الأحد، 2 أكتوبر 2011

رشا.. يا كحيل

1
بنتفٍ من نوايا وحشية تتلوى لتخرج من سجن الدم شياطين تطردها نقاهة مُستنهَضَة، بغثيان كما الوحم، بحالِ الأبكم المرتبك، باعتراءات يتعرَّق منها جمود العاطفة، بويلٍ يطارد الصدأ، بكوّة عنوة تُدْرِج على مجرات من تساؤلٍ أشد قدماً من الذكرى، برغبةٍ مورقة للعودة بذات مسار الزمن، بكل ما يحتبس عند المنفذ الوحيد الذي يقذف بسموم التعقل والرزانة وادعاء الحذر؛ تدنو رشا من ليونة البشر المدفونة تحت الصَّدَفَة الأم.
الصوت رشيق، بحة خفيفة لها وشوشة تطرزها ثقة، مفاجآت مفاجئة حين تدهم المفردات التي لو قرئت من غير أن تمر عبر شفتيها؛ إذن لكانت أشد ركاكة من التوحد.
أحب هذا. المباشرة ودودٌ تجرك من أذنك - تماماً بلا مجاز - إلى دوامة آمنة تنجيك من زلل أن تمر على ينبوعٍ دون أن تشرب، أو أن تنمو فيك أعشاب الزمن دونما حشرجة آلة الثبات إذ تعوِّمها إلى الوراء.
فولاذٌ يكشط فولاذَ ما تطبَّق بأرفف التفاجؤ، غيبوبة تغيب عن معنى الغيب، نار إيحاء كامنة بين سدف صوت تهبّ عليها الموسيقى، كلها مرادفات رشا إذ تغني، تتكلم، تفعل، تهدم ما بني على باطل في حقل الشعور، وأنا بعقل ضامر أرعى حشيش التفتُّح، سماد اللذة يبكيني، وتشنجات ما احتبس تدمي؛ فيتنفس دمي لهذا الفصاد.
2
باللون في الصوت، تعبر ما أشتهي إلى ملاءمات لم تعرها الأرض غير الرائحة، ببساط ما يندغم ضمن نسيج يُدارَى خوف انطفاء؛ تسوق رشا إلى المدرك من فتنة الغناء، إلى البسيط الذي في بساطته تظلع كائنات من الحلوى ولون العصريات وهبَّات طلع الطلح ورنة الحذاء على بلاط المنزل وذاكرات الحنان القديم حين لم يكن غير صفار النهار مملكة الركض حين حفاء المعنى معادلاً لخفاء ما ينغلق على الذات فيطعمها المسافة حتى الخلود.
تذكرني بأغنيتي، بالذاهبين إلى الطيور مزاحَمةً، بالقرب من دفء سيصير ذكرى. تذكرني بي.
3
حين أغنية مواربة جهة دهشة متحفزة بانتظار سردٍ ضارب في السر. حين قهوة افتراضية مع افتراض التبحّر في العلو حتى إن الرؤية تظلم؛  تصادفني رشا فيندلق مساء كامل الصفات على غدد التذوق؛ ترتد إلى نوعها الأوَّلي، وتصير الطرقات موغلة في التاريخ.
في الصوت شيفرة الجين الأب؛ ما كان لمخترعي التريُّح في الجهات. في الصوت صوت يختفي حين يعبر إلى طيات ما خلف أذن السماء. في الصوت ما لو سُمع في فلاة اليقين؛ إذن لتعقدت أمور وأمور.
4
رشا، تلك التي أعني، حين تغني؛ تغني فقط.
حين تغني؛ لا يحدث غير انقلاب.
حين تغني؛ أحب الغناء.

الأحد، 18 سبتمبر 2011

أشياء "غميسة"


1
يحيلني صديقي حسام الكتيابي إلى لغة أخرى "غميسة" يحاولها بكامل قلقه الذي أراه تجاه ما يسود باحثاً عن أراضٍ ذات طعوم غريبة، حين يقول: "والشاعر كالرسام/ يطير بريشة واحدة/ يدفن الدلالة حيةً في الكلام"، أو: "لسوء حظ الأرض/ لا شمس تجري من الجنوب للشمال".
إن تفكيراً في مثل هذا الخروج، يحفز غدداً أماتتها العادية وتكرار النماذج والقوالب التي ما إن تبدأ التحول حتى تتقولب من جديد.
"غميسٌ" هو الحفر أعمق، ما يجعل البشري يحاول إبدال الصور المعتادة بصور صادمة، لغة تعلِّب عدائيتها للقارئ بين حروفها. يقول حسام: "أنت تسيئين استعمالي"؛ عبارة تكسر القالب فقط بما يحيل إليه الضمير (أنتِ). ولكن "أغمس" ما أثارني لديه كان قوله: "أعدني إلى رئتيك/ أو فافلتيني أيتها النساء السابعة/ إلى النساء الدنيا".
2
مثل حسام، تولد في كل لحظة آلاف التركيبات والقوالب المختلفة، ينطق بها الآلاف في مئات اللغات، لكن سرعان ما تتبخر تحت وطأة شمس المعتاد، وغير الخارج على نظام اللغة.
أحب ابتكار المفردات، لذا – أذكر – عندما مرت عليّ مفردة "أَنْهَرَ" من النهر التي تقابل "أَبْحَرَ" من البحر؛ كادت تجتازني معرفة بكيف تفتل ألياف اللغة حبلاً كيف الذي أردت، لكن "قيد المنطق" سرعان ما اتكأ على إشراقة ظللت أحاولها منذها وإلى الآن.
أن تصنع مفردة جديدة، ويفهمها من يسمعها من أول مرة؛ ذلك نصر لا يفوقه إلا اكتشاف سر اللغة ذاتها. واللغة "غميسة" طالما لم تتحرر من افتراضات الصواب والخطأ وأن تعرض كل ما تسمع أو تقرأ على آلة الفحص التي تنظر في مطابقة ما عرض عليها للصواب الافتراضي أو الخطأ الذي هو كذلك.
3
ثمة لغة أخرى خلف كل لغة، أعرف ذلك، وأعرف أن ثمة سراً للغة يجعل من يعرفه يسبح خلف المعنى وخلف الدلالة وخلف الرمز حتى إنه ليقول ما يقول من دون أن يحتاج الأمر إلى معنى بعينه ثابت بل حسب موقع الكلام من الحدث أو شيء من هذا القبيل.
أحياناً يكون "الغميس" في اللغة كونها غير كافية لتقوم بمهام الناقل، إذ تُدخل المحاول أحياناً إلى كهف قد يفتح عليه ذكريات منسية من غروبات نهرية في سن الرابعة مثلاً، أي أن اللغة غير الكافية للنقل قد تنشط الذاكرة بحثاً عن ابتكار يشبه ابتكارات الطفولة وفتوحاتها اللغوية بإرسالك إلى القديم بروائحه وألوانه ودهشته التي تصيب بالارتعاش. لكن برغم ذلك ثمة ما يجعل اللغة  ضمن المسهمين في تَليُّف اللسان حين تعجز عن اقتناص نحت أو ابتكار مفردة  تغنيك عن هذا العرض الجانبي للغة: الإيصال.
4
أحياناً حين تفجؤني مودة غامضة إلى ما كنته في حيوات أخرى، أشعر بأنني أحاول انتشال روح "غميسة" تكمن بين طيات جلدي وروحي المستحدثة. يكاد قلبي يثب وأنا أفكر في أن هذا ربما كان ممكناً.
شكراً صديقي حسام الكتيابي وأنت تذكرني بذواتي الأخرى:
" ضعي العناق في النار
ضعينا على بعضنا
ساندويتش حنين".



السبت، 27 أغسطس 2011

فتح الحقول.. أو التأسيس لموسوعية مشتهاة



1
إذن، ما الحدود بين حقل وحقل؟
من قديمٍ لم تقنعني رؤية "التخصص" التي تفصل بين الرياضيات واللغة العربية، لم تبدُ لي صائبة، إذ أن مفهومي المبكر عن التطبيق يجعل الرياضيات تندغم ضمن اليومي، ضمن كل آخر غيرها، وإلا فلا فائدة منها – بنظري – غير أن تكون مجرد (تمرين) عقلي يسرِّع معالجة عقلك للبيانات (بلغة أهل الكومبيوتر). فأنْ أجد أنّ عدد حروف كلمة ما يساوي ضعف حروف ما أستخدمه لشرحها أو الوصول إلى (معنى) ما يستغرقها؛ يجعل ذهني ينطلق إلى أماكن أخرى في خريطته بحثاً عن علاقة ما هنا أو هناك.
ظللت أعتنق إيماناً بأن لكل شيء علاقة ببقية الأشياء، ومن يتمكن من رؤية هذه العلاقة يصل إلى لا نهائية الأفق المبتغاة – مني شخصياً – للرؤية الكاملة على استحالتها. هذا الإيمان يجعل الفواصل غير ذات منطق – لي – وذائبة إلى حد ما ضمن تداخلات قد تبدو خفيفة ولكن لها أثرها على الكلِّي الذي له أثره عليّ ومن ثم له أثر على ما لي أثر عليه.. أو هكذا إلى نهاية تشابك الجدل.
أقول إن تناسق السياقات التي بُنيت عليها فكرة الحقول وانفصالها التام عن بعضها إلا في نقاط تماس محددة اكتمل التعارف عليها بوصفها ما يربط بين السياسي والثقافي، السرد والشعر، القصة والرواية؛ ومن ثم انفجار كل هذا التعقيد ليخلق آلاف الشظايا التي تشغل أحيازها وتشغل أذهاناً تتزاحم في أحيازها ذاتها عمليات التفكير في انفصالية؛ هي مرهقة لي.

2
الوجود بين مفهومين؛ التشظي والاندماج؛ يكاد يلحق بالثنائيات التي – في ما أرى – شكلت الدرجة الأولية للبشري إذ يتعلم التفكير تدفعه حاجة خلق بناء تبريري يماسك ما تبعثره الحادثات المفاجئة التي لا تحمل ما يشفع لها أمام المنطق البسيط الحاكم للسببية التي أراحت – ولا تزال – عقل البشري في بنية حلقية تدور إلى ذات النقطة، لكن بمحمولات أكثر ثقلاً.
أرى التشظي في إيجاد الحقول، في حصر الفعل (الكتابة عندي فعل) داخل حيز إن حدث تجاوزه عُدّ ذلك ضعفاً أو خروجاً، وكأن باب التجريب أغلق – في رواية – أو أن الخروج مسموح به داخل حدود!
أن يكون صاحب أفقٍ موسوعياً؛ أعني به أن يعرف كيف أن التسميات والتحديدات والتحقيلات وما يشبهها من البنى؛ فُرضت – ربما – أو وجدت حين أن أحداً يفعل كما يهوى أو كما يجيد، جعل فعله قياسياً يقارن به أفعال غيره. إن تخنيث الفعل حين أنه متعدد المذاقات ربما يقود إلى كسر حاجز يتوهمه مَنْ خلفه حماية من مجهول.. في حين سيقول ظني إن تخنيث الفعل محاولة نحو جعل كل شيء هو بالضبط "كل شيء" ليس أكثر. أعني أن الفعل الكلي ربما يمنح قوة على إدراك أفق يخيف، في السعي الغريزي نحو الكمال – كما يراه كل فرد – بما يجعل الإنسان "عارفاً بالخير والشر" كواحد منهم!
3
إنه الفعل، إنها الفعل، لا فرق عندي بين حقل وحقل، أريد كل شيء، أن أعرف كل شيء، أرى كل شيء، أن تخطر ببالي جميع الكلمات، أن أسمع كل صوت، أن أفكر وكأن لي أدوات تفكير لا نهائية.. لذا أرى سجني في الحقل، في النمط؛ محض إهدار لي.. لذا أحاول و(أفرفر).
4
إذن، ما الحدود بين حقل وحقل؟ من وضعها؟ لماذا؟ وما الذي سيحدث إن زالت هذه الحدود؟ إن صارت المعرفة معرفة، الكتابة كتابة، الفعل فعلاً، البشر بشراً، الأشياء أشياء، الـ كل شيء كل شيء لا شيء بعينه؟
أحاول أن أن أكون كُلِّي، وفشلي يعلمني أن الفشل ذو علاقة بالرياضيات واللغة والمعتقد وبطول أصابعي و... إلخ كل شيء.

لغات موازية (3)

الإزاحات الصغيرة التي ينتجها البشر المزاحون تجاه بشر آخرين؛ قد لا تبدو واضحة المعالم إذ أنها مختبئة في ثنايا اليومي والحركة في حيز الوجود الذاتي لكل فرد.
إنني عندما أنفق جهدي هاتفاً بالحرية؛ أطأ هذه الحرية ولا أنتبه، إذ أن غموضها - الحرية - حين المحكات يجعل منها شكلاً فقط، أو معنى مجرداً يتوق الفرد إلى الوصول إليه لكنه يحمل متعته في اللا وصول.
الحرب على الركيك تخفي خلفها انحيازاً إلى ما يُعتقد أنه الصواب. إن اللغة النموذجية تزيح اللغة التي تتبنى تراكيب مختلفة إلى خارج حقل التأثير المباشر على المسيطر عليهم. تجد أن ذائقةً ما تم تشكيلها سلفاً تجعل أحدهم تنتابه العاطفة تجاه ما يراه إفساداً لمعايير اللغة (السليمة) - النموذجية التي جُعل دون أن ينتبه ينحاز إليها/إلى حامليها مقابل (التشوه) المفترض لمحاولة الخروج على القالب، والتعبير - من ثم - عن مناطق جديدة وبراحات كانت ممنوعة ومبعدة في الوجود البشري الآني.
إن ما يشبه التابو يجعل الموجود في بنية اللغة النموذج بعيداً عن تقبل رؤى أخرى مغايرة تعبر عنها لغة أخرى بالتوازي مع النموذج المسيطر، هذا التابو يجعل فرداً يشعل عاطفته تجاه لغة أخرى مزيحاً إياها إلى حيث لا (تفسد) ولا تتسبب في (خراب) الذائقة، إذ أنها ركيكة، وكأن هذه الركاكة هي تعمد إفساد!
حين قلت "نطأ الحرية" كنت أعني هذا، أن لا مجال ليُترك آخر لخياره تجاه أية لغة يفضل أو يرى أنها تعبر عنه، بل لا بد من إجباره على الأوبة إلى اللغة النموذج التي هي الأفضل. وهو استبطان يلغي الآخر - برأيي - حين تتحرك في حيز بفكرة مسبقة أن ما تعتنقه وما تراه الأفضل هو بالفعل كذلك ويستحق الحرب من أجله لنشره بدلاً عن ما هو أقل منه! هي فكرة تطعن في صراخ الصارخ بالحرية طالما أنه لا يستطيع تقبل أن يعتنق آخر مفهوماً مغايراً، لغة أخرى، رؤية بحدود مختلفة أو بلا حدود.
أن تجعل مهمتك  (الإصلاح) لهو تمظهر مضاد للحرية، إذ يخفي تحته أن ما عدا الذي لديك هو أدنى، أقل،... إلخ الأحكام المطلقة التي تحمل نزعة أن (على كل شيء أن يشبهني ليصير صحيحاً!).
لا أظن أن هناك شيئاً ركيكاً.. وإلا فلتأت إجابة على: ركيك قياساً إلى ماذا؟ إذ لا يوجد - في ظني - إطلاقٌ في ما يختص بأحكام القيمة. الإجابة التي أظنها هي: ركيك قياساً إلى اللغة النموذج!
هذه اللغة النموذج - أرغب في تسميتها باللغة الطوطمية - تلك اللغة التي صارت قياساً فقط لأن (الأسلاف) تكلموها! ربما هي تخفي تحتها رغبة حراسها في الإمساك بزمام الأمور، أو أن حراسها هؤلاء بإمساكهم بها يمسكون بزمام الأمور. على كل حال حين يزيح شخص شخصاً لأنه (ركيك) أو أن يشن هجوماً إزاحياً على نمط من الغناء والأشعار الـ(ركيكة)؛ أنتظر أن يرى هذا الشخص ما يفعله، فقط لأنه لم يمتلك القدرة على تقبل تعدد اللغات، ومن ثم تعدد المصالح والرؤى و... إلخ.
اللغات الموازية تُنتج كل ثانية، كل أرجحة ضمن الحركة الكلية التي أظنها تنزع إلى الوصول إلى سكون، فقط حراس النموذج هم من يريدون أن يكون السكون إلى ما يوافق ما يريدون.
كثير من الكلمات، الرسوم، الصور، المشاهد؛ هي خروج على المألوف. المألوف هو اسم التدليل للنسق المسيطر. النسق المسيطر هو المزيح الأكبر لما يفسده أو يهدد باحتلال حيزه.
أن يصفك آخرون بالركاكة؛ يعني أنك في خطر إن وعيت بما يعنيه الوصف، يعني أنك بدأت الانسلاخ خارج المنظومة لذا تُحارب، تُزاح، تُزال إن دعا الأمر، فلا مكان إلا للتشابه.
في ظني ألا خطأ ولا صواب. كل شيء خطأ وكل شيء صواب معاً، فقط تختلف إحداثيات النظر. لذا فلي الخيار أن أرى كل شيء جميلاً أو أن أراه قبيحاً وفق مكاني المفترض.
العقل يلعب بالعقل. الإزاحة تستهدف العقل الذي يريد أن يرى ما خلفه.

الاثنين، 8 أغسطس 2011

لغات موازية (2)




علّق عبد الهادي الصديق على اختيار خليل فرح لغة أخرى للتعبير عن قضايا تهمه بعيدة عن اللغة النموذج التي كتب بها آخرون مثل البنا إبان الدعوة إلى تعليم المرأة (وعليك بالمتعلمات فإنما ترجو ملائكة الجمال وتخطب/ الفاتنات العابدات السائحات المستنفد كمالهن المعجب/ يجررن أذيال العفاف تحنفاً فالريب يبعد والفضيلة تقرب)؛ فكتب الخليل (يلا يلا نمشي المدرسة سادة غير أساور غير رسا/ قالوا جاهلة مدسدسة أحلى من عليمة مقدسة/ اسأليهم أهل الهندسة الدنيا دايرة ولا مثلثة؟)، في حين أن الخليل ذاته من بإمكانه اللعب وفق قواعد اللغة النموذج فهو من كتب (وقفاً عليك وإن نأيت فؤادي سيان قربك في الهوى وبعادي/ يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي).
وفي ظني أن هذا يمثل نوعاً مما أسميه (حركة اللغة)، التي هي أشبه بموقف للغة تجاه موضوعات على ارتباط ببنيتها، بمعنى أن اللغة النموذج (البنا) - مثلما ضربنا المثل في مقال سابق - تقصي من لا تريد مخاطبتهم بتخير ألفاظ فئوية إن صح التعبير، وهو التخير الذي يصير بعد مضي وقت مدمجاً في بنية اللغة (الفئوية) فلا يصبح هناك خيار آخر مثلما فعل خليل فرح حين اختار عدم إزاحة المخاطبين ? بفتح الطاء- طالما أن الخطاب المحمول على لغته موجه إليهم. لكن إن أراد البنا العبور إلى لغة أخرى غير ما استخدمها لصعب عليه الأمر، إذ أن اندماج اللغة النموذج بالتخير آنف الذكر؛ لا يتيح فساحة لذاك العبور.
إن حركة اللغة ممكنة لمن يضعون اللغة ضمن الحركة الكلية للصراع، دون أن تكون متعالية أو مقدسة أو جامدة وأداتية. لذا أظن أن أكثر من يمتلكون القدرة على التحرك في نطاق اللغات الموازية هم من غير الناطقين باللغة النموذج كلغة أم، أي أنهم نشأوا خارج بنيتها وإن كانوا على علاقة بها، وهذا في ظني ما يمنحهم القدرة على وضع اللغة بلا تضخيم ضمن الحركة الكلية للصراع طالما وعوا به.
 ما أقصده باللغات الموازية شيء أقرب إلى تفلتات أو تمرد على اللغة النموذج، وهو أمر قديم في تاريخ اللغة العربية التي أتحدثها، نجده في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين ضمن نوادر النحاة والمتحذلقين، وكذلك في مستطرف الإبشيهي حين يورد طرائف النواتية بلغتهم المستغلقة تماماً على قارئ معاصر كحالي.
هذه التمردات على اللغة النموذج تنتجها أسباب كثيرة وعلى تشابك، إذ أن هناك نزوعاً لدى اللغة النموذج إلى إلغاء اللغات الأخرى الموازية لها داخل نسيج الاجتماع البشري المشترك، بافتراض صحتها ? اللغة النموذج ? وخطأ الباقيات، وبافتراض قداستها. هذا الإلغاء المتمثل في الحرب الضروس التي تخوضها هذه اللغة النموذج ضد اللغات الأخرى أو المختلفات الضئيلة الناتجة من كون اللسان الذي يحاول التحدث باللغة النموذج غير ناطق بها، لكنها تسيطر على التعليم والوسائط ...إلخ، ثم إن الحرب تتمظهر في أن أصحاب اللغة النموذج يحاربون أصحاب اللغات الأخرى الموازية فيزيحونهم مكانياً أو مفهومياً إلى هامش الوجود، مما يستدعي خنوعاً أو رد فعل، ورد الفعل هذا يمكن تلخيصه بقصة أبو علقمة النحوي مع أعين الطبيب الواردة بكتاب أخبار الحمقى والمغفلين، إذ عندما لم يفهم الطبيب كلام النحوي رد عليه بكلام غير مفهوم تماماً ولما اشتكى النحوي بأنه لم يفهم قال الطبيب (أفهمتك كما أفهمتني).
إن تعبيرات الكماسرة و(السطلنجية) ومفردات الراندوك كلها ينبغي النظر إليها ? برأيي ? على أنها لغات أخرى فقط، بعيداً عن النظر إليها بوصفها خطأ أو (تشويهاً) للغة النموذج. لو تم هذا فيصبح بالإمكان محاولة فهم الإزاحات المركزية العاملة على صنع مجتمع بمواصفات تخدم المركزيين.
ما أقوله هنا على علاقة بالحرب المستمرة على التعبيرات غير النموذجية في الغناء، فما يسمى الغناء الهابط أو المبتذل يظل تعبيراً عن إزاحة مضادة لفئات أزيحت من قبل المركز لدواعٍ مختلفة وإن كانت تتفق كلها على حماية أمن المركز.
وبالعودة إلى تعليق عبد الهادي الصديق على تحرك الخليل بين لغتين أو أكثر في شعره؛ أظن أن الخليل ولكونه ناطقاً بغير اللغة النموذج إضافة إلى اعتناقه عقيدة قومية قوية تخصه؛ كل ذلك أسهم في أن يتملك اللغة من غير أن يندغم في بنيتها، الأمر الذي مكنه من التحرك بحرية ليتمكن من مخاطبة جميع الفئات التي يستهدفها، وهو ما جعل الخليل غير قابل للإزاحة بسهولة، من غير الإزاحات الفيزيائية بمستوياتها المتعددة، وهو الأمر الذي يمكن لقارئ سيرة الخليل ملاحظته.

الاثنين، 1 أغسطس 2011

لغات موازية (1)


1
بالتدقيق فقط، يمكن ملاحظة عمليات الإزاحة المركزية، إلى الهوامش؛ سواء أكانت هوامش مكانية مثل عمليات الترحيل والإسكان الفئوي، أم مفاهيمية تضرب في بنى على علاقة بصنع الوعي في كل تجلياته المغايرة- المختلفة. وهي إزاحة تتم بديناميكية تجاه من يشكلون/ ما يشكل تهديداً لمصالح المركز (أستخدم المركز هنا بمعنى هو أقرب إلى الأوليغاركية وإن كان يختلف عن هذا المصطلح في تشابكات أخرى مع أنها على علاقة بصناعة النخب الخفية للستارات التي تجعلها بمنأى عن الملاحظة).
إن الصراع الحاد الذي يجري أمام الأعين - إن كانت تلاحظه أم لا - ينتج موجات من الإزاحة التي تكون قاسية أحياناً وسلسة في أحيان أخرى، وتؤدي هذه الإزاحة إلى الحفاظ على بنية مركزية تحمي مصالح من يسيطرون عليها، بطرق عدة، مثل الإزاحة التي تقوم بتغيير البنية الديموغرافية القريبة من قلب المركز بإبعاد من ينتمون إلى فئات أو شرائح مصالحها تضادّ مصالح المسيطرين، أو تلك الإزاحة التي تؤدي إلى نفي فئات بكاملها بعيداً عن المركز بدعاوى تختلف وفقاً للمشترك في تركيبة المزاحين، وبوسائل تتراوح بين صنع رأي عام مزيف وتعميمي عن فئات بعينها يشكل حاجزاً وبنية مفهومية طاردة لها؛ وبين استخدام القوة الفيزيائية المباشرة لإبعاد فئات أخرى (المشردون مثلاً) بدعاوى رُسِّخت لدى قطاعات واسعة في المجتمع بأضرارهم (الأخلاقية) - مثلاً.
في حين إن أُبعد المشردون أم لم يبعدوا؛ تظل أنماط ونسب الجرائم التي شكلت مبرراً لإزاحتهم في تصاعد. وحين أسأل نفسي أحياناً وأنا أقرأ صفحة الحوادث بصحيفة ما عن كم من هذه الجرائم ارتكبها مشردون؟ أجد الإجابة فاضحة للغاية. هذا على سبيل التوضيح فقط. 
وبالعودة إلى علاقة المركز بالإزاحات المتوالية؛ المكانية بالتحديد، نجد أن ثمة علاقة صُنعت بين قربك المكاني من المركز وبين المقابل المادي الذي عليك دفعه لتحظى بهذا المكان، فأن تسكن قريباً من المركز يستلزم أن تدفع مالاً أكثر عدة مرات مما يجب أن تدفعه لأي مكان آخر، وهذا ليس لمميزات القرب، والخدمات، ...إلخ، ولكن مثلما يمكن أن تنتقي الشرائح أو الفئات التي تريدها أن تؤم مطعمك مثلاً؛ فترفع الأسعار إلى مستوى فوق قدرة الفئات التي لا تريدها؛ يحدث ذات الشيء في ما يتعلق بالسكن. إن رفع الأسعار بلا مبرر - بالنسبة لي - في الجغرافيا القريبة من قلب المركز؛ هو عملية انتقائية/إقصائية بهدف إزاحة من لا تتوافق مصالحهم مع المركز إلى هوامش المكان، إذ للمكان الهامشي تأثيره النفسي على الفرد - في ما أظن - بما ينتج تطلعاً أو خنوعاً، وكل منهما مفيد لبنية المركز المسيطرة.
2
في ظني أن ما يجب أن أفهمه أنني خطير على البنية المسيطرة الخفية وراء تمظهراتها البراقة؛ خطير طالما أحاول رؤية ما وراء الكواليس أو أتساءل خارج الأجوبة الجاهزة والمعلبة التي توزع - مجاناً - عبر كل وسائل الاتصال المتاحة، لذا تعمل آليات المركز على اجتذابي إلى القطيع وفي ذات الوقت تزيحني مع كل موجة إلى هامش أبعد، مما يجعلني مدفوعاً إلى محاولة الاندغام مع السائد من أجل الحصول على امتيازات تجعلني قريباً من الأحداث؛ هذا الاندغام الذي ثمنه ربط مصالحي بمصلحة المركز بما يمكن هذا المركز من شرائي- استعبادي، ثم تسييري حسب موقعي لخدمته. وإن لم أستوعب هذا بطريقة أو بأخرى سأنفى تمهيداً لتطأني - بعيداً عن الأعين - التمظهرات الفيزيائية للمركز، من أجل تلييني أوإزالتي.
يمكن لكل فرد - إن أراد - أن يلاحظ آثار الإزاحة المكانية في آثار (التكسير) و(الترحيل) لفئات كثيرة بمبررات مختلفة بعيداً عن قلب الخرطوم، وكأن لا خيارات أخرى كانت بيد (القائمين على الأمر)، ففي النهاية ظلت الأرض التي كانت عليها مساكن فئات عدة خالية بعد سنوات من ترحيلهم عنها، مما يجعل التفكير يتجه إلى أن السبب الأول وراء إبعادهم لم يكن (الحاجة إلى الأرض) كما قيل، بل كانت موجة إزاحية مثل كل الموجات التي تمر بنا من غير أن نلاحظها، إذ ربما يظل الفرد يرحل بعيداً إلى أبعد بمحض إرادته - كما يظن - حسب الوضع المالي وعلاقته بالإيجار. كذلك المركز لا يسمح إلا للقليلين بامتلاك مكان فيه، إذ كم سعر المتر في (قلب الخرطوم).
3
هناك أيضاً إزاحة مفاهيمية تظهر في اللسان، إذ أن كيف تنطق الحروف وبأي لكنة؛ يمثل حقلاً لكثير من الملاحظات التي هي على ارتباط وثيق بالإشارات أعلاه، وتؤدي إلى إزاحة مضادة من فئات أطرت القهر والإقصاء ضدها إلى إقصاء مواز تمثله (اللغات الأخرى) مثل الراندوك وتعبيرات الكماسرة وغير ذلك وهو ما سنحاول ملامسته في مرة قادمة.

الاثنين، 28 مارس 2011

نشادر


محفوظ بشرى
      
(1)

ما بعد العام 2003م، جامعة الخرطوم. الصيف يدخل بوابات الجسد، يحتل في الذهن مناطق كانت من قبل تشغلها ذكريات المدارس الإبتدائية، وحمى السحايا الشعبية، وإحساس مداري عمَّق طعمه فينا ماركيز وأمادو. الصيف، وبقية من حرارة تتآكلنا، نحن ثوريو ما قبل تلاشي المعنى والقضايا، المتمردون، بدوغمائية أغرقنا بها مشاتل التفكير باتساع كل الجامعات.

قال عبد الرحيم: (ولد عجيب، بيكتب شعر مفاجئ، لازم تسمعو). كان في نفسي شيء من آثار فلسفة مادية تأبى أن تندهش. كان في نفسي ذلك الغرور الصفوي بأننا قد ملكنا مفاتيح الحقيقة المطلقة. كان الوقت أكثر شباباً من أن يعترينا الذهول.

على حافة رصيفٍ بها شيء من الحدة، جلسنا. الوقت بعد الظهر، بتلقائية آلة، وبترددٍ لم يولد لديه، أنزل حقيبة الظهر المثلثة وقرأ:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ/ وامْتَطَتْ ذاتَ الْمُغَنِّي/ فَتَّتَتْ حزنَ دِمَاه/ فأشاعَ الطُّهْرَ في الجَّوِّ ومات.

كانَ النَّشادرُ يغمُرُ الأقدامَ بالحِنَّاء/ بالحزنِ المقيم/ بالشهوةِ... الأوجاعِ/ نظراتِ الرِّجالِ الضَّاربينَ غُرُوبَهم في غَرْوِ بَادِيَةِ الشّروق.

صَلَّيْتُ بالرُّوح/ فى هَوَجِ التناسلِ والتلاقحِ/ دونَ عُذْر/ صَلَّيْتُ حتى اْرْتَابَتِ الأشياءُ/ واهْتَبَلَتْ مساماتُ السَّمَاء/ ونَشَقْتُ أشرعةَ النشادر. كان وَعْيُ الماءِ وَعْيِي/ كنتُ فى لاوَعْيِ وَعْيي/ أتَدَاعَى بالهطول/ للمجاعاتِ سمائي/ للمدامعِ ما أرى*.

للحظةٍ نظرتُ لأعلى، بدت الأشجار شاهقة، وكأن هنالك من حثا تراباً ساخناً بقلبي، الدوي، الدوي. إستعدته القصيدة من أولها، وبذات التلقائية، بدأ من جديد:

النَّشيد الأول:

الرُّوح... مساءُ النَّشَادِرْ... طِبَاعُ الأرض:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ........

(إسمك منو؟)

(أحمد محمد إبراهيم).

(بتقرأ وين؟)

(في الإسلامية.. طب).

كانت الأسئلة تتقطم دون أن تفصح عما أردت، كانت الأجوبة أكثر براءة من رنينها السريع. أمعنتُ ذاكرتي بالفتى النحيل حد أن تشتكي الثياب، الوجه المبتسم، صغير السن حتى بالنسبة لي. أمعنتُ يقيني في داخله الخارجي. موسومٌ كصاحب الوقت، حركة دائمة في سكون مقلق.

قلت لعبد الرحيم ليلتها: ( الود ده جبتو من وين؟).

بعدها اغتبنا روحه مشرحين ذراته بحسدٍ لذيذ. (يالعاديته التي تصدم بتعقيدها، يا لقربه العميق جداً). كان ذلك ما قلته في نفسي وأنا أتهيأ للرحيل خارج المدينة.

(2)

لن تعرف صدق الرجل إلا مما يكتب.  فإن قال، فلن تميز الصدق من الخيال. أحمل معي وريقات بها القصيدة كاملة، قرأتها قبل أن أقرأها، استوقفتني شهوات مشاغبة تتناثر في متن النص، كنا نرى أن التعبير المباشر عن غريزة الجسد الأولى، يفسد النشيد الشعري، كنا نلمِّح بأبعد ما نستطيع، حتى جاء هو ليقول بكل بساطة: تَرْقُصُ الْحِنَّاءُ فى عينيكِ/ يَرْقُصُ الصَّدْرُ الْمَضِيقُ الكَثُّ/ دهراً/ أشتهيكْ/ أتَعَالاكِ عَلَيّ/ ثم أنسلُّ كجرحٍ نَاعِلاً حزني/ وألْعَق**.  وذات قلق، هاتفت أحدهم ليخبرني دون تعمد أن الإسم صار (أحمد النشادر). لست على يقين بمن جاء بالإسم، ربما عبد الرحيم، ربما.  ورغم لقائي القصير به، لكنني رأيت كيف أنه في بداية أن يصير النشادر داخله، هو النشادر الذي يراه الآخرون، أو هكذا إعتقدت.

(3)

الأول من يوليو 2008م، صيفٌ شاخ سريعاً، الخرطوم، شارع البلدية. قال مأمون وهو متعجلٌ كالعادة: (إنت وأحمد حتقوموا تظبطوا المسائل، تعال ألاقيك برئيس التحرير). كنت متوجساً، فيما بعد صادفتني مقولة رامبو: (في نفسي ذعر من جميع المهن)، سبب آخر للتوجس كان هو أحمد النشادر. كنت أعرف مأمون، إلتقينا كثيراً في عصر الفوضى من حياتينا، أفهمه، أستطيع التعاطي معه. لكن النشادر.. كانت لقاءاتنا دائماً سطحية، سريعة، نتفادى فيها الإحتكاك. كنا حذرين من بعضنا دون مبرر غير أننا نخاف الصداقات الجديدة ربما. وانا أعبر صالة التحرير المكتظة، نظرت إليه بخواء يخفي تحته توتراً مخجلاً، نظر إليَّ نظرة خافتة.. وابتسم.

الأيام الاولى كانت صعبة، فجأة بعد غياب عامين عما يسمى بـ(المشهد الثقافي)، يجب علي أن أعمل داخل هذا المشهد الذي صرت لا أعرف عنه شيئاً. لم يتذمر، لم يظهر التأفف، على الرغم من أنه كان ينجز ثلاثة أرباع العمل. شيئاً فشيئاً، بدأت أراه. خرجت من أسر الصورة الأولى لفتى نحيف صغير السن وبرئ يقرأ علي (كتاب النشادر)، خرجت من صورته المعقدة التي لم أرها مباشرة ولكن عبر (الجينوم.. قنصل الأبد). هنا شخص آخر، شخص تمنيت أن أكونه أكثر من مرة.

