط، يمكن ملاحظة عمليات الإزاحة المركزية، إلى الهوامش؛ سواء أكانت هوامش مكانية مثل عمليات الترحيل والإسكان الفئوي، أم مفاهيمية تضرب في بنى على علاقة بصنع الوعي في كل تجلياته المغايرة- المختلفة. وهي إزاحة تتم بديناميكية تجاه من يشكلون/ ما يشكل تهديداً لمصالح المركز (أستخدم المركز هنا بمعنى هو أقرب إلى الأوليغاركية وإن كان يختلف عن هذا المصطلح في تشابكات أخرى مع أنها على علاقة بصناعة النخب الخفية للستارات التي تجعلها بمنأى عن الملاحظة).
إن الصراع الحاد الذي يجري أمام الأعين - إن كانت تلاحظه أم لا - ينتج موجات من الإزاحة التي تكون قاسية أحياناً وسلسة في أحيان أخرى، وتؤدي هذه الإزاحة إلى الحفاظ على بنية مركزية تحمي مصالح من يسيطرون عليها، بطرق عدة، مثل الإزاحة التي تقوم بتغيير البنية الديموغرافية القريبة من قلب المركز بإبعاد من ينتمون إلى فئات أو شرائح مصالحها تضادّ مصالح المسيطرين، أو تلك الإزاحة التي تؤدي إلى نفي فئات بكاملها بعيداً عن المركز بدعاوى تختلف وفقاً للمشترك في تركيبة المزاحين، وبوسائل تتراوح بين صنع رأي عام مزيف وتعميمي عن فئات بعينها يشكل حاجزاً وبنية مفهومية طاردة لها؛ وبين استخدام القوة الفيزيائية المباشرة لإبعاد فئات أخرى (المشردون مثلاً) بدعاوى رُسِّخت لدى قطاعات واسعة في المجتمع بأضرارهم (الأخلاقية) - مثلاً.
في حين إن أُبعد المشردون أم لم يبعدوا؛ تظل أنماط ونسب الجرائم التي شكلت مبرراً لإزاحتهم في تصاعد. وحين أسأل نفسي أحياناً وأنا أقرأ صفحة الحوادث بصحيفة ما عن كم من هذه الجرائم ارتكبها مشردون؟ أجد الإجابة فاضحة للغاية. هذا على سبيل التوضيح فقط.
وبالعودة إلى علاقة المركز بالإزاحات المتوالية؛ المكانية بالتحديد، نجد أن ثمة علاقة صُنعت بين قربك المكاني من المركز وبين المقابل المادي الذي عليك دفعه لتحظى بهذا المكان، فأن تسكن قريباً من المركز يستلزم أن تدفع مالاً أكثر عدة مرات مما يجب أن تدفعه لأي مكان آخر، وهذا ليس لمميزات القرب، والخدمات، ...إلخ، ولكن مثلما يمكن أن تنتقي الشرائح أو الفئات التي تريدها أن تؤم مطعمك مثلاً؛ فترفع الأسعار إلى مستوى فوق قدرة الفئات التي لا تريدها؛ يحدث ذات الشيء في ما يتعلق بالسكن. إن رفع الأسعار بلا مبرر - بالنسبة لي - في الجغرافيا القريبة من قلب المركز؛ هو عملية انتقائية/إقصائية بهدف إزاحة من لا تتوافق مصالحهم مع المركز إلى هوامش المكان، إذ للمكان الهامشي تأثيره النفسي على الفرد - في ما أظن - بما ينتج تطلعاً أو خنوعاً، وكل منهما مفيد لبنية المركز المسيطرة.
2
في ظني أن ما يجب أن أفهمه أنني خطير على البنية المسيطرة الخفية وراء تمظهراتها البراقة؛ خطير طالما أحاول رؤية ما وراء الكواليس أو أتساءل خارج الأجوبة الجاهزة والمعلبة التي توزع - مجاناً - عبر كل وسائل الاتصال المتاحة، لذا تعمل آليات المركز على اجتذابي إلى القطيع وفي ذات الوقت تزيحني مع كل موجة إلى هامش أبعد، مما يجعلني مدفوعاً إلى محاولة الاندغام مع السائد من أجل الحصول على امتيازات تجعلني قريباً من الأحداث؛ هذا الاندغام الذي ثمنه ربط مصالحي بمصلحة المركز بما يمكن هذا المركز من شرائي- استعبادي، ثم تسييري حسب موقعي لخدمته. وإن لم أستوعب هذا بطريقة أو بأخرى سأنفى تمهيداً لتطأني - بعيداً عن الأعين - التمظهرات الفيزيائية للمركز، من أجل تلييني أوإزالتي.
يمكن لكل فرد - إن أراد - أن يلاحظ آثار الإزاحة المكانية في آثار (التكسير) و(الترحيل) لفئات كثيرة بمبررات مختلفة بعيداً عن قلب الخرطوم، وكأن لا خيارات أخرى كانت بيد (القائمين على الأمر)، ففي النهاية ظلت الأرض التي كانت عليها مساكن فئات عدة خالية بعد سنوات من ترحيلهم عنها، مما يجعل التفكير يتجه إلى أن السبب الأول وراء إبعادهم لم يكن (الحاجة إلى الأرض) كما قيل، بل كانت موجة إزاحية مثل كل الموجات التي تمر بنا من غير أن نلاحظها، إذ ربما يظل الفرد يرحل بعيداً إلى أبعد بمحض إرادته - كما يظن - حسب الوضع المالي وعلاقته بالإيجار. كذلك المركز لا يسمح إلا للقليلين بامتلاك مكان فيه، إذ كم سعر المتر في (قلب الخرطوم).
3
هناك أيضاً إزاحة مفاهيمية تظهر في اللسان، إذ أن كيف تنطق الحروف وبأي لكنة؛ يمثل حقلاً لكثير من الملاحظات التي هي على ارتباط وثيق بالإشارات أعلاه، وتؤدي إلى إزاحة مضادة من فئات أطرت القهر والإقصاء ضدها إلى إقصاء مواز تمثله (اللغات الأخرى) مثل الراندوك وتعبيرات الكماسرة وغير ذلك وهو ما سنحاول ملامسته في مرة قادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق