1
يحيلني صديقي حسام الكتيابي إلى لغة أخرى "غميسة" يحاولها بكامل قلقه الذي أراه تجاه ما يسود باحثاً عن أراضٍ ذات طعوم غريبة، حين يقول: "والشاعر كالرسام/ يطير بريشة واحدة/ يدفن الدلالة حيةً في الكلام"، أو: "لسوء حظ الأرض/ لا شمس تجري من الجنوب للشمال".
إن تفكيراً في مثل هذا الخروج، يحفز غدداً أماتتها العادية وتكرار النماذج والقوالب التي ما إن تبدأ التحول حتى تتقولب من جديد.
"غميسٌ" هو الحفر أعمق، ما يجعل البشري يحاول إبدال الصور المعتادة بصور صادمة، لغة تعلِّب عدائيتها للقارئ بين حروفها. يقول حسام: "أنت تسيئين استعمالي"؛ عبارة تكسر القالب فقط بما يحيل إليه الضمير (أنتِ). ولكن "أغمس" ما أثارني لديه كان قوله: "أعدني إلى رئتيك/ أو فافلتيني أيتها النساء السابعة/ إلى النساء الدنيا".
2
مثل حسام، تولد في كل لحظة آلاف التركيبات والقوالب المختلفة، ينطق بها الآلاف في مئات اللغات، لكن سرعان ما تتبخر تحت وطأة شمس المعتاد، وغير الخارج على نظام اللغة.
أحب ابتكار المفردات، لذا – أذكر – عندما مرت عليّ مفردة "أَنْهَرَ" من النهر التي تقابل "أَبْحَرَ" من البحر؛ كادت تجتازني معرفة بكيف تفتل ألياف اللغة حبلاً كيف الذي أردت، لكن "قيد المنطق" سرعان ما اتكأ على إشراقة ظللت أحاولها منذها وإلى الآن.
أن تصنع مفردة جديدة، ويفهمها من يسمعها من أول مرة؛ ذلك نصر لا يفوقه إلا اكتشاف سر اللغة ذاتها. واللغة "غميسة" طالما لم تتحرر من افتراضات الصواب والخطأ وأن تعرض كل ما تسمع أو تقرأ على آلة الفحص التي تنظر في مطابقة ما عرض عليها للصواب الافتراضي أو الخطأ الذي هو كذلك.
3
ثمة لغة أخرى خلف كل لغة، أعرف ذلك، وأعرف أن ثمة سراً للغة يجعل من يعرفه يسبح خلف المعنى وخلف الدلالة وخلف الرمز حتى إنه ليقول ما يقول من دون أن يحتاج الأمر إلى معنى بعينه ثابت بل حسب موقع الكلام من الحدث أو شيء من هذا القبيل.
أحياناً يكون "الغميس" في اللغة كونها غير كافية لتقوم بمهام الناقل، إذ تُدخل المحاول أحياناً إلى كهف قد يفتح عليه ذكريات منسية من غروبات نهرية في سن الرابعة مثلاً، أي أن اللغة غير الكافية للنقل قد تنشط الذاكرة بحثاً عن ابتكار يشبه ابتكارات الطفولة وفتوحاتها اللغوية بإرسالك إلى القديم بروائحه وألوانه ودهشته التي تصيب بالارتعاش. لكن برغم ذلك ثمة ما يجعل اللغة ضمن المسهمين في تَليُّف اللسان حين تعجز عن اقتناص نحت أو ابتكار مفردة تغنيك عن هذا العرض الجانبي للغة: الإيصال.
4
أحياناً حين تفجؤني مودة غامضة إلى ما كنته في حيوات أخرى، أشعر بأنني أحاول انتشال روح "غميسة" تكمن بين طيات جلدي وروحي المستحدثة. يكاد قلبي يثب وأنا أفكر في أن هذا ربما كان ممكناً.
شكراً صديقي حسام الكتيابي وأنت تذكرني بذواتي الأخرى:
" ضعي العناق في النار
ضعينا على بعضنا
ساندويتش حنين".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق