الثلاثاء، 26 فبراير 2013

يسقط الشعر. يسقط الإنسان


ربما الشعر احْتِمَامُ المعنى، قلق الغريزة الغريزي إذ ينفلق ملوِّثاً كل غواية باسمها. الشعر عارياً، ربما محض التفافٍ هو، محض إرهاقٍ يكسر ظهر هوميروسات الآن. فلتغنِّ إذن الجرادتان بما شاء لهما ابن كثير، وليترنَّم آدم، حتى يُنتَهك ذاك الوادي، ولتنثقب مرارة من يحمل اسماً يهيم به وعليه، يتمخَّض عنه، ويَمْخَضه. فلتكفّ الموقعات عن إيفاء نذورهن طبلاً طبلاً، وليسقط الشعر، لتسقط الكذبة.

....
يعيش الغاوون.
يعيش الذين لم نرهم، ولا بصموا على سعير هذا الآن. وليمت من عداهم من كَتَمَةِ الجمال خلف ألسنتهم؛ من يقولون بالسمع، من يبخسون الناس أسماءهم، ومن يغترفون الصمت مقابل الصليل الإلهي.
كان الشعر محاولة الإنسان الأولى ليرتبك، ليكذب على أناس يسكنون ذاته، ليغوي حواسه الأوليَّة باقترابه من المثال الصاخب للتلوّن وفق ما تمليه مناورات العبث البدائية، بعثرة الجهات الأولى على مصائد الوحش الذي سيكونه. كان الشعر اسماً، له أن يلتصق بأنسب ما يجد، تاركاً ما ترك في محاولات البقاء المستميتة، يصيح: (بل أنا الشعر). كل جديد سيمسي قديماً، كل قديم سيصيح: (بل أنا الشعر). لكن.. أشعرٌ هناك؟ لماذا اقتراب (الشِّعْر) من (الشَّر) ومن (الشَّعْر)؟ لماذا كل هذا الدخان المريب؟ أي الأماكن كانت تكمن في مخاط اللغة؟ وأي الأحاديث اختلقت أولاً نعتاً لها لتذهب بالغناء كله وتترك من لا يحسنونه في عماء؟
ما أقوله، ألا تثق بالشعر، لا تثق بالحرباء حين أنك تصلح للأكل، ولا تثق بتعقيد الأمور وأنت هكذا ساذج وجميل.

لست على يقينٍ، وهذا شعر. لست على سواء من الأمر، وهذا شعر. نفيٌ وإثبات أنا، وهذا شعر. الكون شعر. لكن الشعر يبدو باهتاً حين تنظره باحتمال الكذبة. ربما كل هذا كذبة، كله (ماتركس)، أو ربما نحيا في تلافيف أدمغتنا، أو ربما لا توجد أدمغة بل فقط الخيال. الخيال ربما جنسٌ يستغرق الأجناس، كائن من شدة شعره يتخفى خلف أسماءٍ لا تقرأها الأيدي المتلمِّسة. ربما هو اقترابٌ من حظيرة الكناية، حيث يحيض الكون سراً، ينجب سراً، يضعنا في مِسرارٍ يجعلنا خفيين عن أنفسنا، مبعدين عن هذياننا، ولا نرى قربنا من آلة الذبح التي بأيدينا. ربما كل هذا سيهوي إن عرفنا أنّ لا شعر، بل نهرف بالقول على عواهنَ مُطْلَقَةِ السراح.

جزافاً تتعتَّق المسألة، يأتي أحدهم بقانونه ينزف من شبههِ به، ليقول: قال القانون إن هذا كذا، وما ذاك بكذا. يعرف الغاوون معنى أن تكون تابعاً لأمرٍ لَذَّتُهُ استعبادٌ، وناره تُنضج زيت الركض إلى مجهولٍ صلاته انفصمت عن نفسها. يعرفون مسألة التسمي بما شاء الاسم في معافرته الحرية. يعرفون أين ينشدون الكمال.

ما الشعر؟ تقول نفسي: إن هي إلا أسماء سميناها. تقول نفسي التي تهيم بالمعنى: الشعر معنىً يُصَاقِرُ الكائنات أسفله. وتقول أمنيتي الآنية: الشعر، لا شيء، وكل شيء. أما أنا فأقول: الشعر ما يراد به له، ما يُفعل به وله، ما ينفلت منا له.

....
إذ يَرْجُبُ القائل أنْ يعتقد لنفسه مقالاً لا يزاحمه فيه ذو افتئاتٍ على الناس، ذلك أن في بعض المشقة أكثر منها، وفي بعض القول ما يشفي نفوس الذين فشا فيهم الغرض؛ يكذِّبون هذا وهذا، ويلقون بالتهمة يشهدون عليها بما اعتور خيالهم من وهمٍ فهم الواهمون الذين يضربون في التبكيت ولا يفحمهم الصواب بل يعريهم الصمت عنهم من أثواب الصدق التي بها يستترون.
إن قال قائل منهم: وما الشعر إلا ما عرفناه نقلاً عن ثقاتٍ غير مغموزي الجانب. لقلنا: وما الثقات إلا كذبة الشعر حين يمالئ الخيال على الضِّنَّةِ بما يكشف عنهما حجاب الخلود.
فلنضرب اللغة، ولنبرح المقال رهزاً يعاطينا إياه على رغمها لتَخْرُج عن كَرْكَستها لما صُدِّعنا به الدهرَ بغير علمٍ لنا به. فليقرّ الذي يسبق، ألشعر مُعيَّنٌ موجود أم محض اختلاقٍ قال به النحاة والصرفيون ليستروا شيئاً أن ندريه فنفوت منهم بما ينبغي لنا؟

....
عندما قال الكتابُ قولاً أخرج الرجز من قبيلة الشعر؛ لم يبق إلا الخليل، صائلاً على ظهر ظنّه، ومبتدعاً ما ابتدع. هكذا شرَّدوا الاحتمالات كلها.
أعربي هو؟ أمن بلاد الزنج جاء؟ وما المعابد الأولى إلا خبرٌ خُبِّرنا به إذ يقول: "غنِّ يا ربة الشعر غضبة أخيل بن بيليوس". هل قديم هو؟ أم محدثٌ يواريه ذوو المصلحة أن يُستبان فيُبتذل فيضحون كغيرهم من غوغاء المباشَرات العجولة؟

ولأن الشعر آبقٌ يقتات لحم أرنب الخيال مجففاً، ويحاول اهتداءً بأنجمٍ في نصفٍ مختلف من الأرض؛ يضيع عليه الطريق، يتعثر في خوفه أن تلحقه الكلاب فيلحف في الدعاء أن لا يطأه الملاحقون، أن يظل على مسافة منهم تقيه أن يُعرف، وتفيء على من يريدون إدراكه بشيء من جِراءِ الظل. الشعر هاربٌ أبداً، مستوفزٌ من وشوشة صوت الريح في الباب، يسبقه الخوف قبل عينيه كلما اقترب متنبي أو معري أو درويش. يسيح إلى حيث لا يطاله المسّ، ولا يُكال له القول بالأغنية.

الشعر ثمرةٌ حرامٌ يهفو إليها نساكها، وكلهم بانتظار حوَّاء ما، ليروها؛ عذابٍ ما، ليدفعوا صك عبورهم إلى أرض الغرائز الناتئة. الشعر، كل ما نتوق إليه من وراء ظهر الأسطورة، كل ما نخافه، وما نتلذّذ بسرِّه، وبوعورة أن يُقال على الملأ الأدنى. الشعر، نفي الجنس عن الأجناس.
الشعرُ تخنيث اللغة.

....
لغاتٌ تكتنف لغاةً. لغاتٌ تعبر إشاراتها ضد قانونٍ مقدسٍ لفحوى الإشارة. لغاة ينتهبون ما يفعله القائلون على حين تسامٍ يفاجئ أول ما يكون أولئك الضالعين في تحريف صدقهم بما يلائم احترابهم على قِصَر الصراط الذي يعبرون. لغات يعتمرها اللاغون في ولوغهم لَبَنَ السرِّ على عتبات الرغبة الباردة. ما بين النداء والنداء، وادٍ من التكهنات والتهكم العبثي. يسمون هذا شعراً، وما الشعر إلا احتراق آلة القول إذ تسير بأقصى ما تمتلك. الشعر، رقصة الذي يؤله نفسه أمام مرآة لا تثقب عيناً بالحقيقة، إنتاج مغاير لما ألفته النساء اللائي يسكنَّ سبطانة اللسان النارية.
الشعر ابن حرام لا يؤبه من أبوه، طالما أمه تعتنق الجميع.

....
إن خرج الشعر من كونه اسماً سُمي به ضربٌ من ضروب الحلم؛ فلن يخرج من كونه أول مدعاةٍ أطلت برأسها من شقوق التفرقة، بين من يحسنون السبيل ومن لا يحسنون. إنه الخيال، ذلك الذي أخرج بني آدم من غفوتهم، ليعمروا مكاناً من أمكنة الضرورة. إنه الخبال بالخيال، ذلك الذي يقتلنا بالترجمة، يستعبدنا بالفضول، ننفثئ منه إلى كائنات في جفافٍ تأخذنا أخفافنا إلى حيث نغيب.

لا شعرَ في الأمر؛ فقط أحجيات معطلة ولون مشيد؛ درجات من تأنسنٍ في اتجاهٍ لا نطيق الوصول إليه بغير غناء.

ذلك الذي ترك ما أراد ببسطام؛ لو لم يخرج عنها، لما عرف بسطام. كذلك من ترك ما أراد في الذي أراد، ما كان أجدر به أن يخرج عما أراد ليعرف ما أراد.

الشعر شيفرة الذي يتحقق في توازيه فلا يراه كل راءٍ إلا من أظلمت عليه الجهات. كلها جهات لا يستقيم منها سوى الذي لم نصفه؛ وهنا، يبدأ التلويح بعصا الشعر من الذين يرون أبعد، والذين لا يرون البتة. كلاهما يستحمّ بذات النبيذ، يستحكُّ الذين لا يؤمنون بالكلام على إطلاقه، ليبدأوا التصويت في عتمة كل ذاك الصخب: الشعر، الشعر، الشعر. يتعاورونه مثلما يُكَنُّونَ عن لفظة لا تصحّ. كلهم يرى أنه يراه، كلهم لا يحب أن يُسأل: ما الشعر؟ كلهم يريد أن يجيب عن الشعر بالشعر. أقول: أرونا عظمته بأن تجيبوا عليه بغيره؛ فإن كان موجوداً حقاً، فما ضرّ أن يقال بغيره؟

....
ربما الشعر طريقة لتسمع، طريقة لتبرأ من قولٍ يقال كما يفعل دهماء العجلة. أو ربما هو محض احتمالات لا تجيب على ما تتوق أن تراه العين. أمن قائلٍ بأن براعة الشاعر لا تعدو أن يكون طبالاً للغة؟
أمن قائل بالصوت؟
في مبتدأ الأمر، حين وُجِدَ الشعر ليُنَغَّم على مسامع الآلهة، ثم القبائل؛ لم يتساءل أيٌّ كان عنه. فقط، أخرجوا الشاعر عنهم إلى ذلك الوادي، ثم جعلوه من فعل أقرانٍ آخرين.
الشعر في أسطورته ليس فعل الإنسان، ليس ابن الإنسان، لذا حق له أن يعبِّر عن شهواته، أن يكون كاذباً، أن يَمْنَحَ قائله قوةً لا يستطيع منحها الغرور.
الشعر إذن، محض شغبٍ وخروج. محض هجينٍ يُخشى عليه من النفاد، من أن تبهت أخيلته، أن يقتلها الإنسان بسعيه إلى كمالٍ مُعَذِّبٍ يطيح بكل ما يمكن التفكير فيه.

....
لا توقن بالشعر، لا توقن بالوزن والإيقاع، ولا بالصور الجميلة؛ لا تثق بالشعر، لا يغوينَّك العبث اللغوي البرّاق؛ إن هي إلا استفاقة واحدة، فيذهب في الريح كل ما حمله الاسم من أحلامٍ بمذاق الانفعال. اترك الشعر هكذا، معلقاً ليلبسه من يشاء، فإن لبسه فقل له: أحسنت. ولا تطع خيالك فتمسي سجيناً على أهبة التصديق بالحرية.

هكذا معضلة الأسماء التي لا تفضي سوى إلى الجرداء من بلاد الصراخ. افطن مرةً لجمال هذا السحر المغوي، تملَّ منه، ثم انظر مرآتك، ماذا ترى؟ فقط الضباب والدخان والفوضى ولا جدوى الاعتقاد.

إنه الشعر، يعطي حين يَقتُل، يُفرح كل من يبغي السكون على ملاءاتٍ برائحة الخلود؛ لكنه فارغ من جمال الحقيقة.

....
ضده، تصطفُّ أجناس ما كان لها أن تُعرف لو لم يأت السخفاء بتأسيس لجنسٍ يهدمها. إذ الشعر واللا شعر حالٌ فصمها ذَوُو الوطر إلى كينونتين، جاءت المقالات بما لا يجوز على العارف إلا إن مُنح شيئاً منهما. هما في أصل الأمر صوتٌ، لكن استنكف بعضهم على كل صوت أن يُنْظَمَ. هم من منحوا الرفعة لأحدهما، من أشعلوا هذا الهراء الذي سوَّد الصفحات بالخيالات التي تسرق القليل الذي مُنِحْنَاه، في التنقيب عما لا يجوز وما يجوز. يُفَحِّلون، ويُطَبِّقون، ويجعلون له الوظيفة والمعاني والبديع والصنعة؛ وغير ذلك مما ناء بالثقل على اسمٍ فارغٍ لا يثير سوى الغبار. إن يكن الشعر ذاك، فما الشعر إلا ميت نبكيه. وإن يكن هذا، فهو ميت لا نرى موته الآن. دعوا الشعر يختار أي شيءٍ ليملأ به جوفه، عله يصبح شيئاً ما.

....
تسقط الترانيم. يسقط هزّ الرؤوس طرباً، ويسقط شقّ الأثواب.
إن جعلتَ للشعر وظيفة، إن جَعلْتَهُ محض محرِّكٍ لبِرَك الداخل التي استنقَعَت؛ فكأنك دعوت غريباً لغريب. إن تعرف ما الشعر، إن تتيقن منه، تلك أولى العثرات التي تُسقِط. النيروديون أين هم؟ إنها الأحرف الثملة، من تستغفلنا، من تستغلق على نفسها لتوهم أنها من عميقٍ أتت.

يسقط الإلقاء، تسقط الوقفة بين اليدين، يسقط المال، يسقط الشعراء، تسقط الحكمة، يسقط الشعر.
يسقط كل هذا: القواميس، اللغة، البلاغة، الإنشاد، الغواية، الشياطين، الوجود، البكاء، التجديد، الجدب، الكلمات، القوافي، التفاصيل، الناس، الكذب، الثقة، اليقين، الأمل، المفاجأة، الرغبة، البقاء.

يسقط الشعر. يسقط الإنسان.

الجمعة، 23 نوفمبر 2012

اختراق السر المعلن


إيقون شيلي:
(أحس بالكثير من الإحراج الخفي، خلف ألوانك، الانفعالات الغريبة تتولد عندي بالنظر إلى تركيبة اللون والشكل والخطوط، لا شيء واضح، لكن دائماً هنالك ما يخبرني أن هذا الرسم ينطوي على فضيحة ما، أتساءل: ما الذي تفعله بكل ذلك، وأي شيء لا تريد قوله فرسمته كسر، كغواية لا تنتهي؟)
أرسم العورات، هذا ما أفعله بيني وبين نفسي. لم تكن لدي تلك القدرة الساحرة التي تجعل مني شخصاً قادراً على خلق جو إيجابي في المحيط. حيث أكون، أكون إما مراقباً، أو متحدثاً في أمور سطحية، مسلية أحياناً. لكنني لم أوحي لأي كان، في أي وقت، بأنني متفهم لما يقول، أو أنني متأثر به. فقط أجلس هنالك ناظراً إلى عورات الجميع، وهي تتكشف لي بوضوح كلما ازدادت محاولاتهم لإخفائها. هذا أنا. ما لم أستطع فهمه، نفسي التي أشعر بالفضول حيالها على الدوام، أنقِّب فيها كلما لم يكن لدي ما أفعله، ما أكتشفه، يصير بعد لحظة أمراً لا وجود له، يتبخر، يختفي، يرحل.
البعض منهم لم يعرفوا بأنهم مكشوفون لي، والبعض عرف ذلك، لكن بتعميم لا يخل، كلهم لا ينتبهون. وحدي أفعل. لم أدرب نفسي على ذلك، وجدت نفسي هكذا، أتسلل دائماً إلى تلك المنطقة التي يحميها الناس عن بعضهم، أفك خيوطها بصبر، إشارة تلو واحدة، وضحكة تلو أخرى. أقرأ العيون في هربها المستمر من شيء لا تراه، أقرأ الحركات العصبية الخفية، ثني الأصابع، التململ، لمس أماكن من الجسد بصورة مكررة، طريقة الإلتفات، درجة علو نبرة الصوت عند الحديث، كل شيء، كل الأشياء التافهة التي تحيط بإنسان ما، ما هي إلا تململات لتلك الأشياء المخنوقة، العورات.
كنت أجمع حصيلتي كل يوم، أنقيها، أفرزها، ثم أرسم ما يتبقى. هذا ما وجدت من أجل فعله، هذا ما يجعلني أتحرك، ما يدفعني لفضول جديد كلما نضب ما لدي. أوصف كثيراً بأنني بارد، أكثر الذين أقابلهم لأول مرة، يكون هذا انطباعهم عني، أستطيع قراءة ذلك خلال الجليد الذي يبدأ بتغليف الحوار الشحيح مزيحاً دفء التحية الأولى. لكنهم يقتربون مني بعد وقت، بالتعود، دون أن يدركوا أن انطباعهم الأول ربما كان أكثر صحة مما يظنون الآن.
(أنت لا تحس بشيء، وترسم لوحات غنية هكذا بالإحساس؟).
(ليس إحساسي، لقد سرقته)
(لا يمكنك سرقة ما لا تعرفه، إذا حدث هذا، تكون غبياً)
(حسنٌ، أنا غبي).

دييقو ريفيرا:
(هذه اللوحة، أنا أفهم في الرسم قليلاً، ولكن بعيداً عن معرفتي هذه، فلنقل أنني كمشاهد عادي، أرى أن هذه اللوحة مسطحة، لا تحمل أي عمق، حتى العينان واضحتان بشكل مؤسف، لماذا؟ استثناءاً من كل اللوحات الأخرى؟)
حسن، أنا نقصاني الكلي، ذلك الذي يمنحني حالتي الشريرة حين التساؤل: هل أرسم ما أراه أو أظن أني أراه؟ أم أرسم ما أريد أن أرى؟.
كان مساءاً غبارياً كما أظن، كنت على يقين أنني سأقابل شيئاً يحطم الرتابة التي تئز حولي، كنت مسموماً حينها بالنشاط، أتحرك وأسأل، بل حتى أنني أثرثر. لم يكن يضايقني كل ذلك القحط الذي يشكل الشوارع والبنايات وأوجه الناس، عودت نفسي أن أراه هكذا، قدراً، أو ما يعادل القدر لدى أمثالي من الذين لم يكونوا يؤمنون بشيء.
أدخل إلى أحد المحلات التي تبيع أشياء لا رابط بينها سوى أنها تباع، على مرايا تمثل جوهر ديكور المكان، أخذت أنظر إلى كل ذلك الغبار الذي يغطيني. نسيت أن أخبرك بأنني في الشتاء أصبح مسعوراً تجاه كل شيء، على كل حال، لم أكن أعرف ما أريده، كنت على ثقة بأنني سوف أجد شيئاً مميزاً لا يهتم به أحد. في انتظار أن يفرغ البائع لي، تسليت بالنظر خارج المحل، لا أعير الذكور أدنى ملاحظة ولكنني أنتبه للإناث، الكل كان يمشي كمن يركض، من كل عشر إناث يعبرن أمام المحل، أستطيع أن أعجب باثنتين، لم أكن أرى الوجوه، فقط العبور السريع لظل الجسد. هي لم تكن تسير مسرعة، تمعنت في المدخل مما أتاح لي رؤية وجهها، عرفت بعد لحظات فقط أنها هي الشيء المميز الذي أرغب به. جسد دقيق لم تغتصبه السمنة، بل كان مملكة للنحول اللطيف، عظام محددة وبارزة في الوجه، عينان.. فقط. كان من النادر رؤية عينين تقولان كل شيء في كل لحظة، لا تخفيان، لا تنتابهما رغبة في المكر. وقفت أراقبها، اشترت أربعة حيوانات منحوتة بحجم صغير، لم يكن صوتها هو الذي توقعته، لم يحتوي على أي اهتزازات يمكن فك طلاسمها لقراءة ما خلفها، كان صوتاً فقط.
تبعتها، ترحلت إلى أماكن غريبة، مكتبة، محل لبيع التسجيلات، اشترت هارمونيكا، وشال من الصوف ذي ألوان صاعقة. أوقفتني فجأة في الطريق وسألتني: لماذا تتبعني. بحثت عن أي انفعال في نبرة السؤال، لكن كان سؤالاًفقط، ليس به ضيق، لا فضول، لا ترقب. قلت بتلقائية: لا أتبعك. ضحكت، شعرت بأنني مفضوح، قالت: لماذا تتبعني؟، قلت: هل يضايقك أن يتبعك أحد؟، قالت: لا أعرف.
في الأيام التي تلت ذلك التقينا، سارت الأمور كما تسير مع جميع الناس، لم يكن يها أمر خارق، علمتني أشياء كثيرة، دون أن تقصد ذلك. كنت أجلس الأوقات الطويلة وأنا أتمعن في الإنسان الذي بداخلها، انسان خام. من طبقة واحدة يمكنك رؤيته مباشرة عند النظر في عينيها، حين تنتابها الإنفعالات والمشاعر تظهر على الفور فيهما حتى قبل أن تقول هي. كانت نقيضي الكامل.
رحلتي للبحث عن عمقها لم تتوقف، ولكنني  كنت كل مرة أعود خائباً، لم أستطع أن أحصل أي نتيجة غير أنها ذات ما تنظر إليه.
هذه هي التي رسمتها هنا، وكما وصفت أنت، إنها سطح كامل منتهى الكمال.
(ماذا حدث لها بعد ذلك؟)
(لا أعرف!)

كريستوفر أشانتي:
(اللوحة البيضاء، إنها قاسية!)
نعم، هنالك توظيف للأبيض، الأبيض قاس، القسوة بيضاء في نهاية الامر، يمكنني أن اجد المبررات لهذا وهي مبررات تعنيني أنا في المقام الأول وليس عليها ان تعنيك، فأول البديهيات في هذا الوجود أنني غير أنت، الإنسان الذي يوجد فيّ، ليس هو الذي يوجد فيك. كان أول انتباهي للأبيض ذات طفولة، لم يكن الخروج إلى الطريق إلا مغامرة متجددة كل يوم، كان الطريق مليئاً بالمشاهد الجديدة والتي لا تنفد. ذات مرة، رأيت إنساناً أبيضاً كله، يرتدي جلباباً أبيضاً، شعره أبيض بالكامل حتى الشعيرات الدقيقة التي تغطي ذراعيه، حاجباه أبيضان، جلده وردي يميل إلى البياض، أنا أعني هنا اللون الوردي ذاته وليس لوناً مجازياً. خاف إبن خالتي الذي كان يرافقني، أما أنا فقد اختلط عليّ شعوران، الرعب والقسوة. عندما عدنا في الظهيرة إلى المنزل، أخبرتنا جدتي بأنه كان حورياً، وهو ما اصطلح عليه في الكتب التي قرأتها فيما بعد بعدو الشمس. ما أريد قوله هنا هو أن اللون الأبيض منذ ذلك اليوم، شكّل لديّ دلالته التي يسورها الرعب والقسوة، لذا عندما أرسم، تأتي ثيماتي بتلقائية، الأزرق للعمق وللضياع كذلك، الأحمر للحزن، الأخضر للفوضى، الأسود للجمال، وبالتأكيد الأبيض للقسوة.
سأخبرك عنها، هذه القسوة، أنا أحس بها لكنني لا أملك رد فعل عليها، وكأنني لا أكترث، أنا بالفعل لا أكترث، ليس لدي ردود أفعال للكثير مما أحس به، لكنني لست قلقاً، أحس بأن هذا أفضل لي وللغير.

فلاديمير كوش:
(التجثيث؟)
أسميه هكذا، لكنه أقرب ما يكون في الواقع لكشط القشرة الزائفة لما يسمى بالحياة لنرى مقدار الموت الذي يوجد في الأشياء الحية، الروح ذاتها في اعتقادي  ما هي إلا قنبلة موت تنتظر لحظة الصفر لتنفجر، الموت هو انفجار الروح، أنا احاول أن أبين هذا، أن الروح ليست حياة، الكثير مما نعتقد بأنه ميت هو حي، هذا أيضاً أحاول أن أوضحه.
التجثيث أن أشير إلى الجثة، أن أعري كونها جثة، بدلاً من الزيف الذي يحملنا على الإعتقاد بأنها حياة. الجثة بالتأكيد هي ما ينجو من انفجار الروح: الموت، الجثة هي الشظايا، لذا تراني ألملم شظايا الأشياء جنباً إلى جنب مع رموز الحياة والموت. أنا لا أحب الزهور، ولا أدري لماذا، لا أحب الصباحات المشرقة، لا أحب الليل، ولا القمر ولا كل تلك الأشياء التي صارت مقدسة ضمن حدود الطقوس الواجبة لكي تكون إنساناً. لا أحب كوني إنساناً، أحب الزوايا الخافتة، أحب الجثث، لكن لا أحب الميتين.
كل ما تستخدمه فهو جثة، وكل ما استغنيت عن استخدامه فهو حي.
أشاهد التلفزيون، أعرف ان التلفزيون هو جثة الخيارات، المنزل جثة الطمانينة، التفكير جثة الموت، اللوحة جثة الرسم، الرسم جثة الحرية. أرأيت، لقد عددت لك فقط طرفاً من جثثي المفضلة.
(كيف تحيا إذاً مع كل هذا التركيز على الأشياء؟)
هل أحيا؟ لم يخبرني أحد بذلك، أنا جثة الإنسان الذي بداخلي، فقط لا غير.

بيكاسو:
(هل تعرف ما تفعله؟ لا أظن هذا، وإن كان ظني خاطئاً، فكيف تعرف؟)
آه، المعرفة. إنها كذبة، لا أحد يعرف ما يفعله، بل حتى أن هذه الكلمة ذاتها هي من ابتكارات الذين يريدون الغش في لعبة الكمال، أن تعرف، ذلك يعني أنك أكمل من شيء ما، من أحدٍ ما، وهو أمر لو تحقق، لكنا شيئاً آخر. إنها تتسلل إلى كل أفعالنا هذه الكلمة، عرف، يعرف، ستعرف. لكن عندما نضيف إليها الألف واللام، تصبح معنىً مطلقاً في الكمال، المعرفة. إنها الضالة. أنا لا أعرف، عن كل شيء، وكل شيء. أنا فقط أفعل، أرى بطريقتي في الرؤية، أقتل بطريقتي في القتل، أنا إنسان صالح، أعشق الخطأ والجشع وأحب الإمتلاك.
أنت:
(فلننظر معاً إلى هذه اللوحة، طفلان برأسيّ بالغين، أو بالغان بجسديّ طفلين، الرؤوس تحمل ملامح شريرة، الأيدي الصغيرة تتماسك، الأقدام ترقص، اللون الأحمر يغطي الأرض تحتهما، الكثير من الظلال الخضراء تصنع جمهوراً في الخلفية، جمهوراً غاضباً ربما أو مشجعاً، إذ يبدو وكأنه يرفع الأيدي بقبضات مضمومة. حسنٌ.. ما هذا؟)
لم أفهمك، أنت رأيت اللوحة، وأنت وصفت عناصرها، إذاً يحق لي أنا أن أسالك: ما هذا؟
(لن أقع في فخك وأسألك عن المعنى؛ أنا أسألك فقط: ما هذا؟)
سأخبرك بأمر، أذكر ذلك المشهد الطريف لرجل أصابه الغضب من بطء جهاز الكومبيوتر أمامه، فأطلق النار عليه، أو بالأحرى لاحظت أنه أطلق النار على الشاشة وليس على الكومبيوتر والذي ظل يقبع آمناً أسفلها.
كذلك أذكر الشجارات التي تنشأ بين البعض، الحروبات، الكراهية، كل ذلك دون أن ينتبه أحد إلى أن من يشاجره أو يحاربه أو يعبر عن كراهيته، ما هو إلا مجرد شاشة أخرى بينما يقبع من تسبب في الشجار آمناً في مكان لا يطال.
هنالك الكثير من الأمثلة التي يمكنني إيرادها في باب صرف الإنتباه أو توجيه الإنتباه. لكن ما يعنيني هنا هو المصروف انتباهه، كيف يمكن بسهولة فائقة أن يتم صرف الأنظار عن المسائل التي تمثل أساساً للمشكلات وذلك بنفخ مسألة صغيرة وغير جذرية في الحل بحيث تأخذ حجماً أكبر منها وتشكل واجهة يبصق عليها الغاضبون حتى يشتفوا.
نحن دائماً بحاجة إلى تفسير، لا تحتمل عقولنا وجود أمر لا نفهمه، وهذه ثغرة. كذلك نتميز بالفضول، والتقدير المبالغ فيه لذواتنا، وهذا يضيف ثغرتين أخريين.
أرى أن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه فن صرف الانتباه هو مداعبة هذه الثغرات الثلاث، وتختلف مقادير الخلطة المكونة منها باختلاف النوع المطلوب من الخداع.
ما رايته في هذه اللوحة، لا يعدو كونه شيئاً من هذا النوع. لكن عليك أن تتمعن أكثر لتعرف ما أقوله فيها، أنا أحاول التعرية، بدءاً بذاتي، والتي شكلت لي ما يمكنني أن أقارن به الذوات الأخرى. هذا هو الأمر.
(من أنت؟)
(...........)

سلفادور دالي:
(ماذا لو قلت لك أنه لا يوجد معنى لكل هذا؟)
أنا لا أبحث عن معنى، أنا لا أرسم معنى، أنا لا أخلق معنى. أنا أصف بطريقتي ما هو حادث فيَّ في اللحظة، أناقض نفسي، أسخر منها، لكن هذا جاء من وصولي إلى يأس الضجر، حيث لا مكان لانتظار الجديد. فقط شيء يشبه الرحلة، لكنني لا أبذل جهداً لتنتهي، ولا جهداً لإستعجال الوصول.
(وأين الحب؟)
الحب؟ ما هو الحب؟ الحب محض اختلاق، لكننا نريد أن نقع فيه، هذا مؤكد، فالحب هو ما يمكن أن يجعل منا أساطير، وأنا أحب أن أصبح أسطورة، أم أنني كذلك؟ هل تعرف أحلامي؟ لا تصدق الذين يقولون لك أنني أرسمها، أنا فقط أرسم ما أحتمل أن أراه. هل جربت الخروج يوماً؟ الخروج الذي يسمونه بالجنون أو بالغرابة، أنا الجنون، أنا الغرابة، فلا تسألني عن الحب، سلني عن الأسطورة، عن الإعتقاد، عن الكذبات الرائعات اللائي يجعلن من أي شيء، شيئاً عظيماً. هل أفلت منك؟ هل تحس بأنني أكثر ابتذالاً من لوحاتي؟ إذا كان هذا ما تحسه، فأنت تعرفني الآن.

جويل بيتر:
(ما قصدت منه الصدمة، جزء كبير منه ما عاد الآن يمنح الإحساس بالصدمة أو المفاجأة، صار عادياً، إنه حكم الزمن.)
من قال أنني قصدت الصدمة؟ أين هذه الصدمة في أن يقبل الرأس المتعفن لرجل، رأساً متعفناً لرجل آخر؟ أين الصدمة في أن أضع أمامك طبقاً من الفاكهة الرمادية و أعضاء مبتورة من إنسان؟ أين هي الصدمة في اللالون، في التسلخات التي تجعل الأنف يتقلص حتى قبل أن تصله رائحة الفناء؟ لو كنت مكانك، إذاً لكنت حذراً في عباراتي التي أؤسس بها للمفاهيم. أنت إنسان حضاري أليس كذلك؟ إذاً دعني أخبرك عن الحضارة التي جعلتني أشعر بالنشوة: ذات نوبة من نوبات عدمي، جال بخاطري ذلك الحديث الصريح الذي قال به العميل (سميث) وهو يوجهه إلى (مورفيوس)، أنا أتحدث عن فيلم (ماتركس)، قال له بأن سلوك البشر يشبه سلوك الفيروسات. حسن، ما علاقة هذا بكونك حضارياً؟ هل العلاقة هي أنك كلما أمعنت في الحضارية كان ذلك على حساب الإنسان الذي فيك؟ أم أن الإنسان الذي فيك ما هو إلا فيروس يحتل شكلك المورفولوجي المؤله؟ حتى لا أتعب عقلك الحضاري أكثر، أقول لك: أنت متعفن، ووظيفتي أن أبين هذا لي، وربما لك. إذا كانت أعمالي تشعرك بالصدمة أو توحي إليك بأن الغرض منها ان تشعرك بالصدمة، فيجب عليك مراجعة إنسانيتك، فربما كانت مصابة بمرض يجعلها تظن في نفسها غير ما هي عليه.

الاختلاج العقيم:
جون جود بالينكر:
(كل هذا مصنوع، حتى روح الأسطورة، الهوبيت، الفرسان، الغيلان، أدواتك، هذه الدقة غير المنطقية في التكنيك، هذا الفرز الحديدي للألوان، هذه الموازنات التي لا ترحم عقل العين. هنا، معك، تضيع الطفولة وتسيل الهنات إلى الوراء. ما هذا الرسم التكنولوجي الذي يستخدم أيدي البشر؟)
كيف يمكن أن تخرج من دهليزك لترى أي شسوع كان غائباً عنك؟. الخوف والأبطال والنزوع المؤلم إلى الكمال، هذه عناصري، الخوف من المقارنة، الخوف من الإندثار، الخوف من الضياع وسط لجة الآخرين، الخوف كاملاً كمطلقٍ يملأ لا نهائية الثقوب في كينونتي. الأبطال يحملون رائحتين، إحداهما تعوض ما ينقص حدودك الضيقة من انطلاق، وما يتبع هذا من كسر للقوانين، الرائحة الأخرى ترضي التواتر الذي يجعل من سيرتهم اتصالاً كاملاً بالخلود. وهل أنا إلا باحث عن هذا الكنز، الخلود؟. أنشد الكمال، الكمال صنو الدقة، الدقة تعني ألا يفوتك شيء، أن لا تؤخذ عليك هنة، جد لي رجلاً لم تخنه الحاسة، رجلاً لم يخطئ في التقدير. حتى الكمال ذاته يقولون بأنه نقص، أنت ترى
النقص عندي، هذا يدلني على انني بلغت منتهى الكمال.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

فولاذ.. مثلاً


في بَعضِ الأزقَّةِ
قد تُصادِف كارلوس فوينتس في عنفه الأبدي
كونديرا في كينونتِه الراقِصة
أو ربما مرَّاتٍ قد تختلقُكَ غُربةٌ في المصَبِّ.

وَصْمَتانِ لا غير:
كِذْبَتُكَ الهِيبيَّةُ بِقولكَ "كُنتُ"
وصَيْحَتُكَ الأعلَى؛ موشاةً بأحْرُفِ مَا يُقالُ عنها.
عدا هاتين
أنتَ ملاكٌ يا كتابي
أنتَ الملاك.

غَبْرةٌ على حِين سَعْيٍ إلى الأبديَّة
غيَّرت مَذاقَ جَاني العَسل.
وَعَثْرَةٌ في كاملِ التَّوقُّعِ لم تَصْلُح مَشهداً لقيامةِ البعيد.
الحنينُ إلى السكون – يا قلبي –
حنينٌ إلى الموات.
الحنينُ إلى اندثار كهربائكَ – يا قلبي –
حنينٌ إلى التَّماسِ مع العالميْن.
ضِعْ بِلَوْثَةِ المتَاهَةِ تِلْك
فرُبَّما حينَ تخلعُ لعنتكَ في بعض الأزقة
تصادفُ – يا قلبي- مرثيةَ جون لينون

في انحناءة الإنسان:
يحتاج الحب إلى المثابرة
المنطق إلى العاطفة
والضوء إلى عتمة تنيره.
فيا قلبي/كتابي
غيَّرتكَ التجربة.

حتى الشيء الذي يُفْسِدُ الأشياءَ
يَفْسَد.
فيا سحرَ أن تكونَ الوحيدَ في زحام العربة.


الخرطوم- أكتوبر 2012

الجمعة، 17 فبراير 2012

محمد آدم فاشر (3-3)


يلخص محمد آدم فاشر أحداث المكيدة التي دبرت لإسماعيل باشا - حسب السيناريو الذي يقترحه - في أن "الحملة ظلت تطارد المماليك، وبعد معركة كورتي فروا إلى بلاد الجعليين ومنها إلى النيل الأبيض، وعندما توجهت الحملة إلى النيل الأزرق للقضاء على مملكة سنار عاد المماليك إلى بلاد الجعليين وخططوا للمؤامرة، هو ما يفسر الإعداد المسبق للمواد بغرض خلق الذعر وإرباك صفوف الحملة"، وهو رأي يتسق مع رؤية الشاطر بصيلي الذي يصرّ على أن المماليك هم من أحرقوا إسماعيل. ويصف آدم فاشر دور المك نمر بأن كل ما فعله هو أن أعد وليمة ضخمة تناسب مقام الحاكم الجديد للبلاد بغرض التقرب إليه، دون أن ينتبه إلى الأجندة الأخرى التي كان يحملها المماليك. وهو - آدم فاشر - يضع ملاحظة أن الطريقة التي اغتال بها المماليك ابن الباشا هي ذات الطريقة التي دبر بها والده محمد علي مذبحة القلعة ضدهم. ونضيف نحن هنا أن أسلوب الغدر بالخصوم وهم على مائدة الطعام لم يثبت استخدامه - على حد علمي - من القبائل السودانية لا قبل تلك الحادثة ولا بعدها، ما يقوي من رواية آدم فاشر عن أنه أسلوب (وافد) مع المماليك الذين تعرضوا لمذبحة بذات الطريقة من قبل.
وعن حملة الدفتردار الانتقامية يرى محمد آدم فاشر أنها لم تكن بالقسوة التي صورت بها وإلا لأبيدت قبيلة الجعليين من قبل الأتراك الذين سيطروا سلفاً على كل الرقعة الجغرافية التي من الممكن أن تتحرك فيها القبيلة لستين عاماً، ولو كانت الحملة بتلك القسوة لاختفى الجعليون إلا من نفذوا بجلدهم إلى الحبشة والأصقاع الأخرى النائية.
ثم يصل آدم فاشر إلى خلاصة ما يريد قوله وهو إن حصر تاريخ الأمة - كما يقول - في حادثة قطع طريق أو مؤامرة انتقام، عمل يعيب الكتابة التاريخية، وفي أحسن الأحوال هو ليس سوى تاريخ قبيلة ودائماً يضاف إليه ما يعلي من شأن القبيلة ويسبغ عليها البطولات وغير ذلك من أوصاف الكمال على حساب الحقيقة أو على حساب الغير. قبل أن يدعو إلى إعادة قراءة التاريخ باستصحاب وجود مملكة المماليك بدنقلا إذ يرى أن إخفاء مملكة المماليك والنتائج المترتبة على تدميرها أدى إلى بتر فصل كامل من تاريخ السودان مما جعل البعض يحاول الاجتهاد لمعالجة الخلل في السياق التاريخي.
في بداية عرضي لهذه المقالة قلت إن مقالة آدم فاشر تحتوي على الكثير من الجوانب التي يعتبر نقاشها تجديفاً تاريخياً، هذا إن لم يوصف كاتبها بـ(الشعوبية) مثلاً. ورأيي هذا بنيته على النقاط التي يمكن أن نخلص إليها منها - المقالة - وتطعن خاصرة الرواية الرسمية المتداولة، وهذه النقاط هي:
أولاً: غزا محمد علي باشا السودان لمطاردة المماليك الذين نجوا من مذبحة القلعة وكونوا مملكتهم في دنقلا، وليس من أجل المال والعبيد كما قيل.
ثانياً: لم يحارب الشايقية الغزاة بل انضموا إليهم وما يحكى عن تحميس مهيرة بت عبود لهم لم يكن في معركة كورتي ضد الأتراك بل كانت المعركة ضد المماليك.
ثالثاً: لم يقتل المك نمر إسماعيل باشا حرقاً بل المماليك من فعلوا ذلك.
رابعاً: لم يخصّ الدفتردار الجعليين بقسوة تزيد عن قسوته المعتادة على بقية القبائل.
أخيراً: بنيت الرواية الرسمية عن أحداث الحملة على وجهة نظر القبيلة التي تنزع إلى منح القبيلة بطولات تعلي من مكانتها بين القبائل.
وبعد. هذا سيناريو يشحذ الخيال حقاً، اقترحه محمد آدم فاشر لبعض ما صاحب الحملة التركية على (السودان)، وهو يبين - في رأيي - وجود طرق وزوايا يمكن النظر منها لترتيب السياق التاريخي بما يوافق الأدلة والاحتمالات دون إهمال أي منها من أجل الوصول إلى أقرب رؤية للوحة التي رُسمت بتفاعل مكونات كثيرة ومعقدة.
شكراً محمد آدم فاشر.

الأربعاء، 15 فبراير 2012

محمد آدم فاشر (2)



يقترح محمد آدم فاشر في مقالته (الثأر من كردفان والنيل الأبيض على جريمة شندي هو الفصل المبتور من التاريخ المسطور)؛ سيناريو مختلفاً للأحداث التاريخية التي صاحبت حملة محمد علي باشا على السودان. وهو سيناريو على درجة من الإمتاع ويصلح ليكون مرتكزاً لمزيد من التأمل في الأسئلة الحائرة التي تصاحب التاريخ (الرسمي) على أمل جلاء ما خفي منه.
يرى محمد آدم فاشر أن السبب الأول لحملة محمد علي على السودان كان القضاء على المماليك الذين نجوا من مذبحة القلعة وفروا إلى السودان مؤسسين مملكة قوية في دنقلا وما حولها. وعليه يقترح أن كل المقاومة والمعارك التي تعرضت لها الحملة كانت من عمل المماليك، وهو ما يرى أنه بُتر ممن كتبوا تاريخ السودان، ما أدى إلى ضياع فصل مهم يغير وضع الأحداث في السودان ككل.
ويستدل آدم فاشر بمعركة كورتي - مثالاً - التي قال إن التاريخ صورها على أنها معركة الصمود ضد المحتل. ويرى أن رواية وزارة التعليم السودانية (الرواية الرسمية) لا تحقق حاجة البحث العلمي الذي يحدد لكل معركة هدفاً من أربعة أهداف هي: دينية، اعتداء بغرض الحصول على المغانم، رد الحقوق، صد العدوان.
ويناقش آدم فاشر فرضية الوزارة بأنها لصد العدوان ويرى أن هناك عدة نقاط تقف في وجه هذا الأمر مثل: أولاً إنه بالمقارنة بحجم القبيلة لا يستطيع الشايقية حشد عدد كبير من المقاتلين، وليس هناك ما يدل على أنهم استنفروا القبائل الأخرى من حولهم. ثانياً إن انخراط الشايقية في حملة الخديوي كان طوعاً ووصفه بأنه حدث غريب في عرف الحروب لأن المواجهات العنيفة تترك مآسي من الصعب جداً عبورها في اللحظة إلى مرحلة الصداقة، وإذا ما أرغموا على الانخراط في الحملة وهو ما لم يحدث لأية قبيلة قبلها وبعدها فالأولى أن يتم تجريدهم من السلاح وهو ما لم يحدث.
من هذه الملاحظات يقترح محمد آدم فاشر أن ما حدث لا يمكن قراءته بمعزل عن دور المماليك وأنهم قاوموا الحملة في معارك طاحنة كانت من ضمنها كورتي حيث حملوا الشايقية على القتال معهم وعندما انهزموا جنوباً انضم الشايقية إلى الباشا لملاحقة المماليك. ثم أورد رواية أخرى تقول إن المماليك عندما انهزموا في أرض النوبة من قبل جيش إسماعيل فروا جنوباً مع عائلاتهم ومنقولاتهم فحاول الشايقية قطع الطريق عليهم ربما طمعاً في ما يحملون لكنهم تعرضوا للهزيمة مما أوجد الحاجة إلى صوت نسائي يحثهم على الثبات فكانت (مهيرة).
ثم يعرج آدم فاشر إلى حادثة حرق إسماعيل باشا بأرض الجعليين، مورداً الرواية المشهورة عن مطالبة الباشا للمك ثم إهانته ومن ثم المكيدة والحرق. ويبدي ملاحظات ذكية هي: أولاً كان الموسم موسم أمطار مما يصعب الحصول على الأعشاب بالمواصفات المذكورة تاريخياً، وإذا وقع الافتراض أنها جُمعت منذ موسم الجفاف فما السبب؟
ثانياً صورت الرواية السائدة موكب الباشا وكأنه موكب صغير يمكن استضافته في منازل من القش تُنشأ سريعاً.
ثالثاً لم تؤكد المصادر أو الرواية المدة التي قضتها الحملة ببلاد الجعليين والسبب الذي يجعل الحملة تتأخر هناك.
رابعاً لا يحتاج الباشا لإذن من المك للحصول على المال والأنعام!
ويواصل آدم فاشر في عدد من التساؤلات حتى يصل إلى ملاحظة أن حملة الدفتردار الانتقامية ذهبت إلى كردفان ثم إلى النيل الأبيض قبل أن تأتي أخيراً إلى بلاد الجعليين! قبل أن يتساءل السؤال الرئيسي لديه في هذه المسألة: إن مقتل إسماعيل باشا في شندي عند عودته عبر مكيدة هذه حقيقة تاريخية، ولكن يبقى السؤال من الذي فعل ذلك؟


نتابع.

الخميس، 9 فبراير 2012

محمد آدم فاشر (1)


(1)
من قديم كنت أحس بأن ثمة خطباً ما في (تاريخ السودان). أستند في إحساسي بهذا الخطب إلى هشاشة المسلمات التاريخية التي اعتمد عليها السرد الخيالي - بنظري - الذي سمي (تاريخ السودان) ومن ثم حُشيت به رؤوسنا بلا ترفق.
الأسئلة النشطة التي كانت تثاورني من حين إلى حين، تبدو إجاباتها (الرسمية) بلا سند من أبسط أنواع المنطق. كانت هذه الأسئلة من نوع: ما الذي حدث خلال 300 سنة قبل الفونج؟ أين ذهب العنج؟ من أسقط دولة علوة؟... الخ؛ كلما أغرقت فيها، وجدت أن ثمة يداً عبثت بشيء ما  في مكان ما لغرض غامض.
ومن أجل أن يكون ما أرمي إليه جلياً، فقد تم التعارف (مدرسياً) على أن إسقاط دولة علوة جاء عبر تحالف (العبدلاب) و(الفونج). بغض النظر عن تجاهل روايات أخرى غير رواية التحالف الرسمية، يمكننا ملاحظة أن في ذاك الوقت (حوالي 1500م) لم يكن هناك (عبدلاب) إذ إنهم أبناء عجيب بن عبد الله جماع... الخ القصة، وحتى لدى ود ضيف الله مثلاً لا نجد هذا الاسم (العبدلاب) بل يشير إليهم باسم (أولاد عجيب) أو (ولد عجيب شيخ قري).
جرت محاولات تصحيحية لاحظتها مؤخراً بجعل التحالف بين الفونج والقبائل العربية بقيادة عبدالله جماع القاسمي، إلا أن هذه المحاولات لم تأخذ بعد قوة تمكنها من إزاحة المسلمة السابقة.
ذات الأمر يشبه الإجابة على سؤال: أين ذهب العنج؟ وهم نوبيو دولة علوة. بعضهم لديه الشجاعة - مثل د.الباقر العفيف - ليقول: (العنج ديل نحن ذاتنا) والبعض يتجاهل هذا السؤال تماماً. إلا أن الطريف هو تعامل الروايات المحلية الشفاهية مع هذا الأمر، فالنوبيون انقرضوا بالجدري (مع ملاحظة أنه جدري انتقائي جداً لم يقتل غيرهم من مساكنيهم) وذلك دفعة واحدة مثلما هي الرواية الشائعة في شرق النيل الأزرق، أو أرسل إليهم الله ثعابين ووحوشاً طردتهم إلى الصحراء ليفسحوا المكان للعرب الوافدين مثلما هي الرواية في الشمالية.
إن أسئلة مثل هذه - على بساطتها - تفتح أفقاً آخر للنظر، مدهشاً، ومفاجئاً، ومحطماً للكثير من الأوثان التي نحن عليها في اعتكاف.

(2)
ما دفعني لنبش هذا الموضوع مرة أخرى، الزاوية الممتعة التي نظر منها محمد آدم فاشر إلى التاريخ المدون للغزو التركي للسودان. إذ يفترض أن ثمة انتحالاً جرى لمقاومة المماليك للجيش الغازي؛ من قبل الشايقية والجعليين (كورتي ومقتل إسماعيل). وهو يؤسس هذا الرأي على تساؤلات منطقية وقراءات للواقع المحيط في جدله مع الصراعات القائمة في ذلك الوقت. مشيراً إلى عدم قدرة القبائل على حشد الأعداد التي قيلت، إضافة إلى أن مفهوم الوطن في ذلك الوقت لم يكن يعني أكثر من حمى القبيلة.
تحتوي مقالة آدم فاشر على الكثير من الجوانب التي يعتبر نقاشها تجديفاً تاريخياً، هذا إن لم يوصف كاتبها بـ(الشعوبية). إلا أنها مع ذلك ممتعة، وواضحة، وإن لم تخل من أثر التدافع القبلي المحتدم مؤخراً.
سنعود إليها.



المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...