مجتزأ من رواية «كربون»، ويلوز هاوس للطباعة والنشر 2023
باتجاهي يسير «يونس» و«الهادي الأفريقي»، ميَّزتُهما من مسافة بعيدة في الطريق الخالي. اليوم إجازة السبت، ومكاننا وسط مؤسسات حكومية خاوية. تسليت بمراقبة مشية كلّ منهما.
مشية الريفي لا تخطئها العين. الطريقة التي يطأ بها الأرض رافعاً أصابعه الأمامية غريزياً، انحراف القدم بزاوية إلى الخارج مع تقويس خفيف للساقين من أجل ضمان ثبات ورسوخ في الأرض، التأرجح الخفيف جداً للجسد عند الوطء للاحتفاظ بإيقاع المشية؛ كلها ميزات مكتسبة من السير مبكراً على أرض وعرة مليئة بالعقبات. تظهر مشية الريفي أكثر حين يسير بمركوب بلدي، فلأمرٍ ما، لا يدفع الريفي قدمه إلى الأمام بخط مستقيم. هكذا يمشي «يونس». بينما يسير «الهادي الأفريقي» بوصفه ابن مدينة أصيلاً؛ ضيِّق الخطوات، واضعاً قدمه – دائماً – في خط مستقيم.
هناك تفاصيل صغيرة جداً لا يتخلص منها الناس، لأنهم لا ينتبهون إليها. تشي هذه التفاصيل بالكثير عنهم، تخبرك عن نشأتهم، كيف يفكرون، أين ولدوا، ومتى تأخذ حذرك منهم. أعني تفاصيل مثل نوع أقمشة الملابس وألوانها، طريقة قص الشعر، طريقة الجلوس، وأيضاً اللكنة ونوع الكلمات في حال الغضب؛ حين يرتد الواحد إلى جذره بعيداً عن الصورة المشتركة والمصنوعة لسكان المدينة.
جرَّ كل منهما بنبراً عالياً وجلس، يسيل منهما عرق الصيف اللاذع ويُسمع صوت تنفسهما الثقيل. ولأن اليوم إجازة، بدا كل منهما مرتاحاً أكثر في ملبسه؛ «الهادي» بقميصه الأفريقي المصنوع يدوياً بزخرفاته الحارّة، وسروال قطني خفيف، و«يونس» بقميص الكتان الأبيض الخفيف جداً وسروال كبير من قماش خشن واسع المسامات.
شربنا الشاي متمهلين.
المدينة مبنية على الشاي والقهوة، آلاف البائعات يجلسن في أركانها وتحت أشجارها، خلف مواقدهن، في دوام عمل لا ينتهي، يصرفن منه على رجال لا يعملون، وأطفال يدرسون، ويدفعن منه الرشاوى والإتاوات، يوفرن ملاجئ للعابرين ومن لا يعرفون ماذا سيفعلون تالياً، متفاديات بقدر الإمكان هجمات الشرطة والتحرشات الساذجة، بل والعنف أحياناً. تحيا المدينة بالشاي وصانعاته. نحيا نحن لأننا نستطيع الانتظار قربهن.
سنقضي نهارنا هذا متجولين بلا هدف بين الغيتوهات، وسيحاولان العثور على جلسة شراب في نهاية اليوم. أنا أحب الشراب، لكنني لا أحب مذاقه. أتحايل على هذا الأمر بحيل عدة، مخافة أن يُعرف عني أنني لا أحتمل مرارة الخمر. هذا واحد من تناقضاتي المُسليّة، أرتدُّ في هذه الحال إلى مجرد «رجل»، يجب عليه تحمل الكثير لئلا يترك مغمزاً لأحد، ولو على سبيل المزاح. عليك تحمل الخمر الرديئة ومرارتها، عليك تحمل الألم مهما كان مصدره، وعليك ألا تبكي أو تصير عاطفياً لأي سبب. هكذا حكمت الثقافة السائدة، لا فرق بين الريف والمدينة المركَّبة من أرياف متعددة.
حتى لا أكون كاذباً، أعترف بأنني لا أتحمل الألم، لذا لا أسمح لنفسي بالدخول في التجارب. أما الخمر، فأخلطها بسائل آخر، أو أتجرعها من الحلق إلى أن يتخدّر لساني فلا أعرف طعمها. لا آكل قبل الشرب مخافة التقيؤ، وهو عار موروث من قرون خلت، لا يرغب هؤلاء المثقفون بالتخلص منه، فهو تحدٍّ يوهمهم بالقوة.
لست أعرف حتى الآن ما سبب انغماسي في البرامج الروتينية هذه، التي يتخللها الشراب أو تدخين الحشيش، ومتابعة فعاليات المدينة الرتيبة. ربما هو إذعان مني للسائد. هناك فئات، وأنماط لهذه الفئات التي تعج بها المدينة، وتفرض عليك مظهراً وسلوكاً تصنيفيين إن أردت الدخول في إحدى الفئات هذه. بالنسبة إلى الغيتوهات التي نتحرك في حدودها، توجد مشتركات في الأفكار والملبس والاهتمامات، إن خرجت عنها ستجد نفسك تلقائياً محسوباً على فئة أخرى. هي الصيغة التي تواضع عليها الصانعون الأوائل المنعزلون، لتصبح علامةً تسمهم، منذ أواخر الثمانينيات عقب تغير كل شيء. أعني الشعراء المعارضين وكهنة الحرية المهزومين من الكتَّاب والفنانين.
كان «الهادي الأفريقي» يدندن بأغنية لمحمود عبدالعزيز. يجلس مرتاحاً وسعيداً وفي مزاج للعبث. الحرّ الجاف تصاعد مع تقدُّم النهار. ثمة ما يفتنني في نهار الصيف ولا يمكن رسمه بسهولة، إنها درجات الضوء والظلال التي تتسرب إليك وأنت تحت الشجرة، فلا تعرف إن كنت مستظلاً أم تحت الشمس. حينها يبدو كل شيء ساطعاً من داخل فقاعة ظل، بينما تصلك الشمس خابية بعدما كسرتها عشرات الفروع والأوراق. انشغلتُ بتأمل الظلال الضوئية هذه على ملابسي فرحاً وكأني في السابعة من عمري، في النهاية أنا ابن الأشجار الكثيفة والنهر والصيف الصامت.
من خلف الكسل تحدث «يونس» خالطاً بين النقمة والتهكم.
- من ربط الشراب بالليل هو شخص يخاف الشرطة، أو ربما يخاف الناس.
- لماذا نشرب؟ أعني ما الجميل في السكر؟
التفت إليّ «الهادي الأفريقي» متحفزاً مثلما العادة لنقاش الدين والهوية.
- أتريد أن تشبه المسلمين أم ماذا؟ الخمر إرث أصيل، نحن أول من خمّر الذرة وقطّر الكحول.
- لا يتعلق الامتناع عن الشرب بالمسلمين.
انخفض صوتي حين أجبت تلقائياً. لم يكن هناك الكثير من الرواد تحت شجرة الشاي، لكنَّ حذراً من ردود أفعال المؤمنين التقليديين ظلَّ يلازمني.
بكسله المتهكم، قال «يونس»: «أتظننا جميعاً كفاراً مثلك؟».
لم يفقد «الهادي الأفريقي» حماس النقاش، لكننا بتواطؤ عزّزته الحرارة العالية، تجاهلناه. ظللنا أوفياء للصمت لوقت ليس قليلاً، قبل التحرك صوب ساحة «أتينيه». مشينا ببطء في ظل الفرندات الكولونيالية الظليلة، حتى وصلنا المقهى.
وجدنا أنفسنا في المساء داخل شقة في حي قريب، يسكنه في الغالب الأجانب والراغبون في الإفلات من شرطة الأخلاق، ممن يملكون تكاليف السكنى هنا. لم أعرف من يستضيفنا، ولم أهتم، فوفقاً للروتين المعتاد؛ تحدث هذه الدعوات فجأة، مبنية على معادلات تكافلية منطقية؛ أحدهم يملك المكان لكنه لم يحضر الشراب ولا الحشيش فيستضيف من أحضروهما ولا يملكون المكان، أو تجد من يملك كل العناصر لكنه لا يجد من يشاركه الجلسة فيستضيف أي راغبٍ من ذوي الوجوه المألوفة، وهكذا.
لم يفارقني خوفي من الشرطة ومداهماتها، بينما يبدو الجميع مرتاحاً في زحام الوجوه حولي. تجولت في الشقة الواسعة بلا هدف. يخيفني احتمال أن تعلو أصوات السكارى بعد قليل فتجذب إلينا الناقمين وحراس الفضيلة، لابد أن أحداً ما، من الأشرار، لاحظ التوافد الكثيف للأولاد والبنات على البناية.
رجعت إلى الحجرة الواسعة التي يجلس فيها الجميع، كان مضيفنا أخرج زجاجات الخمر، أخرجت فتاتان الحشيش من حقيبتيهما. يجلس البعض على الكراسي والبقية على الأرض. «يونس» يتوسط البنتين منشغلاً معهما في صنع اللفافات، بينما يحمل «الهادي الأفريقي» كأسه واقفاً. لم يرق لي الجو، فهو لا يشبه كادر قصة كوميكس متقنة. نوع الفوضى هذا لا يكون جميلاً، لأنه يفتقد ذلك الترتيب الخفي للزحام في القصص المصورة، الذي يصنعه الرسام بتوزيعه الجيد للكتل واختيار زاوية النظر.
