الاثنين، 28 نوفمبر 2011

بربّك.. إنهم في النظام

«وسائل الإعلام هي مؤسسات مندمجة مع بعض المؤسسات الرئيسية في البلاد. والأشخاص الذين يملكون ويديرون هذه المؤسسات ينتمون إلى نفس النخبة المحدودة من المالكين والمديرين الذين يسيطرون على الاقتصاد الخاص، الذين بالتالي يسيطرون على الدولة، لذلك فإنها رابطة أو فئة محدودة جداً من وسائل الإعلام المشتركة أو المتحدة والمديرين والمالكين. فهم يتشاركون نفس الفهم والإدراك، وهلم جرا (...) لذلك من الطبيعي أنهم يفهمون المسائل والمشاكل، القمع، السيطرة وصياغة مصالح الجماعات أو الفئات التي يمثلونها، وبشكل مطلق مصالح الملكية الخاصة للاقتصاد، وأين تتركز في الحقيقة. علاوة على ذلك فإن لوسائل الإعلام سوقاً قوامها المعلنون، وليس عامة الناس، فعلى الجمهور أن يشتري الصحف، بيد أن الصحف مصممة لتجعل الجمهور يشتريها، وبذلك يمكنها أن ترفع أجور ومعدلات أجورها، فالصحف تباع بشكل أساسي للمعلنين عن طريق الجمهور، وحيث إن المؤسسة تبيعها وإن سوقها يعتبر مجالًا للأعمال؛ فتلك ناحية أخرى يكون فيها النظام المشترك أو نظام العمل قادراً بشكل عام على ضبط وسيطرة رضاءات وسائل الإعلام. وبمعنى آخر إذا ما خرجت عن الخط بشكل لا يدعو للتخيل أو التصور؛ فإن المادة الدعائية ستسقط (...) وسلطة الدولة لها نفس التأثير، فوسائل الإعلام تريد إبقاء علاقتها الحميمة مع سلطة الدولة، فهي تريد أن تحصل على التسريبات منها، وهي تريد دعوتها إلى المؤتمرات الصحفية الرسمية، وهي تريد أن تحتك مع وزير الخارجية، وكل أنواع المهمات، ولفعل ذلك فإن عليها أن تمارس نفس اللعبة، وإن لعب اللعبة يعني قول الأكاذيب (...) بعيداً تماماً عن الواقع، ذلك أنهم يمضون ليفعلوا ذلك بأية طريقة خارجة عن مصلحتهم الخاصة وعن وضعهم الخاص في المجتمع، فهناك تلك الأنواع من الضغوطات التي تجبرهم على ذلك. إنه نظام ضيق جداً للسيطرة، بشكل مطلق».
نعوم تشومسكي (تواريخ الانشقاق)
1
أفترض دائماً أن ما يسمى (المهنية) في الوسائط إنما تعني الانحياز المستتر إلى السلطة، وليس كما يتم الترويج له بأنها تعني الحياد. وافتراضي غذته نظرتي إلى الوسائط بوصفها أدوات لـ(تغبيش) الوعي الجمعي – إن وجد – وصرف الانتباه عن ما يهم البشر الذين يقعون عرضة للاستغلال والسيطرة الموجهة إلى مصالح النخبة على حساب مصالح المجموع. وفي كتابة سابقة تناولت بعض أساليب هذا التغبيش البسيطة وضربت مثلاً بالتلاعب باللغة كأن تسمى الكوليرا (إسهالات مائية) والمجاعة (فجوة غذائية) والفقر (تعفف)... الخ الأمثلة التي تم تناولها وتناول الغرض من اختراع المصطلح ولصالح من يتم ذلك.
أحاول هنا التركيز بخفة شديدة على الإقصاء اللاواعي عن طريق اللغة الذي تمارسه الوسائط الإعلامية بغرض التغبيش الذي ذكرته.
2
برأيي أن الكاتب يختار قارئه عن طريق اللغة التي يستخدمها لقول ما يريد قوله، فإن كانت لغته (معتادة) لدى شريحة كبيرة من المتلقين إذن فهو اختار هذه الشريحة، وإن كانت (معقدة) – مع تحفظي على المصطلحين حاليا - فهو اختار شريحة ضيقة يمكنها التعاطي مع لغته تلك، ما يعني أنه – متعمداً أم غير متعمد – أقصى (السواد الأعظم) من المتلقين.
هناك تلاعب وتعقيد والتواء في اللغة المستخدمة الآن في الوسائط – في رأيي – بل حتى الرأي الذي يكتب حالياً في الصحف بدأت لغته تصبح طاردة وعدائية للقارئ غير المضطر. الناظر إلى الصياغة التي تسمى (المثلى) للأخبار يلاحظ مسحة من الرتابة المصحوبة بالمراوغة وذلك في الصحف التي تدعي أنها (مستقلة)، أما تلك التي تتبنى خطاً لا يحتاج إلى المراوغة فنجدها تتلاعب في طريقة صياغة الخبر لتوجيه القارئ نحو انفعال عاطفي يخدم مصلحة مالكيها. ذات الأمر يتكرر بهذا السياق في بقية الوسائط المسموعة والمرئية.
3
بالاستناد إلى حديث تشومسكي الوارد في البداية يمكن افتراض أن المصالح التي تربط مالكي وسائل الإعلام مع النظام بسلطاته ومعلنيه وبنوكه... الخ هي أكبر بكثير من المصالح التي تربطهم بالناس – وهو الأمر الذي ينطبق على القادة السياسيين المعارضين والمؤيدين، لكن هذا حديث آخر – ويؤدي هذا الارتباط المصلحي إلى الاشتراك بينهم والنظام في استغلال هذا الذي يتم التحدث إليه وباسمه ويسمى (المواطن) مما يلغي توفر حسن النية في كثير من الأحيان حين تتحدث الوسائط أو رموز النظام عن الاهتمام بالمواطن.
إن أنماط التلاعب الظاهرة والمستترة من الرسوخ بمكان حتى إنها خلقت بنية تبريرية تغطيها وتجعلها تعمل على استنباط نمط لكل موقف وتنتج خطابات مسيطرة سرعان ما تندغم داخل نسيج البروباغاندا التي ظلت تغيّب الكثير من التفاصيل لصالح إبراز ما يقود إلى السيطرة الذهنية المرجوة.
4
من أين تأتي الأخبار التي تغذي الصحف والوسائط الأخرى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما الذي سيحدث إن لم تكن هناك أخبار وكانت الوسائط مختصة فقط بالتعبير عما في أذهان الناس وتفتح لهم الباب واسعا لقول ما يريدون؟
إن الطريقة التي تصنع بها الأخبار ومصادرها يشوبها الكثير من الفساد، مع ملاحظة أن أكثر الأخبار التي توضع تحت هذا التصنيف (أخبار) ليست أخباراً، إذ تعتري بنيتها الكثير من التلاعبات التي تجعلها توَجّه لتكون تبريراً أو دعاية.
حين تسند خبراً إلى وكالة، ولا تسنده هذه الوكالة إلى مصدر واضح، يصبح الخبر عائماً في فراغ الاحتمالات. بل حتى إن أسند إلى مصدر معلوم تظل نسبة صدقيته لا تتعدى 50% حتى التأكد مادياً منه، فما بالك بخبر يصعب اختباره والتأكد منه؟
إن الشعب يشبه (البطاريات) التي تغذي بالطاقة نخبة صغيرة تمسك بكل شيء، ومن مصلحة النخبة أن تظل البطاريات تنتج الطاقة. فيتم إقناع الناس بأن يظلوا كما هم، وأن المجهول مخيف حقاً، ويتم إقناعهم بأن غاية الحياة أن تخرج إلى العمل منذ الفجر وتعود آخر الليل تحمل (كيس الخضار واللحمة) وأن كل دعوة للتغير ستفقدهم هذا الكيس الثمين، طالما أن هناك كيسا تتعب من أجله لـ12 ساعة دون النظر إلى من يحصلون على كيسهم قبل الاستيقاظ من النوم ودون التفكير في أن مصاص دماء يستهلك حياتك؛ إذن لا مشكلة هناك.
أتذكر المخترق الأكبر للعبة السلطة؛ جورج أورويل، في مزرعة حيواناته، حين أقنعت الخنازير بقية الحيوانات بأنها تعمل عملاً أشق من العمل في الحقل، وهو عمل يسمى (التفكير)! وأذكر كذلك التحوير الأشهر لمبادئ الثورة عندما قام وزير إعلام الخنازير – في الرواية ذاتها – بتحويل العبارة (كل الحيوانات متساوية) إلى (كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر تساوياً من البعض الآخر).
إنني أسأل بكل سذاجتي المواطنية: أيهما يستحق الامتيازات؛ من يجلس في مقعد وكل عمله الكلام عن ما ينبغي فعله والتصويت، أم من دفع دمه ووقته وصحته وإنسانيته ثمناً لتلك الامتيازات؟ أم أن (التفكير) أصعب بكثير من العمل منذ الفجر إلى أواخر الليل؟
5
بربك، إنهم يدفعون الضرائب، ويضعون أموالهم في البنوك، ويحصلون على الامتيازات والمناصب. بربك كيف تكون مصالحهم هي ذات مصالحي؟

انتقاء

يشكل  اللون الأسود لدى من يريحون ذواتهم على فرضية أنهم من أعراق عليا، بيضاء بالضرورة؛ شائبة تقلق اتزانهم النفسي – اللاواعي – حين الاختبارات الأولية البسيطة التي تجعل ذلك الانتماء لا يصمد كثيراً إلا بتدعيمه بالكثير من التلفيقات والتبريرات التي تتشابك في آخر الأمر لتصنع ما يشبه أيديولوجيا تتخللها العقد النفسية وردود الأفعال النافية/المثبتة في سبيل دعم فرضياتها الهشة.
كانت ملاحظة ذكية – برأيي - تلك التي أوردها د.الباقر العفيف في كتابه (وجوه خلف الحرب) حين أشار إلى عملية الاستدراك الممارسة عن طريق الزواج للتخلص من اللون الأسود وذلك بانتقاء أنثى بيضاء لرفع نسبة البياض في النسل. لكن ما يثير التساؤل هو:  ما الذي تؤدي إليه عملية الانتقاء تلك؟
طيِّب، حين ينتقي ذكور سود إناثاً بيضاوات، فإن نسبة كبيرة من الإناث السوداوات يكن خرجن من (سوق) الزواج. وإذا كان الأطفال الذين ينتجون عن تلك الزيجات أقل سواداً من آبائهم، ثم انتقوا هم كذلك من جديد إناثاً بيضاوات، وخرجت من جديد الإناث ذوات الوصمة (اللون الداكن) من المنافسة؛ فسينتج أطفال أقل بياضاً من أمهاتهم وأقل سواداً من آبائهم.... إلخ. ما تجدر ملاحظته أن عدد السود إناثاً وذكوراً يسير إلى نقصان لصالح عملية التبييض المستمرة. ويأتي لا وعي العملية في أنها تتلثم بمفاهيم أنتجت لتبريرها، فمثلاً قواعد الجمال تغيرت كثيراً وتتغير لتصبح الأنثى الجميلة المشتهاة بيضاء كصفة مركزية تسعى إليها بالكيمياء ذوات الحظ العاثر الذي جعل لونهن أسود مما يخرجهن من المنافسة في سوق الزواج.
تسير هذه العملية (التبييض) بوتيرة تزداد قوة مدعومة بإفرازات الأيديولوجيا المتسترة خلف الكثير من الدعاوى، يغذيها تاريخ طويل من العقد النفسية والقفزات التاريخية المفاجئة والتناقض الحاد والتفاوت بين مكونات عجلة التطور.
إن ما يحدث أمام الجميع يومياً هو إقصاء منظم للون الأسود، في سبيل أن نصبح بيضاً (كما نعتقد) و(كما نبدو)، وهي لعمري طريقة شاقة لخياطة الصدع الذي ينتاب من يفكر في ذاته وكأنه ليس أسود، ليس زنجياً، ليس عبداً، ولكنه في ذات الوقت يحمل صفات السود، والزنوج، ويراه الآخرون عبداً.
أكتب ملاحظاتي هذه وفي ذهني ذلك السعار نحو الأبيض بدعاوى مختلفة على قمتها أنه جميل! فمعظم الإناث داكنات اللون يدركن أن حظوظهن أقل - وتقل بمرور الوقت – في الحصول على شريك ذكر؛ من الأخريات ذوات الألوان التي تميل إلى الأبيض. ورغم كل المعالجات التي يلجأن إليها للتبييض إلا أنهن يدركن أن احتمال نجاحهن ضئيل، سواء أكان نجاحهن في الحصول على عمل مرموق اجتماعياً، أم في الحصول على شريك مناسب.
إن محاولة التخلص من السواد تغذي الكثير من التصرفات والأفعال التي أراها مضحكة أحياناً. فمثلما لاحظ د.الباقر العفيف من قبل أن التبرعات كانت تجمع لفلسطين في عز الأزمة الإنسانية في دارفور؛ نلاحظ أيضاً أن درجة الانفعال بقضايا (البيض) الذين نفترض انتماءنا إليهم أكبر من انفعالنا بقضايا من يشاركوننا ذات الجغرافيا، وذات اللون، وذات السحنة، وذات المصير المشترك (الحقيقي). إنه لأمر يثير العجب!

الأحد، 2 أكتوبر 2011

رشا.. يا كحيل

1
بنتفٍ من نوايا وحشية تتلوى لتخرج من سجن الدم شياطين تطردها نقاهة مُستنهَضَة، بغثيان كما الوحم، بحالِ الأبكم المرتبك، باعتراءات يتعرَّق منها جمود العاطفة، بويلٍ يطارد الصدأ، بكوّة عنوة تُدْرِج على مجرات من تساؤلٍ أشد قدماً من الذكرى، برغبةٍ مورقة للعودة بذات مسار الزمن، بكل ما يحتبس عند المنفذ الوحيد الذي يقذف بسموم التعقل والرزانة وادعاء الحذر؛ تدنو رشا من ليونة البشر المدفونة تحت الصَّدَفَة الأم.
الصوت رشيق، بحة خفيفة لها وشوشة تطرزها ثقة، مفاجآت مفاجئة حين تدهم المفردات التي لو قرئت من غير أن تمر عبر شفتيها؛ إذن لكانت أشد ركاكة من التوحد.
أحب هذا. المباشرة ودودٌ تجرك من أذنك - تماماً بلا مجاز - إلى دوامة آمنة تنجيك من زلل أن تمر على ينبوعٍ دون أن تشرب، أو أن تنمو فيك أعشاب الزمن دونما حشرجة آلة الثبات إذ تعوِّمها إلى الوراء.
فولاذٌ يكشط فولاذَ ما تطبَّق بأرفف التفاجؤ، غيبوبة تغيب عن معنى الغيب، نار إيحاء كامنة بين سدف صوت تهبّ عليها الموسيقى، كلها مرادفات رشا إذ تغني، تتكلم، تفعل، تهدم ما بني على باطل في حقل الشعور، وأنا بعقل ضامر أرعى حشيش التفتُّح، سماد اللذة يبكيني، وتشنجات ما احتبس تدمي؛ فيتنفس دمي لهذا الفصاد.
2
باللون في الصوت، تعبر ما أشتهي إلى ملاءمات لم تعرها الأرض غير الرائحة، ببساط ما يندغم ضمن نسيج يُدارَى خوف انطفاء؛ تسوق رشا إلى المدرك من فتنة الغناء، إلى البسيط الذي في بساطته تظلع كائنات من الحلوى ولون العصريات وهبَّات طلع الطلح ورنة الحذاء على بلاط المنزل وذاكرات الحنان القديم حين لم يكن غير صفار النهار مملكة الركض حين حفاء المعنى معادلاً لخفاء ما ينغلق على الذات فيطعمها المسافة حتى الخلود.
تذكرني بأغنيتي، بالذاهبين إلى الطيور مزاحَمةً، بالقرب من دفء سيصير ذكرى. تذكرني بي.
3
حين أغنية مواربة جهة دهشة متحفزة بانتظار سردٍ ضارب في السر. حين قهوة افتراضية مع افتراض التبحّر في العلو حتى إن الرؤية تظلم؛  تصادفني رشا فيندلق مساء كامل الصفات على غدد التذوق؛ ترتد إلى نوعها الأوَّلي، وتصير الطرقات موغلة في التاريخ.
في الصوت شيفرة الجين الأب؛ ما كان لمخترعي التريُّح في الجهات. في الصوت صوت يختفي حين يعبر إلى طيات ما خلف أذن السماء. في الصوت ما لو سُمع في فلاة اليقين؛ إذن لتعقدت أمور وأمور.
4
رشا، تلك التي أعني، حين تغني؛ تغني فقط.
حين تغني؛ لا يحدث غير انقلاب.
حين تغني؛ أحب الغناء.

الأحد، 18 سبتمبر 2011

أشياء "غميسة"


1
يحيلني صديقي حسام الكتيابي إلى لغة أخرى "غميسة" يحاولها بكامل قلقه الذي أراه تجاه ما يسود باحثاً عن أراضٍ ذات طعوم غريبة، حين يقول: "والشاعر كالرسام/ يطير بريشة واحدة/ يدفن الدلالة حيةً في الكلام"، أو: "لسوء حظ الأرض/ لا شمس تجري من الجنوب للشمال".
إن تفكيراً في مثل هذا الخروج، يحفز غدداً أماتتها العادية وتكرار النماذج والقوالب التي ما إن تبدأ التحول حتى تتقولب من جديد.
"غميسٌ" هو الحفر أعمق، ما يجعل البشري يحاول إبدال الصور المعتادة بصور صادمة، لغة تعلِّب عدائيتها للقارئ بين حروفها. يقول حسام: "أنت تسيئين استعمالي"؛ عبارة تكسر القالب فقط بما يحيل إليه الضمير (أنتِ). ولكن "أغمس" ما أثارني لديه كان قوله: "أعدني إلى رئتيك/ أو فافلتيني أيتها النساء السابعة/ إلى النساء الدنيا".
2
مثل حسام، تولد في كل لحظة آلاف التركيبات والقوالب المختلفة، ينطق بها الآلاف في مئات اللغات، لكن سرعان ما تتبخر تحت وطأة شمس المعتاد، وغير الخارج على نظام اللغة.
أحب ابتكار المفردات، لذا – أذكر – عندما مرت عليّ مفردة "أَنْهَرَ" من النهر التي تقابل "أَبْحَرَ" من البحر؛ كادت تجتازني معرفة بكيف تفتل ألياف اللغة حبلاً كيف الذي أردت، لكن "قيد المنطق" سرعان ما اتكأ على إشراقة ظللت أحاولها منذها وإلى الآن.
أن تصنع مفردة جديدة، ويفهمها من يسمعها من أول مرة؛ ذلك نصر لا يفوقه إلا اكتشاف سر اللغة ذاتها. واللغة "غميسة" طالما لم تتحرر من افتراضات الصواب والخطأ وأن تعرض كل ما تسمع أو تقرأ على آلة الفحص التي تنظر في مطابقة ما عرض عليها للصواب الافتراضي أو الخطأ الذي هو كذلك.
3
ثمة لغة أخرى خلف كل لغة، أعرف ذلك، وأعرف أن ثمة سراً للغة يجعل من يعرفه يسبح خلف المعنى وخلف الدلالة وخلف الرمز حتى إنه ليقول ما يقول من دون أن يحتاج الأمر إلى معنى بعينه ثابت بل حسب موقع الكلام من الحدث أو شيء من هذا القبيل.
أحياناً يكون "الغميس" في اللغة كونها غير كافية لتقوم بمهام الناقل، إذ تُدخل المحاول أحياناً إلى كهف قد يفتح عليه ذكريات منسية من غروبات نهرية في سن الرابعة مثلاً، أي أن اللغة غير الكافية للنقل قد تنشط الذاكرة بحثاً عن ابتكار يشبه ابتكارات الطفولة وفتوحاتها اللغوية بإرسالك إلى القديم بروائحه وألوانه ودهشته التي تصيب بالارتعاش. لكن برغم ذلك ثمة ما يجعل اللغة  ضمن المسهمين في تَليُّف اللسان حين تعجز عن اقتناص نحت أو ابتكار مفردة  تغنيك عن هذا العرض الجانبي للغة: الإيصال.
4
أحياناً حين تفجؤني مودة غامضة إلى ما كنته في حيوات أخرى، أشعر بأنني أحاول انتشال روح "غميسة" تكمن بين طيات جلدي وروحي المستحدثة. يكاد قلبي يثب وأنا أفكر في أن هذا ربما كان ممكناً.
شكراً صديقي حسام الكتيابي وأنت تذكرني بذواتي الأخرى:
" ضعي العناق في النار
ضعينا على بعضنا
ساندويتش حنين".



السبت، 27 أغسطس 2011

فتح الحقول.. أو التأسيس لموسوعية مشتهاة



1
إذن، ما الحدود بين حقل وحقل؟
من قديمٍ لم تقنعني رؤية "التخصص" التي تفصل بين الرياضيات واللغة العربية، لم تبدُ لي صائبة، إذ أن مفهومي المبكر عن التطبيق يجعل الرياضيات تندغم ضمن اليومي، ضمن كل آخر غيرها، وإلا فلا فائدة منها – بنظري – غير أن تكون مجرد (تمرين) عقلي يسرِّع معالجة عقلك للبيانات (بلغة أهل الكومبيوتر). فأنْ أجد أنّ عدد حروف كلمة ما يساوي ضعف حروف ما أستخدمه لشرحها أو الوصول إلى (معنى) ما يستغرقها؛ يجعل ذهني ينطلق إلى أماكن أخرى في خريطته بحثاً عن علاقة ما هنا أو هناك.
ظللت أعتنق إيماناً بأن لكل شيء علاقة ببقية الأشياء، ومن يتمكن من رؤية هذه العلاقة يصل إلى لا نهائية الأفق المبتغاة – مني شخصياً – للرؤية الكاملة على استحالتها. هذا الإيمان يجعل الفواصل غير ذات منطق – لي – وذائبة إلى حد ما ضمن تداخلات قد تبدو خفيفة ولكن لها أثرها على الكلِّي الذي له أثره عليّ ومن ثم له أثر على ما لي أثر عليه.. أو هكذا إلى نهاية تشابك الجدل.
أقول إن تناسق السياقات التي بُنيت عليها فكرة الحقول وانفصالها التام عن بعضها إلا في نقاط تماس محددة اكتمل التعارف عليها بوصفها ما يربط بين السياسي والثقافي، السرد والشعر، القصة والرواية؛ ومن ثم انفجار كل هذا التعقيد ليخلق آلاف الشظايا التي تشغل أحيازها وتشغل أذهاناً تتزاحم في أحيازها ذاتها عمليات التفكير في انفصالية؛ هي مرهقة لي.

2
الوجود بين مفهومين؛ التشظي والاندماج؛ يكاد يلحق بالثنائيات التي – في ما أرى – شكلت الدرجة الأولية للبشري إذ يتعلم التفكير تدفعه حاجة خلق بناء تبريري يماسك ما تبعثره الحادثات المفاجئة التي لا تحمل ما يشفع لها أمام المنطق البسيط الحاكم للسببية التي أراحت – ولا تزال – عقل البشري في بنية حلقية تدور إلى ذات النقطة، لكن بمحمولات أكثر ثقلاً.
أرى التشظي في إيجاد الحقول، في حصر الفعل (الكتابة عندي فعل) داخل حيز إن حدث تجاوزه عُدّ ذلك ضعفاً أو خروجاً، وكأن باب التجريب أغلق – في رواية – أو أن الخروج مسموح به داخل حدود!
أن يكون صاحب أفقٍ موسوعياً؛ أعني به أن يعرف كيف أن التسميات والتحديدات والتحقيلات وما يشبهها من البنى؛ فُرضت – ربما – أو وجدت حين أن أحداً يفعل كما يهوى أو كما يجيد، جعل فعله قياسياً يقارن به أفعال غيره. إن تخنيث الفعل حين أنه متعدد المذاقات ربما يقود إلى كسر حاجز يتوهمه مَنْ خلفه حماية من مجهول.. في حين سيقول ظني إن تخنيث الفعل محاولة نحو جعل كل شيء هو بالضبط "كل شيء" ليس أكثر. أعني أن الفعل الكلي ربما يمنح قوة على إدراك أفق يخيف، في السعي الغريزي نحو الكمال – كما يراه كل فرد – بما يجعل الإنسان "عارفاً بالخير والشر" كواحد منهم!
3
إنه الفعل، إنها الفعل، لا فرق عندي بين حقل وحقل، أريد كل شيء، أن أعرف كل شيء، أرى كل شيء، أن تخطر ببالي جميع الكلمات، أن أسمع كل صوت، أن أفكر وكأن لي أدوات تفكير لا نهائية.. لذا أرى سجني في الحقل، في النمط؛ محض إهدار لي.. لذا أحاول و(أفرفر).
4
إذن، ما الحدود بين حقل وحقل؟ من وضعها؟ لماذا؟ وما الذي سيحدث إن زالت هذه الحدود؟ إن صارت المعرفة معرفة، الكتابة كتابة، الفعل فعلاً، البشر بشراً، الأشياء أشياء، الـ كل شيء كل شيء لا شيء بعينه؟
أحاول أن أن أكون كُلِّي، وفشلي يعلمني أن الفشل ذو علاقة بالرياضيات واللغة والمعتقد وبطول أصابعي و... إلخ كل شيء.

لغات موازية (3)

الإزاحات الصغيرة التي ينتجها البشر المزاحون تجاه بشر آخرين؛ قد لا تبدو واضحة المعالم إذ أنها مختبئة في ثنايا اليومي والحركة في حيز الوجود الذاتي لكل فرد.
إنني عندما أنفق جهدي هاتفاً بالحرية؛ أطأ هذه الحرية ولا أنتبه، إذ أن غموضها - الحرية - حين المحكات يجعل منها شكلاً فقط، أو معنى مجرداً يتوق الفرد إلى الوصول إليه لكنه يحمل متعته في اللا وصول.
الحرب على الركيك تخفي خلفها انحيازاً إلى ما يُعتقد أنه الصواب. إن اللغة النموذجية تزيح اللغة التي تتبنى تراكيب مختلفة إلى خارج حقل التأثير المباشر على المسيطر عليهم. تجد أن ذائقةً ما تم تشكيلها سلفاً تجعل أحدهم تنتابه العاطفة تجاه ما يراه إفساداً لمعايير اللغة (السليمة) - النموذجية التي جُعل دون أن ينتبه ينحاز إليها/إلى حامليها مقابل (التشوه) المفترض لمحاولة الخروج على القالب، والتعبير - من ثم - عن مناطق جديدة وبراحات كانت ممنوعة ومبعدة في الوجود البشري الآني.
إن ما يشبه التابو يجعل الموجود في بنية اللغة النموذج بعيداً عن تقبل رؤى أخرى مغايرة تعبر عنها لغة أخرى بالتوازي مع النموذج المسيطر، هذا التابو يجعل فرداً يشعل عاطفته تجاه لغة أخرى مزيحاً إياها إلى حيث لا (تفسد) ولا تتسبب في (خراب) الذائقة، إذ أنها ركيكة، وكأن هذه الركاكة هي تعمد إفساد!
حين قلت "نطأ الحرية" كنت أعني هذا، أن لا مجال ليُترك آخر لخياره تجاه أية لغة يفضل أو يرى أنها تعبر عنه، بل لا بد من إجباره على الأوبة إلى اللغة النموذج التي هي الأفضل. وهو استبطان يلغي الآخر - برأيي - حين تتحرك في حيز بفكرة مسبقة أن ما تعتنقه وما تراه الأفضل هو بالفعل كذلك ويستحق الحرب من أجله لنشره بدلاً عن ما هو أقل منه! هي فكرة تطعن في صراخ الصارخ بالحرية طالما أنه لا يستطيع تقبل أن يعتنق آخر مفهوماً مغايراً، لغة أخرى، رؤية بحدود مختلفة أو بلا حدود.
أن تجعل مهمتك  (الإصلاح) لهو تمظهر مضاد للحرية، إذ يخفي تحته أن ما عدا الذي لديك هو أدنى، أقل،... إلخ الأحكام المطلقة التي تحمل نزعة أن (على كل شيء أن يشبهني ليصير صحيحاً!).
لا أظن أن هناك شيئاً ركيكاً.. وإلا فلتأت إجابة على: ركيك قياساً إلى ماذا؟ إذ لا يوجد - في ظني - إطلاقٌ في ما يختص بأحكام القيمة. الإجابة التي أظنها هي: ركيك قياساً إلى اللغة النموذج!
هذه اللغة النموذج - أرغب في تسميتها باللغة الطوطمية - تلك اللغة التي صارت قياساً فقط لأن (الأسلاف) تكلموها! ربما هي تخفي تحتها رغبة حراسها في الإمساك بزمام الأمور، أو أن حراسها هؤلاء بإمساكهم بها يمسكون بزمام الأمور. على كل حال حين يزيح شخص شخصاً لأنه (ركيك) أو أن يشن هجوماً إزاحياً على نمط من الغناء والأشعار الـ(ركيكة)؛ أنتظر أن يرى هذا الشخص ما يفعله، فقط لأنه لم يمتلك القدرة على تقبل تعدد اللغات، ومن ثم تعدد المصالح والرؤى و... إلخ.
اللغات الموازية تُنتج كل ثانية، كل أرجحة ضمن الحركة الكلية التي أظنها تنزع إلى الوصول إلى سكون، فقط حراس النموذج هم من يريدون أن يكون السكون إلى ما يوافق ما يريدون.
كثير من الكلمات، الرسوم، الصور، المشاهد؛ هي خروج على المألوف. المألوف هو اسم التدليل للنسق المسيطر. النسق المسيطر هو المزيح الأكبر لما يفسده أو يهدد باحتلال حيزه.
أن يصفك آخرون بالركاكة؛ يعني أنك في خطر إن وعيت بما يعنيه الوصف، يعني أنك بدأت الانسلاخ خارج المنظومة لذا تُحارب، تُزاح، تُزال إن دعا الأمر، فلا مكان إلا للتشابه.
في ظني ألا خطأ ولا صواب. كل شيء خطأ وكل شيء صواب معاً، فقط تختلف إحداثيات النظر. لذا فلي الخيار أن أرى كل شيء جميلاً أو أن أراه قبيحاً وفق مكاني المفترض.
العقل يلعب بالعقل. الإزاحة تستهدف العقل الذي يريد أن يرى ما خلفه.

الاثنين، 8 أغسطس 2011

لغات موازية (2)




علّق عبد الهادي الصديق على اختيار خليل فرح لغة أخرى للتعبير عن قضايا تهمه بعيدة عن اللغة النموذج التي كتب بها آخرون مثل البنا إبان الدعوة إلى تعليم المرأة (وعليك بالمتعلمات فإنما ترجو ملائكة الجمال وتخطب/ الفاتنات العابدات السائحات المستنفد كمالهن المعجب/ يجررن أذيال العفاف تحنفاً فالريب يبعد والفضيلة تقرب)؛ فكتب الخليل (يلا يلا نمشي المدرسة سادة غير أساور غير رسا/ قالوا جاهلة مدسدسة أحلى من عليمة مقدسة/ اسأليهم أهل الهندسة الدنيا دايرة ولا مثلثة؟)، في حين أن الخليل ذاته من بإمكانه اللعب وفق قواعد اللغة النموذج فهو من كتب (وقفاً عليك وإن نأيت فؤادي سيان قربك في الهوى وبعادي/ يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي).
وفي ظني أن هذا يمثل نوعاً مما أسميه (حركة اللغة)، التي هي أشبه بموقف للغة تجاه موضوعات على ارتباط ببنيتها، بمعنى أن اللغة النموذج (البنا) - مثلما ضربنا المثل في مقال سابق - تقصي من لا تريد مخاطبتهم بتخير ألفاظ فئوية إن صح التعبير، وهو التخير الذي يصير بعد مضي وقت مدمجاً في بنية اللغة (الفئوية) فلا يصبح هناك خيار آخر مثلما فعل خليل فرح حين اختار عدم إزاحة المخاطبين ? بفتح الطاء- طالما أن الخطاب المحمول على لغته موجه إليهم. لكن إن أراد البنا العبور إلى لغة أخرى غير ما استخدمها لصعب عليه الأمر، إذ أن اندماج اللغة النموذج بالتخير آنف الذكر؛ لا يتيح فساحة لذاك العبور.
إن حركة اللغة ممكنة لمن يضعون اللغة ضمن الحركة الكلية للصراع، دون أن تكون متعالية أو مقدسة أو جامدة وأداتية. لذا أظن أن أكثر من يمتلكون القدرة على التحرك في نطاق اللغات الموازية هم من غير الناطقين باللغة النموذج كلغة أم، أي أنهم نشأوا خارج بنيتها وإن كانوا على علاقة بها، وهذا في ظني ما يمنحهم القدرة على وضع اللغة بلا تضخيم ضمن الحركة الكلية للصراع طالما وعوا به.
 ما أقصده باللغات الموازية شيء أقرب إلى تفلتات أو تمرد على اللغة النموذج، وهو أمر قديم في تاريخ اللغة العربية التي أتحدثها، نجده في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين ضمن نوادر النحاة والمتحذلقين، وكذلك في مستطرف الإبشيهي حين يورد طرائف النواتية بلغتهم المستغلقة تماماً على قارئ معاصر كحالي.
هذه التمردات على اللغة النموذج تنتجها أسباب كثيرة وعلى تشابك، إذ أن هناك نزوعاً لدى اللغة النموذج إلى إلغاء اللغات الأخرى الموازية لها داخل نسيج الاجتماع البشري المشترك، بافتراض صحتها ? اللغة النموذج ? وخطأ الباقيات، وبافتراض قداستها. هذا الإلغاء المتمثل في الحرب الضروس التي تخوضها هذه اللغة النموذج ضد اللغات الأخرى أو المختلفات الضئيلة الناتجة من كون اللسان الذي يحاول التحدث باللغة النموذج غير ناطق بها، لكنها تسيطر على التعليم والوسائط ...إلخ، ثم إن الحرب تتمظهر في أن أصحاب اللغة النموذج يحاربون أصحاب اللغات الأخرى الموازية فيزيحونهم مكانياً أو مفهومياً إلى هامش الوجود، مما يستدعي خنوعاً أو رد فعل، ورد الفعل هذا يمكن تلخيصه بقصة أبو علقمة النحوي مع أعين الطبيب الواردة بكتاب أخبار الحمقى والمغفلين، إذ عندما لم يفهم الطبيب كلام النحوي رد عليه بكلام غير مفهوم تماماً ولما اشتكى النحوي بأنه لم يفهم قال الطبيب (أفهمتك كما أفهمتني).
إن تعبيرات الكماسرة و(السطلنجية) ومفردات الراندوك كلها ينبغي النظر إليها ? برأيي ? على أنها لغات أخرى فقط، بعيداً عن النظر إليها بوصفها خطأ أو (تشويهاً) للغة النموذج. لو تم هذا فيصبح بالإمكان محاولة فهم الإزاحات المركزية العاملة على صنع مجتمع بمواصفات تخدم المركزيين.
ما أقوله هنا على علاقة بالحرب المستمرة على التعبيرات غير النموذجية في الغناء، فما يسمى الغناء الهابط أو المبتذل يظل تعبيراً عن إزاحة مضادة لفئات أزيحت من قبل المركز لدواعٍ مختلفة وإن كانت تتفق كلها على حماية أمن المركز.
وبالعودة إلى تعليق عبد الهادي الصديق على تحرك الخليل بين لغتين أو أكثر في شعره؛ أظن أن الخليل ولكونه ناطقاً بغير اللغة النموذج إضافة إلى اعتناقه عقيدة قومية قوية تخصه؛ كل ذلك أسهم في أن يتملك اللغة من غير أن يندغم في بنيتها، الأمر الذي مكنه من التحرك بحرية ليتمكن من مخاطبة جميع الفئات التي يستهدفها، وهو ما جعل الخليل غير قابل للإزاحة بسهولة، من غير الإزاحات الفيزيائية بمستوياتها المتعددة، وهو الأمر الذي يمكن لقارئ سيرة الخليل ملاحظته.

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...