علّق عبد الهادي الصديق على اختيار خليل فرح لغة أخرى للتعبير عن قضايا تهمه بعيدة عن اللغة النموذج التي كتب بها آخرون مثل البنا إبان الدعوة إلى تعليم المرأة (وعليك بالمتعلمات فإنما ترجو ملائكة الجمال وتخطب/ الفاتنات العابدات السائحات المستنفد كمالهن المعجب/ يجررن أذيال العفاف تحنفاً فالريب يبعد والفضيلة تقرب)؛ فكتب الخليل (يلا يلا نمشي المدرسة سادة غير أساور غير رسا/ قالوا جاهلة مدسدسة أحلى من عليمة مقدسة/ اسأليهم أهل الهندسة الدنيا دايرة ولا مثلثة؟)، في حين أن الخليل ذاته من بإمكانه اللعب وفق قواعد اللغة النموذج فهو من كتب (وقفاً عليك وإن نأيت فؤادي سيان قربك في الهوى وبعادي/ يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي).
وفي ظني أن هذا يمثل نوعاً مما أسميه (حركة اللغة)، التي هي أشبه بموقف للغة تجاه موضوعات على ارتباط ببنيتها، بمعنى أن اللغة النموذج (البنا) - مثلما ضربنا المثل في مقال سابق - تقصي من لا تريد مخاطبتهم بتخير ألفاظ فئوية إن صح التعبير، وهو التخير الذي يصير بعد مضي وقت مدمجاً في بنية اللغة (الفئوية) فلا يصبح هناك خيار آخر مثلما فعل خليل فرح حين اختار عدم إزاحة المخاطبين ? بفتح الطاء- طالما أن الخطاب المحمول على لغته موجه إليهم. لكن إن أراد البنا العبور إلى لغة أخرى غير ما استخدمها لصعب عليه الأمر، إذ أن اندماج اللغة النموذج بالتخير آنف الذكر؛ لا يتيح فساحة لذاك العبور.
إن حركة اللغة ممكنة لمن يضعون اللغة ضمن الحركة الكلية للصراع، دون أن تكون متعالية أو مقدسة أو جامدة وأداتية. لذا أظن أن أكثر من يمتلكون القدرة على التحرك في نطاق اللغات الموازية هم من غير الناطقين باللغة النموذج كلغة أم، أي أنهم نشأوا خارج بنيتها وإن كانوا على علاقة بها، وهذا في ظني ما يمنحهم القدرة على وضع اللغة بلا تضخيم ضمن الحركة الكلية للصراع طالما وعوا به.
ما أقصده باللغات الموازية شيء أقرب إلى تفلتات أو تمرد على اللغة النموذج، وهو أمر قديم في تاريخ اللغة العربية التي أتحدثها، نجده في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين ضمن نوادر النحاة والمتحذلقين، وكذلك في مستطرف الإبشيهي حين يورد طرائف النواتية بلغتهم المستغلقة تماماً على قارئ معاصر كحالي.
هذه التمردات على اللغة النموذج تنتجها أسباب كثيرة وعلى تشابك، إذ أن هناك نزوعاً لدى اللغة النموذج إلى إلغاء اللغات الأخرى الموازية لها داخل نسيج الاجتماع البشري المشترك، بافتراض صحتها ? اللغة النموذج ? وخطأ الباقيات، وبافتراض قداستها. هذا الإلغاء المتمثل في الحرب الضروس التي تخوضها هذه اللغة النموذج ضد اللغات الأخرى أو المختلفات الضئيلة الناتجة من كون اللسان الذي يحاول التحدث باللغة النموذج غير ناطق بها، لكنها تسيطر على التعليم والوسائط ...إلخ، ثم إن الحرب تتمظهر في أن أصحاب اللغة النموذج يحاربون أصحاب اللغات الأخرى الموازية فيزيحونهم مكانياً أو مفهومياً إلى هامش الوجود، مما يستدعي خنوعاً أو رد فعل، ورد الفعل هذا يمكن تلخيصه بقصة أبو علقمة النحوي مع أعين الطبيب الواردة بكتاب أخبار الحمقى والمغفلين، إذ عندما لم يفهم الطبيب كلام النحوي رد عليه بكلام غير مفهوم تماماً ولما اشتكى النحوي بأنه لم يفهم قال الطبيب (أفهمتك كما أفهمتني).
إن تعبيرات الكماسرة و(السطلنجية) ومفردات الراندوك كلها ينبغي النظر إليها ? برأيي ? على أنها لغات أخرى فقط، بعيداً عن النظر إليها بوصفها خطأ أو (تشويهاً) للغة النموذج. لو تم هذا فيصبح بالإمكان محاولة فهم الإزاحات المركزية العاملة على صنع مجتمع بمواصفات تخدم المركزيين.
ما أقوله هنا على علاقة بالحرب المستمرة على التعبيرات غير النموذجية في الغناء، فما يسمى الغناء الهابط أو المبتذل يظل تعبيراً عن إزاحة مضادة لفئات أزيحت من قبل المركز لدواعٍ مختلفة وإن كانت تتفق كلها على حماية أمن المركز.
وبالعودة إلى تعليق عبد الهادي الصديق على تحرك الخليل بين لغتين أو أكثر في شعره؛ أظن أن الخليل ولكونه ناطقاً بغير اللغة النموذج إضافة إلى اعتناقه عقيدة قومية قوية تخصه؛ كل ذلك أسهم في أن يتملك اللغة من غير أن يندغم في بنيتها، الأمر الذي مكنه من التحرك بحرية ليتمكن من مخاطبة جميع الفئات التي يستهدفها، وهو ما جعل الخليل غير قابل للإزاحة بسهولة، من غير الإزاحات الفيزيائية بمستوياتها المتعددة، وهو الأمر الذي يمكن لقارئ سيرة الخليل ملاحظته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق