الثلاثاء، 26 فبراير 2013

يسقط الشعر. يسقط الإنسان


ربما الشعر احْتِمَامُ المعنى، قلق الغريزة الغريزي إذ ينفلق ملوِّثاً كل غواية باسمها. الشعر عارياً، ربما محض التفافٍ هو، محض إرهاقٍ يكسر ظهر هوميروسات الآن. فلتغنِّ إذن الجرادتان بما شاء لهما ابن كثير، وليترنَّم آدم، حتى يُنتَهك ذاك الوادي، ولتنثقب مرارة من يحمل اسماً يهيم به وعليه، يتمخَّض عنه، ويَمْخَضه. فلتكفّ الموقعات عن إيفاء نذورهن طبلاً طبلاً، وليسقط الشعر، لتسقط الكذبة.

....
يعيش الغاوون.
يعيش الذين لم نرهم، ولا بصموا على سعير هذا الآن. وليمت من عداهم من كَتَمَةِ الجمال خلف ألسنتهم؛ من يقولون بالسمع، من يبخسون الناس أسماءهم، ومن يغترفون الصمت مقابل الصليل الإلهي.
كان الشعر محاولة الإنسان الأولى ليرتبك، ليكذب على أناس يسكنون ذاته، ليغوي حواسه الأوليَّة باقترابه من المثال الصاخب للتلوّن وفق ما تمليه مناورات العبث البدائية، بعثرة الجهات الأولى على مصائد الوحش الذي سيكونه. كان الشعر اسماً، له أن يلتصق بأنسب ما يجد، تاركاً ما ترك في محاولات البقاء المستميتة، يصيح: (بل أنا الشعر). كل جديد سيمسي قديماً، كل قديم سيصيح: (بل أنا الشعر). لكن.. أشعرٌ هناك؟ لماذا اقتراب (الشِّعْر) من (الشَّر) ومن (الشَّعْر)؟ لماذا كل هذا الدخان المريب؟ أي الأماكن كانت تكمن في مخاط اللغة؟ وأي الأحاديث اختلقت أولاً نعتاً لها لتذهب بالغناء كله وتترك من لا يحسنونه في عماء؟
ما أقوله، ألا تثق بالشعر، لا تثق بالحرباء حين أنك تصلح للأكل، ولا تثق بتعقيد الأمور وأنت هكذا ساذج وجميل.

لست على يقينٍ، وهذا شعر. لست على سواء من الأمر، وهذا شعر. نفيٌ وإثبات أنا، وهذا شعر. الكون شعر. لكن الشعر يبدو باهتاً حين تنظره باحتمال الكذبة. ربما كل هذا كذبة، كله (ماتركس)، أو ربما نحيا في تلافيف أدمغتنا، أو ربما لا توجد أدمغة بل فقط الخيال. الخيال ربما جنسٌ يستغرق الأجناس، كائن من شدة شعره يتخفى خلف أسماءٍ لا تقرأها الأيدي المتلمِّسة. ربما هو اقترابٌ من حظيرة الكناية، حيث يحيض الكون سراً، ينجب سراً، يضعنا في مِسرارٍ يجعلنا خفيين عن أنفسنا، مبعدين عن هذياننا، ولا نرى قربنا من آلة الذبح التي بأيدينا. ربما كل هذا سيهوي إن عرفنا أنّ لا شعر، بل نهرف بالقول على عواهنَ مُطْلَقَةِ السراح.

جزافاً تتعتَّق المسألة، يأتي أحدهم بقانونه ينزف من شبههِ به، ليقول: قال القانون إن هذا كذا، وما ذاك بكذا. يعرف الغاوون معنى أن تكون تابعاً لأمرٍ لَذَّتُهُ استعبادٌ، وناره تُنضج زيت الركض إلى مجهولٍ صلاته انفصمت عن نفسها. يعرفون مسألة التسمي بما شاء الاسم في معافرته الحرية. يعرفون أين ينشدون الكمال.

ما الشعر؟ تقول نفسي: إن هي إلا أسماء سميناها. تقول نفسي التي تهيم بالمعنى: الشعر معنىً يُصَاقِرُ الكائنات أسفله. وتقول أمنيتي الآنية: الشعر، لا شيء، وكل شيء. أما أنا فأقول: الشعر ما يراد به له، ما يُفعل به وله، ما ينفلت منا له.

....
إذ يَرْجُبُ القائل أنْ يعتقد لنفسه مقالاً لا يزاحمه فيه ذو افتئاتٍ على الناس، ذلك أن في بعض المشقة أكثر منها، وفي بعض القول ما يشفي نفوس الذين فشا فيهم الغرض؛ يكذِّبون هذا وهذا، ويلقون بالتهمة يشهدون عليها بما اعتور خيالهم من وهمٍ فهم الواهمون الذين يضربون في التبكيت ولا يفحمهم الصواب بل يعريهم الصمت عنهم من أثواب الصدق التي بها يستترون.
إن قال قائل منهم: وما الشعر إلا ما عرفناه نقلاً عن ثقاتٍ غير مغموزي الجانب. لقلنا: وما الثقات إلا كذبة الشعر حين يمالئ الخيال على الضِّنَّةِ بما يكشف عنهما حجاب الخلود.
فلنضرب اللغة، ولنبرح المقال رهزاً يعاطينا إياه على رغمها لتَخْرُج عن كَرْكَستها لما صُدِّعنا به الدهرَ بغير علمٍ لنا به. فليقرّ الذي يسبق، ألشعر مُعيَّنٌ موجود أم محض اختلاقٍ قال به النحاة والصرفيون ليستروا شيئاً أن ندريه فنفوت منهم بما ينبغي لنا؟

....
عندما قال الكتابُ قولاً أخرج الرجز من قبيلة الشعر؛ لم يبق إلا الخليل، صائلاً على ظهر ظنّه، ومبتدعاً ما ابتدع. هكذا شرَّدوا الاحتمالات كلها.
أعربي هو؟ أمن بلاد الزنج جاء؟ وما المعابد الأولى إلا خبرٌ خُبِّرنا به إذ يقول: "غنِّ يا ربة الشعر غضبة أخيل بن بيليوس". هل قديم هو؟ أم محدثٌ يواريه ذوو المصلحة أن يُستبان فيُبتذل فيضحون كغيرهم من غوغاء المباشَرات العجولة؟

ولأن الشعر آبقٌ يقتات لحم أرنب الخيال مجففاً، ويحاول اهتداءً بأنجمٍ في نصفٍ مختلف من الأرض؛ يضيع عليه الطريق، يتعثر في خوفه أن تلحقه الكلاب فيلحف في الدعاء أن لا يطأه الملاحقون، أن يظل على مسافة منهم تقيه أن يُعرف، وتفيء على من يريدون إدراكه بشيء من جِراءِ الظل. الشعر هاربٌ أبداً، مستوفزٌ من وشوشة صوت الريح في الباب، يسبقه الخوف قبل عينيه كلما اقترب متنبي أو معري أو درويش. يسيح إلى حيث لا يطاله المسّ، ولا يُكال له القول بالأغنية.

الشعر ثمرةٌ حرامٌ يهفو إليها نساكها، وكلهم بانتظار حوَّاء ما، ليروها؛ عذابٍ ما، ليدفعوا صك عبورهم إلى أرض الغرائز الناتئة. الشعر، كل ما نتوق إليه من وراء ظهر الأسطورة، كل ما نخافه، وما نتلذّذ بسرِّه، وبوعورة أن يُقال على الملأ الأدنى. الشعر، نفي الجنس عن الأجناس.
الشعرُ تخنيث اللغة.

....
لغاتٌ تكتنف لغاةً. لغاتٌ تعبر إشاراتها ضد قانونٍ مقدسٍ لفحوى الإشارة. لغاة ينتهبون ما يفعله القائلون على حين تسامٍ يفاجئ أول ما يكون أولئك الضالعين في تحريف صدقهم بما يلائم احترابهم على قِصَر الصراط الذي يعبرون. لغات يعتمرها اللاغون في ولوغهم لَبَنَ السرِّ على عتبات الرغبة الباردة. ما بين النداء والنداء، وادٍ من التكهنات والتهكم العبثي. يسمون هذا شعراً، وما الشعر إلا احتراق آلة القول إذ تسير بأقصى ما تمتلك. الشعر، رقصة الذي يؤله نفسه أمام مرآة لا تثقب عيناً بالحقيقة، إنتاج مغاير لما ألفته النساء اللائي يسكنَّ سبطانة اللسان النارية.
الشعر ابن حرام لا يؤبه من أبوه، طالما أمه تعتنق الجميع.

....
إن خرج الشعر من كونه اسماً سُمي به ضربٌ من ضروب الحلم؛ فلن يخرج من كونه أول مدعاةٍ أطلت برأسها من شقوق التفرقة، بين من يحسنون السبيل ومن لا يحسنون. إنه الخيال، ذلك الذي أخرج بني آدم من غفوتهم، ليعمروا مكاناً من أمكنة الضرورة. إنه الخبال بالخيال، ذلك الذي يقتلنا بالترجمة، يستعبدنا بالفضول، ننفثئ منه إلى كائنات في جفافٍ تأخذنا أخفافنا إلى حيث نغيب.

لا شعرَ في الأمر؛ فقط أحجيات معطلة ولون مشيد؛ درجات من تأنسنٍ في اتجاهٍ لا نطيق الوصول إليه بغير غناء.

ذلك الذي ترك ما أراد ببسطام؛ لو لم يخرج عنها، لما عرف بسطام. كذلك من ترك ما أراد في الذي أراد، ما كان أجدر به أن يخرج عما أراد ليعرف ما أراد.

الشعر شيفرة الذي يتحقق في توازيه فلا يراه كل راءٍ إلا من أظلمت عليه الجهات. كلها جهات لا يستقيم منها سوى الذي لم نصفه؛ وهنا، يبدأ التلويح بعصا الشعر من الذين يرون أبعد، والذين لا يرون البتة. كلاهما يستحمّ بذات النبيذ، يستحكُّ الذين لا يؤمنون بالكلام على إطلاقه، ليبدأوا التصويت في عتمة كل ذاك الصخب: الشعر، الشعر، الشعر. يتعاورونه مثلما يُكَنُّونَ عن لفظة لا تصحّ. كلهم يرى أنه يراه، كلهم لا يحب أن يُسأل: ما الشعر؟ كلهم يريد أن يجيب عن الشعر بالشعر. أقول: أرونا عظمته بأن تجيبوا عليه بغيره؛ فإن كان موجوداً حقاً، فما ضرّ أن يقال بغيره؟

....
ربما الشعر طريقة لتسمع، طريقة لتبرأ من قولٍ يقال كما يفعل دهماء العجلة. أو ربما هو محض احتمالات لا تجيب على ما تتوق أن تراه العين. أمن قائلٍ بأن براعة الشاعر لا تعدو أن يكون طبالاً للغة؟
أمن قائل بالصوت؟
في مبتدأ الأمر، حين وُجِدَ الشعر ليُنَغَّم على مسامع الآلهة، ثم القبائل؛ لم يتساءل أيٌّ كان عنه. فقط، أخرجوا الشاعر عنهم إلى ذلك الوادي، ثم جعلوه من فعل أقرانٍ آخرين.
الشعر في أسطورته ليس فعل الإنسان، ليس ابن الإنسان، لذا حق له أن يعبِّر عن شهواته، أن يكون كاذباً، أن يَمْنَحَ قائله قوةً لا يستطيع منحها الغرور.
الشعر إذن، محض شغبٍ وخروج. محض هجينٍ يُخشى عليه من النفاد، من أن تبهت أخيلته، أن يقتلها الإنسان بسعيه إلى كمالٍ مُعَذِّبٍ يطيح بكل ما يمكن التفكير فيه.

....
لا توقن بالشعر، لا توقن بالوزن والإيقاع، ولا بالصور الجميلة؛ لا تثق بالشعر، لا يغوينَّك العبث اللغوي البرّاق؛ إن هي إلا استفاقة واحدة، فيذهب في الريح كل ما حمله الاسم من أحلامٍ بمذاق الانفعال. اترك الشعر هكذا، معلقاً ليلبسه من يشاء، فإن لبسه فقل له: أحسنت. ولا تطع خيالك فتمسي سجيناً على أهبة التصديق بالحرية.

هكذا معضلة الأسماء التي لا تفضي سوى إلى الجرداء من بلاد الصراخ. افطن مرةً لجمال هذا السحر المغوي، تملَّ منه، ثم انظر مرآتك، ماذا ترى؟ فقط الضباب والدخان والفوضى ولا جدوى الاعتقاد.

إنه الشعر، يعطي حين يَقتُل، يُفرح كل من يبغي السكون على ملاءاتٍ برائحة الخلود؛ لكنه فارغ من جمال الحقيقة.

....
ضده، تصطفُّ أجناس ما كان لها أن تُعرف لو لم يأت السخفاء بتأسيس لجنسٍ يهدمها. إذ الشعر واللا شعر حالٌ فصمها ذَوُو الوطر إلى كينونتين، جاءت المقالات بما لا يجوز على العارف إلا إن مُنح شيئاً منهما. هما في أصل الأمر صوتٌ، لكن استنكف بعضهم على كل صوت أن يُنْظَمَ. هم من منحوا الرفعة لأحدهما، من أشعلوا هذا الهراء الذي سوَّد الصفحات بالخيالات التي تسرق القليل الذي مُنِحْنَاه، في التنقيب عما لا يجوز وما يجوز. يُفَحِّلون، ويُطَبِّقون، ويجعلون له الوظيفة والمعاني والبديع والصنعة؛ وغير ذلك مما ناء بالثقل على اسمٍ فارغٍ لا يثير سوى الغبار. إن يكن الشعر ذاك، فما الشعر إلا ميت نبكيه. وإن يكن هذا، فهو ميت لا نرى موته الآن. دعوا الشعر يختار أي شيءٍ ليملأ به جوفه، عله يصبح شيئاً ما.

....
تسقط الترانيم. يسقط هزّ الرؤوس طرباً، ويسقط شقّ الأثواب.
إن جعلتَ للشعر وظيفة، إن جَعلْتَهُ محض محرِّكٍ لبِرَك الداخل التي استنقَعَت؛ فكأنك دعوت غريباً لغريب. إن تعرف ما الشعر، إن تتيقن منه، تلك أولى العثرات التي تُسقِط. النيروديون أين هم؟ إنها الأحرف الثملة، من تستغفلنا، من تستغلق على نفسها لتوهم أنها من عميقٍ أتت.

يسقط الإلقاء، تسقط الوقفة بين اليدين، يسقط المال، يسقط الشعراء، تسقط الحكمة، يسقط الشعر.
يسقط كل هذا: القواميس، اللغة، البلاغة، الإنشاد، الغواية، الشياطين، الوجود، البكاء، التجديد، الجدب، الكلمات، القوافي، التفاصيل، الناس، الكذب، الثقة، اليقين، الأمل، المفاجأة، الرغبة، البقاء.

يسقط الشعر. يسقط الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...