(4)

لستُ النشادر، ولا ينبغي لأحد أن يكون. أن تقول في شخص ما تراه فيه، أمر عصي، تزداد صعوبته كلما زادت محاولاتك أن لا تكذب فيما يخصك، وأن لا تسقط في فخ المديح الرخيص. لست النشادر لأنني لست فناناً، لأنني لست واضحاً، لأن لدي ما أخفيه، لأنني لا أبتسم بصدق، لأنني أبالي بالتفاهات، لأنني لا أستمتع، لأنني لا أبتكر طرقاً جميلة لأتذوق خارج حدود المنطق والمألوف. لست النشادر لأنني أنا، سجينٌ، خائرٌ، مستهلكٌ، خاسرٌ، منغلقٌ، وأسأل حين لا ينبغي السؤال.

لا أحد النشادر، لأن لا أحد يملك القدرة لتحفيز من هم قريبين منه ليخلقوا أياماً أكثر قابلية لأن تعاش.

لا أحد هو النشادر، لأن لا أحد سيقول:

إنَّنِي النَّايُ/ زفيرُ الحُبِّ مِنْ فَمِ إمْرَأة./ حاشداً فِيَّ عصافيرَ سجينة/ حُرقةً/ أَنَّات طَلْقٍ/ كان أنْ حبلَتْ مسامي واْحترقْتُ/إنني النَّايُ/ مبعوثُ الرِّئَاتِ/ وملاءاتي الفَرَاغ/ عارفاً صمتي/ ومُؤْتَزِرَاً كتابي/ نافذاً صوتي / مُحَاطاً بالأثير/ أعتلي السُّمْرَةَ لوحاً / يرشفُ النَّاجِينَ مِنِّي من مُكَابَدَةِ الزَّفير***.

(5)

28 أكتوبر 2008، صحيفة الأحداث، صفحة 14: وسادة تنوّع مفترس. الخرطوم: أحمد النشادر. (وسادة هادئة من التنوع المفترس، ما يمكن أن يسيطر عليك وأنت تضع بصرك على مدخل معرض مركز توقيذر للفنون...الخ)****.

كان هذا آخر عمل صحفي له كمسؤول عن الملف الثقافي لصحيفة الأحداث، بعدها، إنتهى عصر النشادر. كنت موزعاً بين رغبتين، أن يظل، وأن يذهب ليصبح ما يريد أو ما يراد منه. فذهب هكذا، بسيطاً كمن لم يفعل شيئاً، كمن لم يخلخل الذائقة ويشكلها كما يريد. (دبرها أحمد النشادر)، تلك الحياة الذهبية، تلك الحوارات التي تنتظر. ما فعله النشادر في صحافة الثقافة، لن يُرى الآن. يوماً ما، سيكتشفون (هم) أنهم كانوا تلاميذاً لزمن طويل في مدرسة أحمد النشادر. تلك المدرسة التي ضد الملل. المدرسة التي تجعلك تنظر بأكثر من عين وتسمع بأكثر من أذن. مدرسة الغريزة التي تصيب وتصيب. فيما أذكر، أنه كان الأكثر تفهماً للحاجات البشرية (ومنها حاجاتي حين يطلب مني أن أسافر لمدة يومين مثلاً).  كان الأكثر قدرة على توليد الأفكار الجديدة، والأكثر مجازفة بين من عرفتهم.

(6)

هو موت جنون العظمة، إنتصار المجموع، تصالح التناقضات، كاريزما التساؤلات الحصيفة، فضيحة الإنسان في وجوده، شعرٌ مشاكسٌ يخدش عباءات (مريم الشجاعة) الزائفة، وسذاجة (شرف والأسد) المخيبة للآمال. عراقة تتكون في شرط فسادها بعلاقات التأجج الموحية. هو القميص، القميص.

(7)

............................................

.............................................

.............................................

(8)

كل فصول الصيف، وخريف أخير، كل ضحكات الصباح الهستيرية، كل حوارات الشارع ونحن نجمع المواد، كل التمرينات التي دربنا بها أذهاننا على ابتكار المفاجأة طي الروتين، كل أوراق الأشجار التي استرقت السمع لكتاب النشادر، كل الليالي المفعمة بالإرهاق وعشوائية البرامج المعدة سلفاً، كل نميمة بيننا عن الفلاسفة والدوبيت والشعر (أبو ضلفتين)، كل الخبث الساذج الذي جعلنا نضرب في الأرض بحثاً عن مشروع لم نتفق عليه ولم نعرف ملامحه حتى، كل الصفحات التي مُلئت بمضادات العادية الحيوية، كل الوقت الذي انقضى بيننا عن قرب ( 1920 ساعة)، كل هذا هو النشادر.

يناير 2009م

إحالات:
* كتاب النشادر - النشيد الاول
** كتاب النشادر –  النشيد الثاني
*** كتاب النشادر  -النشيد الثالث
**** تقرير للنشادر عن ورشة تشكيل بمركز توقيذر
عبد الرحيم: الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل
مأمون: الشاعر مأمون التلب

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...