أعرف ما سيؤول إليه الأمر بعد قليل؛ سيتجزأ الزحام هذا إلى مجموعات صغيرة باهتمامات متباينة. قبلها ستتخفف البنات من ملابسهن ويصرن أجمل، وسيحاول كل واحد منا التقرب من إحداهن، وإن سارت الأمور جيداً سيشغل كل ثنائي غرفة لبعض الوقت، وأحياناً لعدة مرات، في النهاية سيبيت من لا يستطيعون حراكاً في مكانهم، وسيركب البقية عربات الأجرة إلى بيوتهم بعد منتصف الليل.
طردت مخاوفي وتناولت كوباً ملأت ثلثه بالخمر. سأشرب عدة كؤوس قصيرة لأخدر لساني، بعدها سنرى ما سيحدث. وككل مرة، صعقتني مرارة الخمر، وأحسست بمعدتي تريد طردها منها، تمالكت نفسي وكررت الأمر سريعاً، الثاني أقل مرارة كما تعلم، والثالث سيكون عادياً، ثم بعدها يصير الماء والخمر بمذاق واحد.
كما تتوقع، أطلقت الخمر حنيني إلى «خيرات». وضعت ظهري بين حائطين في زاوية بعيدة عن الصخب، ووضعت قربي كوباً ممتلئاً بالخمر لئلا أضطر للحركة حتى منتصف الحجرة حيث تجلس الزجاجات. لم أدر كم من الوقت مرَّ قبل أن يزعجني صوت الجرس. بلغ توتري الذروة وأنا أرى المضيف يتحرك لفتح الباب. رغبت في الصراخ فيه ألا يفعل، لكن لساني كان خدراً وميتاً في تلك اللحظة. انتبهت معه، ثم ارتحت قليلاً وهو يسلم على أحدهم بود، دخل «جوزيف الشيوعي» فاختفى سكري تماماً، لابد أن الشخص الآخر الذي يعانقه المضيف هو «خيرات».
أسميه التوفيق، لكنه شيء أكبر من ذلك كما أؤمن. على مدى سنوات خدمتني مصادفات مستحيلة في الوقت الذي احتجت إليها فيه. هي كرامات لا أستحقها، لكنني ممتن لها وتفرحني.
مع دخولها وقفتُ مترنحاً ونظري مثبت عليها. ابتسمت لي بعادية قبل أن تنشغل بتحية الموجودين. وقف قربي «جوزيف الشيوعي» فتزايدت كراهيتي له.
- لماذا يسمونك جوزيف؟
قال بصوته الميت: «لا منطق في الألقاب».
- بل هناك منطق.
كنت حاداً فلم يرد. قعدت في مكاني كمن يتهاوى، فقعد قربي.
حضرت «خيرات»، حييتها بابتسامة استعادتها الخمر، وبعينين عاريتين يمكن أن تقرأ فيهما كل شيء، قبل أن تعود صوب الزحام.
سارت الليلة كما توقعتُ، شيئاً فشيئاً صار الجميع ثنائيات، اختفى بعضهم في متاهة الشقة الفسيحة. كنت أكاد أكمل كوبي من الخمر. التفتُّ إلى جوزيف: «سأعرض عليك عرضاً لا يمكنك رفضه». كنت اتخذت سلفاً سمت «مارلون براندو».
- اعرض.
كانت لهجته كريهة مثله، هي تلك اللهجة التي يتعامل بها الكبير مع الطفل، أو الواعي مع الثمل. دخّن «جوزيف الشيوعي» الحشيش في جلستنا هذه – سأشي به عند «عبدالرحيم» - أعرف أن الحشيش يجعل المرء هادئاً، لذا لا خوف من رد فعل عنيف، بل حتى لو حدث فبالنظر إلى بنيته النحيفة وبنيتي الممتلئة فسوف يخسر. تزيل الخمر خوفي وتعقّلي، لذا لو قاتلته فسأضربه، وسيعجبني ذلك.
- ما رأيك في أن أعطيك مائتي جنيه وتذهب وحدك الآن؟
نظر إليّ متفاجئاً.
- ثلاثمائة.
توقعت منه الرفض والمداورة والغضب. إلا أنه ببساطة هادئة مدّ يده.
أعطيته المال وراقبته يتسحّب حتى خرج.
الآن «خيرات» لي، وليحدث ما سيحدث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق