الاثنين، 28 مارس 2011

نشادر


محفوظ بشرى
      
(1)

ما بعد العام 2003م، جامعة الخرطوم. الصيف يدخل بوابات الجسد، يحتل في الذهن مناطق كانت من قبل تشغلها ذكريات المدارس الإبتدائية، وحمى السحايا الشعبية، وإحساس مداري عمَّق طعمه فينا ماركيز وأمادو. الصيف، وبقية من حرارة تتآكلنا، نحن ثوريو ما قبل تلاشي المعنى والقضايا، المتمردون، بدوغمائية أغرقنا بها مشاتل التفكير باتساع كل الجامعات.

قال عبد الرحيم: (ولد عجيب، بيكتب شعر مفاجئ، لازم تسمعو). كان في نفسي شيء من آثار فلسفة مادية تأبى أن تندهش. كان في نفسي ذلك الغرور الصفوي بأننا قد ملكنا مفاتيح الحقيقة المطلقة. كان الوقت أكثر شباباً من أن يعترينا الذهول.

على حافة رصيفٍ بها شيء من الحدة، جلسنا. الوقت بعد الظهر، بتلقائية آلة، وبترددٍ لم يولد لديه، أنزل حقيبة الظهر المثلثة وقرأ:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ/ وامْتَطَتْ ذاتَ الْمُغَنِّي/ فَتَّتَتْ حزنَ دِمَاه/ فأشاعَ الطُّهْرَ في الجَّوِّ ومات.

كانَ النَّشادرُ يغمُرُ الأقدامَ بالحِنَّاء/ بالحزنِ المقيم/ بالشهوةِ... الأوجاعِ/ نظراتِ الرِّجالِ الضَّاربينَ غُرُوبَهم في غَرْوِ بَادِيَةِ الشّروق.

صَلَّيْتُ بالرُّوح/ فى هَوَجِ التناسلِ والتلاقحِ/ دونَ عُذْر/ صَلَّيْتُ حتى اْرْتَابَتِ الأشياءُ/ واهْتَبَلَتْ مساماتُ السَّمَاء/ ونَشَقْتُ أشرعةَ النشادر. كان وَعْيُ الماءِ وَعْيِي/ كنتُ فى لاوَعْيِ وَعْيي/ أتَدَاعَى بالهطول/ للمجاعاتِ سمائي/ للمدامعِ ما أرى*.

للحظةٍ نظرتُ لأعلى، بدت الأشجار شاهقة، وكأن هنالك من حثا تراباً ساخناً بقلبي، الدوي، الدوي. إستعدته القصيدة من أولها، وبذات التلقائية، بدأ من جديد:

النَّشيد الأول:

الرُّوح... مساءُ النَّشَادِرْ... طِبَاعُ الأرض:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ........

(إسمك منو؟)

(أحمد محمد إبراهيم).

(بتقرأ وين؟)

(في الإسلامية.. طب).

كانت الأسئلة تتقطم دون أن تفصح عما أردت، كانت الأجوبة أكثر براءة من رنينها السريع. أمعنتُ ذاكرتي بالفتى النحيل حد أن تشتكي الثياب، الوجه المبتسم، صغير السن حتى بالنسبة لي. أمعنتُ يقيني في داخله الخارجي. موسومٌ كصاحب الوقت، حركة دائمة في سكون مقلق.

قلت لعبد الرحيم ليلتها: ( الود ده جبتو من وين؟).

بعدها اغتبنا روحه مشرحين ذراته بحسدٍ لذيذ. (يالعاديته التي تصدم بتعقيدها، يا لقربه العميق جداً). كان ذلك ما قلته في نفسي وأنا أتهيأ للرحيل خارج المدينة.

(2)

لن تعرف صدق الرجل إلا مما يكتب.  فإن قال، فلن تميز الصدق من الخيال. أحمل معي وريقات بها القصيدة كاملة، قرأتها قبل أن أقرأها، استوقفتني شهوات مشاغبة تتناثر في متن النص، كنا نرى أن التعبير المباشر عن غريزة الجسد الأولى، يفسد النشيد الشعري، كنا نلمِّح بأبعد ما نستطيع، حتى جاء هو ليقول بكل بساطة: تَرْقُصُ الْحِنَّاءُ فى عينيكِ/ يَرْقُصُ الصَّدْرُ الْمَضِيقُ الكَثُّ/ دهراً/ أشتهيكْ/ أتَعَالاكِ عَلَيّ/ ثم أنسلُّ كجرحٍ نَاعِلاً حزني/ وألْعَق**.  وذات قلق، هاتفت أحدهم ليخبرني دون تعمد أن الإسم صار (أحمد النشادر). لست على يقين بمن جاء بالإسم، ربما عبد الرحيم، ربما.  ورغم لقائي القصير به، لكنني رأيت كيف أنه في بداية أن يصير النشادر داخله، هو النشادر الذي يراه الآخرون، أو هكذا إعتقدت.

(3)

الأول من يوليو 2008م، صيفٌ شاخ سريعاً، الخرطوم، شارع البلدية. قال مأمون وهو متعجلٌ كالعادة: (إنت وأحمد حتقوموا تظبطوا المسائل، تعال ألاقيك برئيس التحرير). كنت متوجساً، فيما بعد صادفتني مقولة رامبو: (في نفسي ذعر من جميع المهن)، سبب آخر للتوجس كان هو أحمد النشادر. كنت أعرف مأمون، إلتقينا كثيراً في عصر الفوضى من حياتينا، أفهمه، أستطيع التعاطي معه. لكن النشادر.. كانت لقاءاتنا دائماً سطحية، سريعة، نتفادى فيها الإحتكاك. كنا حذرين من بعضنا دون مبرر غير أننا نخاف الصداقات الجديدة ربما. وانا أعبر صالة التحرير المكتظة، نظرت إليه بخواء يخفي تحته توتراً مخجلاً، نظر إليَّ نظرة خافتة.. وابتسم.

الأيام الاولى كانت صعبة، فجأة بعد غياب عامين عما يسمى بـ(المشهد الثقافي)، يجب علي أن أعمل داخل هذا المشهد الذي صرت لا أعرف عنه شيئاً. لم يتذمر، لم يظهر التأفف، على الرغم من أنه كان ينجز ثلاثة أرباع العمل. شيئاً فشيئاً، بدأت أراه. خرجت من أسر الصورة الأولى لفتى نحيف صغير السن وبرئ يقرأ علي (كتاب النشادر)، خرجت من صورته المعقدة التي لم أرها مباشرة ولكن عبر (الجينوم.. قنصل الأبد). هنا شخص آخر، شخص تمنيت أن أكونه أكثر من مرة.

(4)

لستُ النشادر، ولا ينبغي لأحد أن يكون. أن تقول في شخص ما تراه فيه، أمر عصي، تزداد صعوبته كلما زادت محاولاتك أن لا تكذب فيما يخصك، وأن لا تسقط في فخ المديح الرخيص. لست النشادر لأنني لست فناناً، لأنني لست واضحاً، لأن لدي ما أخفيه، لأنني لا أبتسم بصدق، لأنني أبالي بالتفاهات، لأنني لا أستمتع، لأنني لا أبتكر طرقاً جميلة لأتذوق خارج حدود المنطق والمألوف. لست النشادر لأنني أنا، سجينٌ، خائرٌ، مستهلكٌ، خاسرٌ، منغلقٌ، وأسأل حين لا ينبغي السؤال.

لا أحد النشادر، لأن لا أحد يملك القدرة لتحفيز من هم قريبين منه ليخلقوا أياماً أكثر قابلية لأن تعاش.

لا أحد هو النشادر، لأن لا أحد سيقول:

إنَّنِي النَّايُ/ زفيرُ الحُبِّ مِنْ فَمِ إمْرَأة./ حاشداً فِيَّ عصافيرَ سجينة/ حُرقةً/ أَنَّات طَلْقٍ/ كان أنْ حبلَتْ مسامي واْحترقْتُ/إنني النَّايُ/ مبعوثُ الرِّئَاتِ/ وملاءاتي الفَرَاغ/ عارفاً صمتي/ ومُؤْتَزِرَاً كتابي/ نافذاً صوتي / مُحَاطاً بالأثير/ أعتلي السُّمْرَةَ لوحاً / يرشفُ النَّاجِينَ مِنِّي من مُكَابَدَةِ الزَّفير***.

(5)

28 أكتوبر 2008، صحيفة الأحداث، صفحة 14: وسادة تنوّع مفترس. الخرطوم: أحمد النشادر. (وسادة هادئة من التنوع المفترس، ما يمكن أن يسيطر عليك وأنت تضع بصرك على مدخل معرض مركز توقيذر للفنون...الخ)****.

كان هذا آخر عمل صحفي له كمسؤول عن الملف الثقافي لصحيفة الأحداث، بعدها، إنتهى عصر النشادر. كنت موزعاً بين رغبتين، أن يظل، وأن يذهب ليصبح ما يريد أو ما يراد منه. فذهب هكذا، بسيطاً كمن لم يفعل شيئاً، كمن لم يخلخل الذائقة ويشكلها كما يريد. (دبرها أحمد النشادر)، تلك الحياة الذهبية، تلك الحوارات التي تنتظر. ما فعله النشادر في صحافة الثقافة، لن يُرى الآن. يوماً ما، سيكتشفون (هم) أنهم كانوا تلاميذاً لزمن طويل في مدرسة أحمد النشادر. تلك المدرسة التي ضد الملل. المدرسة التي تجعلك تنظر بأكثر من عين وتسمع بأكثر من أذن. مدرسة الغريزة التي تصيب وتصيب. فيما أذكر، أنه كان الأكثر تفهماً للحاجات البشرية (ومنها حاجاتي حين يطلب مني أن أسافر لمدة يومين مثلاً).  كان الأكثر قدرة على توليد الأفكار الجديدة، والأكثر مجازفة بين من عرفتهم.

(6)

هو موت جنون العظمة، إنتصار المجموع، تصالح التناقضات، كاريزما التساؤلات الحصيفة، فضيحة الإنسان في وجوده، شعرٌ مشاكسٌ يخدش عباءات (مريم الشجاعة) الزائفة، وسذاجة (شرف والأسد) المخيبة للآمال. عراقة تتكون في شرط فسادها بعلاقات التأجج الموحية. هو القميص، القميص.

(7)

............................................

.............................................

.............................................

(8)

كل فصول الصيف، وخريف أخير، كل ضحكات الصباح الهستيرية، كل حوارات الشارع ونحن نجمع المواد، كل التمرينات التي دربنا بها أذهاننا على ابتكار المفاجأة طي الروتين، كل أوراق الأشجار التي استرقت السمع لكتاب النشادر، كل الليالي المفعمة بالإرهاق وعشوائية البرامج المعدة سلفاً، كل نميمة بيننا عن الفلاسفة والدوبيت والشعر (أبو ضلفتين)، كل الخبث الساذج الذي جعلنا نضرب في الأرض بحثاً عن مشروع لم نتفق عليه ولم نعرف ملامحه حتى، كل الصفحات التي مُلئت بمضادات العادية الحيوية، كل الوقت الذي انقضى بيننا عن قرب ( 1920 ساعة)، كل هذا هو النشادر.

يناير 2009م

إحالات:
* كتاب النشادر - النشيد الاول
** كتاب النشادر –  النشيد الثاني
*** كتاب النشادر  -النشيد الثالث
**** تقرير للنشادر عن ورشة تشكيل بمركز توقيذر
عبد الرحيم: الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل
مأمون: الشاعر مأمون التلب

MEDIA


محفوظ بشرى

قبل أن تخفت أصوات الاعتراض على ما تبثه الفضاءات المفتوحة عبر شاشات التلفزيون إلى العقول التي ظلت مسجونة داخل الجغرافيا المحلية هنا؛ بدا وكأن هذه الأصوات أقرب ما تكون إلى هبة ريح خفيفة في مواجهة عاصفة لا تعبأ بالتذمر الذي تواجه به من قبل من تجتاحهم. واستمر هذا الاعتراض لفترة من الوقت إبان شروق شمس “المؤامرة على المشروع الإسلامي في السودان» كما كان يردد المتضررون من انفتاح البشر الذين هم موضوع ذلك المشروع على آفاق أخرى مغايرة قد تدفع بهم إلى التساؤل عما يمكن أن تكون عليه حيواتهم إن هم خرجوا على المشروع الذي ظل القائمون عليه يغذون قدسيته بتدعيمه بنزعات البشر التلقائية وردود أفعالهم على «استهدافهم». بعد ذلك استمر التذمر والاعتراض بالخفوت حتى لا نكاد نسمع اعتراضاً على المادة التي تُبث على الفضائيات إلا في ما ندر، حين فجأة يتذكر أحدهم أن وسائل الإعلام العالمية «تستهدف» البلاد و»توجهها» فيبدأ بتوجيه نيران النقد إليها ولكن دونما حماس واضح، إذ أنه في الغالب من المتابعين لما يبث في هذه الوسائط الإعلامية، أو ربما أهل بيته، أو أنه لا يعرف أين تكمن خطورة ما يحاربه في الحقيقة.
لكن في ظني أن الحرب على ما يسمى «القيم الوافدة والدخيلة» من قبل المتضررين من هذا الوفود وهذا الدخول، ليست حرباً واعية بما يكفي لبلورة خطاب واضح وقوي يواجه هذه القيم، ذلك أن ما تفعله «الميديا» وما يمكن أن تفعله لا يزال المفهوم عنه بدائياً لدى أولئك المتضررين وهم الذين من مصلحتهم المحافظة على نسق القيم الموجود كما هو من أجل تحقيق «مشروعهم» أياً كان ذلك المشروع. ذلك أنه يتم في الغالب تلبيس الحرب على الميديا بمناسبة أو حدث ما، ولا يتم وضع أساس تبنى عليه إستراتيجية طويلة المدى لخوض هذه الحرب، أي أن الإعلام جيد طالما لم يمس «ثوابت» يعتمد عليها النظام المحلي بما يهدد وجوده الذي يعمل على جعله دائماً وغير قابل للنزول عن «مكتسبات» تم الحصول عليها باستثمار أفق الوعي المتاح لهؤلاء الذين يتم اكتساب هذه المكتسبات منهم، ويصبح هذا الإعلام عدواً حين يمس ما لا يرغب سادة نظام ما أن يمس حتى لا يهدد وجودهم.
إذن، كيف يكتسب الإعلام هذه القوة التي بإمكانها السيطرة على عقول من يقعون في دائرة تأثيرها؟ لو نظرنا إلى التلفزيون بعيداً عن الفكرة المسبقة بالنظر إليه بوصفه أداة «تسلية» وحاولنا وضع احتمال بأن يكون أداة «تحكم»؛ إذن لربما أمكننا أن نرى بعض الأوجه الغائبة من مفهومنا عنه، فبرغم كل شيء يظل التلفزيون هو الذي يعلمنا كيف نعيش، كيف نلبس، كيف نتزين ونزين منازلنا، كيف يجب أن يكون سلوكنا، كيف ينبغي أن نفكر «بإيجابية»، كيف نأكل، وغير ذلك من أدق تفاصيل المعيشة اليومية، لكن أخطر ما يعلمنا إياه التلفزيون هو أنه يرينا ما النموذج الكامل الذي علينا السعي لبلوغه، وهنا مكمن عملية السيطرة العقلية التي يعالجها التلفزيون لدينا عبر التسلية، الترفيه، المتعة، أو أي المسميات لما يبث إلى تلافيف عقل المشاهد.
إن عملية صناعة «النجوم» تحتوي قدراً من الرسائل المشفرة التي تتسلل إلى أدمغة من تم جعلهم يضعون نجومهم هؤلاء نموذجاً يحذون حذوه مسيرين باللاوعي الذي يحرك عمليات استيعاب الرسائل المشفرة التي توضع حيث يمكن ألا ينتبه إليها المستهدف، هذه الرسائل تتعلق بالترويج لقيم موجهة سلفاً من أجل حصد المزيد من كل شيء، وهناك أمثلة حدثت لدينا هنا في السودان وإن بشكل بدائي، لكنها تعتبر خطوة في طريق محاولات إحكام السيطرة.
إن الفوبيا التي تنتاب المستفيدين من بقاء الأمور على ما هي عليه؛ من الغزو الفكري أو الثقافي، ما هي إلا رد فعل تجاه تهديد بفقدان السيطرة، إذ أن المحليين لا يرغبون في تقاسم السيطرة على الجماهير المحلية مع خارجيين لديهم مصالح أكبر قد تتضارب مع مصالح هؤلاء المحليين، مما يقود إلى التصادم في المصالح الذي يبرز فيه كل منهما أسلحته الدعائية، فبينما في الغالب يحاول الخارجيون كسب الصراع عن طريق بث خيارات للحياة ترتكز على أقوى محرك لدى البشر «الغريزة»؛ يجاريهم المحليون بالتمترس خلف غرائز مثل التديُّن والخوف من المجهول/الجديد، ما يجعل الأمر في النهاية صراعاً على شيء من التعقيد. إلا أننا نجد أن المؤسسات الإعلامية الكبرى كاسبة، وذلك لضعف آليات الصراع المحلية وفقرها المعرفي بالبشر، إذ أن أهدافها لا تتجاوز حماية النظام القائم دون آفاق أخرى لمكاسب أكثر من خلال تحويل الإنسان إلى مستهلك شره لما يقال له عبر التلفزيون إن عليه استخدامه، أو تحييده من الصراعات التي تدور حول السيطرة عليه.
في الأنظمة التي تعتمد أسلوباً أكثر قوة في السيطرة على الإنسان، يلعب التلفزيون دور الأداة الأولى في هذه السيطرة، فبالنسبة إلى البشر هناك، يؤخذ كل ما ورد في نشرة الأخبار على أنه حقيقة، وكذلك حديث كل من استضيف وبجانب اسمه درجة علمية أو سبقت اسمه كلمة «الخبير»، مما يسهل عملية تمرير الكثير من الحقائق المزيفة التي يكون الغرض منها خدمة قضية اقتصادية، تجارية، أمنية، وغيرها من القضايا المتعلقة بوجود واستمرارية النظام المسيطر. لكن عندنا هنا في البلاد التي لا يزال عليها أن تقطع شوطاً طويلاً حتى الوصول إلى مرتبة الدول الأخرى «العدو»؛ تمرر الأشياء بفجاجة أشبه بالأوامر العسكرية، فيؤتى بمن له سلطة ما «دينية، اجتماعية، وغيرها» ليقدم نصائح مباشرة. لا زلنا - لحسن الحظ - بعيدين عن خبث تمرير الرسائل مغلفة بما يجعلها تبدو  وكأننا اخترنا محتواها، إذ يخفى علينا التوجيه الذكي الذي جعلها تتسرب بكل بساطة إلى عقولنا.
يقوم التلفزيون كذلك بصنع الأيقونات، النجوم الذين يشكل الانتماء إليهم رابطاً يستخدم بذكاء لتسيير حياة المسيطر عليهم وفق ما يشتهي من يمسك بالخيوط. إن الخطورة في «النموذج» أنه يعمي عن كل ما سواه أثناء سعي الآخرين نحو التشبه بهذا النموذج، إن خارجياً في المظهر، أو إن في طريقة العيش، ففي الحالين هناك من يكسب من هذا التشبه، ويكون هذا بطريقة لا تشابه ما صادفني قبل عدة أيام في إحدى الصحف، إذ نشرت إعلاناً لبيع الرسائل (sms) المتعلقة بالفقه والحديث والسيرة والسنن، وقيمة الرسالة ١٥٠ قرشاً غير شاملة الضريبة، وفي حين لم يوضح الإعلان إن كانت الرسائل اختيارية أم لا، أي أن المشترك تأتيه الرسائل حين يطلبها أم أن لا خيار له في متى تأتيه وكم عددها؛ نجد أن مقدمة الإعلان توسلت بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، بعبارات توحي بأن من لم يشترك فمحبته له غير تامة. إن هذا لا يشبه دعاية الشامبو التي يظهر فيها كريستيانو رونالدو ليقول إن اسمه كريستيانو رونالدو وهو يستخدم شامبو (....) للقشرة، فهنا كريستيانو لا يعظ أو يطلب من المشاهدين أن يستخدموا الشامبو، إن الإعلان يعتمد على عدة مستويات تستغل نجوميته، فالبعض من المهووسين سيستخدمون الشامبو على الفور لمجرد أن نجمهم المحبوب يستخدمه، والبعض الآخر سيفكرون أنه لولا أن الشامبو جيد لما قام بدعايته نجم، هدا باستبطان أن النجوم لا يخدعون محبيهم بافتراض أن النجم يبادلهم الحب، فطالما أنهم لن يخدعوه فلن يخدعهم هو كذلك، وهناك من سيفكرون بأن الشركة المنتجة طالما استعانت برونالدو فهي شركة غنية إذ أن فاتورة هذا النجم باهظة، إذن هذه الشركة الغنية ستنتج منتجاً يتناسب مع غناها هذا، وسيكون غالياً، والغالي بغلاتو يضوقك حلاتو كما قيل لنا بصيغ مختلفة.
هل لاحظتم بدائية الإعلان الأول وذكاء الإعلان الثاني؟
على مستويات أكثر تعقيداً تتم الدعاية لمنتجات، مفاهيم، أنماط حياة، قوانين سلوك، وغير ذلك من التفاصيل التي تسيِّر الحياة، وكل ذلك دون الانتباه لما يدخل مخلوطاً بالتسلية، الأفلام، الرياضة، الدراما، الأخبار، التقارير، البرامج التعليمية والتثقيفية، وغير ذلك.
إن قوة هذا المكعب السحري (التلفزيون) تكمن في أنه ينتهج الصورة وسيلة لإيصال ما يريده المتحكمون فيه. الصورة - في رأيي - تشبه الحقنة، تحقنها في الوريد فتدخل على الفور إلى دورة المحقون البيولوجية سواء أكانت مفيدة كما يفترض بها أم مضرة وتؤدي إلى آثار غير المقصودة منها، بينما تشبه القراءة أقراص الدواء، تبتلعها فتمر بمراحل كثيرة ليتم في النهاية استخلاص ما ينفع منها قبل الدفع به إلى الدورة البيولوجية للمبتلع، لذلك مثَّل التلفزيون الأداة الأمثل لتمرير المخططات من قبل المخططين للسيطرة على العقول وتوجيهها.
في ظل ضعف النظام المحلي في مجابهة آليات النظام الخارجي الذي يسعى إلى السيطرة على جميع من على البسيطة؛ تبدو المعركة محسومة، ويمكن القول دون الخوف من الوقوع في خطأ كبير إن مشاهدي التلفزيون في السودان يشاهدون قنوات غير سودانية بأكثر من نصف الوقت المتاح لهم للمشاهدة، وهذا يعني أن الرسائل والقيم التي تمرر إليهم يومياً هي تلك التي تخدم نظماً أخرى غير النظام الذي يعيشون تحت سيطرته، مما يجعل خيار هذا النظام أن يمرر ما يريد عبر الوسائل المقروءة والمسموعة، وهي لا تعطي ذات قوة التأثير التي للمرئي، المدعومة بالعاطفة الجاهزة لتلبس ما يوضع أمامها حتى دون مراجعة أو محاولة هضم، بذا يمكننا فهم تشبث السلطة هنا في السودان بأن تكون الصحف تحت سيطرتها مثلها مثل الإذاعة والتلفزيون، فهي المنفذ الوحيد الذي يمكن للسلطة أن تحكم قبضتها عليه دون الخوف من مزاحمة آخرين، وإن كانت حتى الصحف الآن تتعرض للهجمة بسبب ظهور الإنترنت، وهو على الرغم من أنه ليس مثل التلفزيون في اتساع نطاق الحصول عليه واستعصائه على الرقابة، إلا أنه بكل المقاييس أحسن حالاً من الصحف التي يحكمها قانون المكان.
أخيراً، أذكر أنني شاهدت فيلم «الرجل الراكض» إن كانت الترجمة صحيحة، وانتبهت إلى أن في الفيلم تم حذف أهم ما تقوم عليه الرواية التي أخذ الفيلم عنها، وهو أن التلفزيون كان مفروضاً على السكان من قبل الحكام ويعتبر عدم اقتناء تلفزيون جريمة يعاقب عليها القانون. إذ قامت الرواية على أن في المستقبل سيتم التحكم بالناس عن طريق التلفزيون الذي يبث التسلية طوال الوقت محشوة بتعريف من هو المواطن الصالح ومن المجرم بما يشبه غسيلاً للدماغ، لكن ولسبب ما قامت هوليوود بإعادة إنتاج المعنى ليصبح معبراً عن أن البحث عن نمط العيش الذي يتم الترويج له الآن، في المستقبل هو الغاية النهائية التي يسعى إليها البطل «النموذج» أرنولد شوازنيجر، وهذا يشبه ما فعلته هوليوود بشخصيات مثل جيفارا وكلاي وغيرهما من النماذج غير الخاضعة تماماً لسيطرة النظام.

إلى صديقي أحمد: (يرهقني البشر )

محفوظ بشرى
صديقي أحمد:
أكتب مخاطباً إياك، لأنني شعرت بحاجتي لأن أقول لك، تلك الحاجة التي كانت في تلك الأيام تتمخض عن حوار أشبه ما يكون بحوار (الطرشان)، فقط محض إيماءات وإشارات مبتورة لمن لم يكن أينا، لكنها في عميق حقيقتها كانت إكمالاً لفجوات تفاصيلٍ صارت أكثر من مُفَكَّرٍ فيه في الآن واللحظة، كانت أكثر من ذلك، تندرج ضمن نسيج حياة متغيِّرة نحياها، تفاصيلها تروغ وتنزلق وتتلاشى حين نكاد نلمسها، لكننا ما فترنا من ملاحقتها،  تلك الملاحقة التي أعتقد الآن أنها ما يُسمى الحياة.
كانت الأشياء واضحة، ثمة خير وشر، صواب وخطأ، كان الهدف جلياً بما لا يقاس، ساخناً، يكاد يكون حقيقة،  وكنا أكثر شباباً من أن نرى كيف أن الأشياء لا تسير وحدها فقط؛ ولكننا نسير كذلك. أما الآن، فلا أعرف أي اتجاه سيفاجئ أنفي بلطمة الصديد.
صديقي أحمد:
أرهقني البشر. هذا الأمر ليس جديداً، وأنت تعلم ذلك، كثيراً ما قلت لك إن البشر يرهقونني، فهم يسببون لي ارتباكاً حين أحاول فهمهم. أخبرتك ذلك، في تلك الأيام الصفراء حين كنا نحتسي خيباتنا الباردة، حين شعرنا لأول مرة باللدغة التي أيقظت ما كان في سبات الإيمان. أنت تذكر بلا شك تلك الأيام التي تلونت فجأة بالرمادي، أوان اكتشافنا أولى قطرات ما كان جامداً حتى بدأ يسيل بفعل حرارة المحكات التي تتالت لتفضح أي نتانة كانت تختفي خلف تلك المقولات الزاهية. أرهقني البشر، بلا شك أن ذلك كان من نبوءاتك السرية التي لم تطلعني عليها، أثق في هذا، لأنني أثق بك، أنت، آخر مسمار يجعل لهذه الكلمة معنى ما، يكفي لأن يكون ملاطاً يمسك هيكل ذاتي، ويلصق أجزاءه ببعضها. لم تكن ثقتي عمياء كما يقولون في الأدبيات القديمة، ولكنها كانت إيماناً آخر يوازي ما تورطت في فقدانه، الإيمان الذي غاب وقت أن تبدى عدم الرضا، ثم بعد أن حل محل الأجوبة التي كانت تكفي لإسكات ذلك الطفل الجائع المتسائل باستمرار عن جدوى وجوده، وعن جدوى جدوى وجوده ذاتها، الطفل الذي لم تشبعه المسلمات الجاهزة لتبرير كل شيء بالوصول به إلى نقطة ما بعدها إلا الانقلاب على ما يمكن أن يؤدي إلى عالم آخر بسيط وملون بألوان لا تستفز بذلك الخلط اللانهائي الذي يفرخ لوناً كل رمشة عقل.
 أرغب في الثرثرة معك، الحديث عن أشياء عادية للغاية، سكونك وسكينتك حين تراقب قلقي ونفاد صبري، أرغب كثيراً في بعزقة الوقت في سياق عبثي لا يفضي إلا إلى طرفة (بايخة) تضحكنا. وفي ذات الوقت أحتاج أن أتجاذب معك حياكة الأفكار ونحن نجدف نحو الأعمق في إحداثيات لم نتوقف هنيهة لنتساءل عما إذا كان أحدهم طرقها قبلنا.
(كل خطاب هو خطاب مضاد، بالنسبة لخطابات أخرى «حتمياً»؛ أو بالنسبة إلى عناصره الداخلية «افتراضياً»، مما يعني أن البحث في قراءة العناصر الداخلية للخطاب والعمل على تعرية آليات اشتغاله المخفية؛ يؤدي إلى صنع خطاب موازٍ صالح للتحطيم، بما يحطم الخطاب الأوَّلي). أترى؟ لا زلت أذكر تلك البداية التي لم ندرك - رغم بدائيتها وسذاجتها - إلا بعد وقت، كيف غيرت مسار الرؤية، وكيف بعثرت المسلمات التي سوَّرت الطريق الذي صعب تركه. لا زلت أذكر، الثورة الحارة السابعة، بالقرب من منزل (ناس أكرم)، بيت بلا سقف، المغربيات الدافئة، محاولة ابتكار (منهج) لقراءة ما يبدو غامضاً، انطلاقاً من أن الغموض ثياب تخفي ما يفضح، وأن علينا تعلم كيف نخلع من الخطاب ثيابه، فالعري مرحلة أولى لمعرفة ما تحت الجلد، مرحلة أولى قبل التشريح.
أذكر جيداً كلما غامت الرؤية كيف بدأ كل ذلك، وإلى أين وصل بنا، أذكر المحاولات الأولى لاختبار الفرضية، نماذج الخطابات بسيطها ومعقدها، أذكر الصعوبة والجهد ونحن نحاول التفكير صامتين كل على حدة، أذكر محمد سبيلا، الآيديولوجيا نحو نظرة تكاملية، آفانا سييف وأسس المعارف الفلسفية، أذكر دهشة اكتشاف كم الجمود الموجود في المذاهب التي تحارب الجمود، كل ذلك وأكثر، شكل أولى قطرات الشك، الشك المقدس، الذي أفضى إلى العدم أولاً، ثم إلى تعلم كيف تُقرأ الحقيقة غير الموجودة في إطلاقها المحكي عنه.
أتعرف أن المفهوم الطريف الذي وضعناه لعلاقة الإنتاج لا يزال يحكم بعض مواقفي تجاه العلاقات الاجتماعية؟ أمر مدهش هذا، حين أتذكر أن المتعة تصلح لأن تكون قيمة محسوبة، لها ثمن، ولها سوق، أنا أتحدث عن المتعة بإطلاقها وليس عن نوع واحد.
صديقي أحمد:
كما كنت أقول، البشر مرهقون، فهم غير واضحين، أعني أن تعقيدهم من النوع غير الواضح، وهذا يرهقني. إنهم يفعلون كثيراً من الأشياء لا لأنهم يجب أن يفعلوها، ولا لأنهم يريدون فعلها، ولكن لسبب لا أعرفه، لا تبدو لي الأمور منطقية. قد تسألني: وما المنطق؟ نعم، ما المنطق. هل أصلح أنا أو أنت أو أي واحد لأن يكون منتهى ما، نموذجاً، الثابت الذي تقاس به الأشياء؟ هل من حق أيٍّ كان أن يحدد، أو أن يحكم، أو أن يضع القيمة؟
إن كانت الإجابة لا؛ إذن ما الذي يحدث؟ لماذا نحيا سلسلة من الأحكام والتقريرات بناء على منطق ما أو بناء على هوى؟
وإن كانت الإجابة نعم؛ كيف ولماذا ومن أين جاء هذا الحق؟
إنها الفوضى بلا شك يا صديقي، الفوضى الجميلة التي يخافها البشر لسبب ما لا يفصحون عنه صراحة، الفوضى التي أحلم بها سراً، وأعرف أنك لا تحبذها مثلما لا تحبذ القوانين. هل أنت متناقض؟ هل سألتك هذا السؤال قبل الآن؟ لا بد أنك لم تجبني لو كنت سألتك.
صديقي أحمد:
أتحدث إليك، وأعلم أن حديثي هذا يشبه أحاديثنا القديمة، محض إشارات وإيماءات تكمل فجوات وأحاديث لا تكتمل، ونحن نحلم بالتليباثي ليكفينا مشقة نقل الأفكار بطريق الصوت، تلك الترجمة التي تحدثنا عنها مراراً، وكيف أن الفكرة حين تقطع الطريق بيني وبينك تكون فقدت الكثير، تصل ناقصة ربما، أو تتغير عند مرورها بأوساط مختلفة الكثافة. لكن الكثير حدث، منذ تلك اللحظة التي أدركنا فيها أن هنالك ما يسمى الخطاب، وحتى الآن، وأنا أرى كيف كانت بداية متواضعة وتفتقر إلى الضبط اللازم للتحول إلى نمط، إلى أداة مطاطية تصلح لأن تتمدد بمرونة مذهلة لتحتوى الكثير، تصلح – في ظني – لقراءة على شيء من الوضوح، صانعة ما أحب أن أسميه (التحطيم) في انحياز سري لـ لوكاش، لكنه تحطيم فوضوي (لا زلت أظن الفوضى شيئاً جميلاً) ينتفي منه الهدف بتقليديته المدرسية الكابية.
صديقي أحمد:
أتظن أن يوماً سيأتي ويطعن محاولات التحلل من القيود بإثبات ضرورة القيود؟ أقول هذا لأنني أظن أن الضرورة هي ما تبقى من وقود يحركني، لكن في اتجاه فهم أنماط الضرورة ومحاولة الانفكاك منها، والضرورة ربما كانت قيداً كما أستبطن، لكن كما قيل لي؛ طالما أنني أموت؛ فلا فكاك من القيد، لذا أكره الموت.
صديقي أحمد:
متى سيختفي النعت من اللغة؟ متى ستصبح الأرقام محض أرقام؟ متى ستتوارى التعابير التي تحط وترفع؟ متى سيصبح البشر بشراً؟ متى سيموت الموت؟

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

تلك الامثال

محفوظ بشرى
مَثَل:
تحدث أحد (أرباب العمل) الذين عملت لديهم ذات مرة عن لا إنسانية الذين يبخسون الباعة المتجولين أشياءهم، واعتبر ذلك (استغلالاً) لحاجتهم وظروفهم السيئة. في حين أنه يدفع للعاملين (لديه) أقل بـ 50% من الحد الأدنى المتعارف عليه للأجور بين أرباب العمل!
ما هو الاستعباد حقاً؟
إذا قمنا بعملية (تقشير) مباشرة بغرض النفاذ إلى معنى الاستعباد (بعيداً عن القاموسية)؛ فسنجد على الأرجح أنه – الاستعباد – الاستيلاء على قوة عمل بشر آخرين قسراً دون تعويضهم. ذلك التعويض الذي ربما اعتبره (رب العمل) منقصاً للفائدة القصوى التي يبغيها من استخدامه لأولئك البشر من أجل مصلحته الخاصة، وكي يبدو الأمر (مستقيماً) ومتسقاً مع نظام الأخلاق السائد في المكان والزمان اللذين يشكلان محوري الوعي لدى (رب العمل) ذاك؛ تتشكل عدة (حيل) لتصبغ على الأمر أخلاقية ما. ما أقوله هو: إن الاستعباد هو الحصول على قوة عمل دون مقابل باستخدام آليات قامعة لتجبر أناساً ما على منح قوة عملهم هذه رغماً عنهم.
طيِّب، إذا سلمنا بأن ما ذكرته صحيح أو يتضمن شيئاً من الصحة؛ ألا يعني هذا أن الاستعباد قائم حتى الآن وبأشكال لا حصر لها؟
طيب، من صاحب المصلحة في أن يوجه التفكير نحو صورة (منمذجة) للاستعباد (العبودية – الرق – العنصرية... إلخ)؟ صورة يجعلنا نهاجمها بضراوة على الرغم من التأكيد على نهايتها وأنها صارت من الماضي! من صاحب المصلحة في الانشغال بالهجوم والعراك مع وجه واحد وغابر من ممارسة ما، وبذل كل الجهد في ذلك، وعدم الالتفات إلى الأشكال الأخرى من تلك الممارسة؟ أليس هو من يمارس تلك الأوجه الأخرى؟
دعونا إذن نتحدث عن (التوجيه)، وكيف يشغلك (النشَّال) بتفقد حذائك بينما هو يعبث في جيبك، دعونا نحاول أن نتساءل عن كيف يجعلنا النظام مشغولين (بالعظمة) في الوقت الذي يتسلل إلى ما ادخرناه من مؤونة، أي: فلنر كيف يستعبدنا النظام بطريقة تجعلنا نبذل كل الجهد من أجل أن يوافق على استعبادنا، دعونا إذن نتحدث عن العمل.
ما العمل؟ وماذا اكتسب خلال تلك الرحلة المضنية من ذلك الوقت الذي كان الإنسان فيه (ينتج) حاجاته بنفسه، وحتى الزمن الذي شكلت فيه المدينة حافزاً لقيام علاقة تكاملية بين بشرٍ تجمعهم أسوار واحدة فصار كل منهم ينتج جزءاً واحداً مما يحتاجه البشر ليحصل كل واحد في النهاية على احتياجاته عبر عملية تبادل وضعت اللبنات الأولى لمفهوم (القيمة)؟
بذات طريقتنا في (التقشير) القاسي للوصول إلى جوهر المسألة البسيط؛ نقول إن العمل هو عملية تبادل يحكمها مفهوم (القيمة)، العامل يستبدل قوة عمله باحتياجاته التي يحصل عليها في صورة قابلة للتحويل إلى أي شكل وفقاً لمفهوم القيمة المتبع.
وحتى لا ننغمس كثيراً داخل هذا (الغلاط) الأزلي؛ ننفذ إلى السؤال: لماذا يعمل البشر؟ أعني بالعمل ذلك الشكل الذي ينتجون فيه احتياجاتهم بطريق غير مباشر عبر بيع قوة عملهم هذه لواحد من البشر؟
مَثَل:
أرجى سفيه ما ترجى عاطل.
(مثل سوداني!)
يُبرر العمل على عدة مستويات، ويُعتبر التوقف عن العمل عصياناً (لمن؟) يستدعي التعامل معه بحسم من كل أبنية النظام بدءاً من المفاهيم الاجتماعية التي تعلي من قيمة العمل؛ وانتهاء بالنصوص الدينية التي تعتبره نوعاً من العبادة، مروراً بكافة أشكال القهر المنظم على المستويين الظاهر والمستتر ضد من يتمردون على هذه (القيمة) التي من غير الواضح حتى الآن مدى جدواها للعامل على المدى البعيد!
إن الاستعباد قائم، لم يمت، فقط تنكَّر في وجه آخر وظل جوهره هو ذاته: إجبار البشر على بيع قوة عملهم دون مقابل. قديماً كان المستعبَدون يحصلون على ما يبقيهم أحياء من أجل مواصلة العمل، الآن ذات الشيء يحدث: المستعبَدون يحصلون على ما يبقيهم أحياء لمواصلة العمل، فقط لا غير. وما (الامتيازات) المصاحبة إلا ما تحدثنا عنه في البداية، أعني ما يكفي لانشغالنا عن التفكير في لب الأمر، ومن أجل هذا الانشغال جند النظام كل آلته الدعائية لترسيخ نموذج مرسوم بعناية (للحياة)، وهو ما تحدثنا عنه بإسهاب في مقالات سابقة.
مَثَل:
(بعملنا) وبأملنا نبني جنة.
(جزء من أغنية عن الوطن)
- لماذا يعمل البشر؟
- ليعيشوا.
- كيف يعيش البشر عن طريق العمل؟
- يحصلون على مقابل يشترون به حاجاتهم.
- وكيف يحصل من يمنحهم هذا المقابل على حاجاته؟
- من المقابل الذي يحصله من بيع ما أنتجه البشر، للبشر.
لا أتحدث هنا بشكل مباشر عن (فائض القيمة)، ولكن أحاول الوصول إلى ما يمكن أن يكون إجابة معدة سلفاً لتساؤلات مثل هذه، فبقدر ما تبدو الأسئلة بسيطة وساذجة، والإجابات كذلك؛ إلا أنها ترينا أن لسبب ما؛ لم تخطر هذه الأسئلة البسيطة (السطحية) على التفكير بشكل ملح، لسبب ما لم يتوقف أحد ممن يدخلون يومياً إلى بطن هذه الآلة الطاحنة للنظام المسماة (العمل) أمام أسئلة كهذه، وإن وقف؛ سيجد أمامه واحداً من طريقين: إما أن تصبح الأجوبة متشابكة وعلى شيء من التعقيد المرهق؛ وإما أن يُمنح إجابات جاهزة تم إعداد وعيه من الصغر لتقبلها والارتياح إليها. وفي كلتا الحالتين؛ سوف يواصل البقاء داخل بطن الآلة دونما أفق لاحتمالات أخرى لإمكان العيش بطريقة مختلفة عما أريد له، أو محاولة كسر الطوق وامتلاك قوة عمله بما يمكنه من تحديد قيمتها وفقاً لمصالحه لا مصالح المستفيدين من الفرق في القيمة بينها والمقابل.
العمل استعباد، عبودية، اختيار مزيف مثل أن تختار بأي طريقة تريد أن تموت. عين ما كان يحدث قديماً يحدث الآن، كان العبيد يطاردون ويقبض عليهم بالقوة ويربطون بالسلاسل ويجلبون إلى حيث يعملون حتى الموت، والآن يطارد العبيد بالمفاهيم ويتم القبض عليهم بإغلاق الخيارات والطرق الأخرى ويجلبون إلى حيث يعملون حتى الموت بآلة النظام القيمية الدعائية المصفحة بالوعي المصنوع لهذه الغاية، يتم ربطهم بسلاسل ذات مسميات أكثر نعومة، يجبرون بوضع الحياة مقابل العبودية، والموت مقابل العصيان.
مَثَل:
قطع لصوصٌ طريق رجل، فأوقفوه وأنشأوا يبحثون عما يحمل؛ فعثروا على صرة مال معه، ولأنها كانت واضحة جلية، لم يخفها، ولم يقاوم كثيراً عندما انتزعوها منه؛ شك كبير اللصوص أن الرجل يخفي أكثر مما وجدوا لديه؛ عندئذٍ بدأوا يقررونه عما يخفي؛ فلم يقرّ لهم بشيء، عذبوه وأسمعوه ما يكره؛ فلم يستجب، عندها خلعوا عنه ما يلبس؛ فوجدوا أنه خاط المال في بطانة ثوبه ليبقيه آمناً من أيدي أشباههم، فعرفوا أن هذا هو ما يعتقد من مال، فأخذوه وأطلقوا الرجل وهم على يقين من تجريدهم إياه من كل ما يملك.
لكن الرجل بعد أن أمِنَ واسترجع أنفاسه، وردت روحه إليه؛ مد يده داخل حذائه يطمئن على ما اعتقده من مال، ثم مضى.
(........)
لا يسمح النظام بالولوج إلى المستوى العميق الذي يجيب عن أسئلة تشكل إجاباتها خطراً عليه؛ فعند ورود أي من هذه الأسئلة إلى الذهن؛ تبدأ آليات النظام الدفاعية في العمل، مفرزة عدداً من الحيل التي تجنبه خطر الولوج إلى ما يخفيه بعيداً عن وعي (العامة)، فدائماً هنالك الأجوبة الجاهزة والمتاحة لأي سؤال، الأجوبة التي تبرر على الفور، تقنع، وتقضي على الخطر في مهده، وهي كافية لإقناع البعض. اما من يحاولون التعمق أكثر؛ فيلعب معهم النظام لعبة نتيجتها اعتقادهم أنهم حصلوا على الإجابة الصحيحة نسبة لما أنفقوه من جهد وما عانوه من مصاعب للحصول عليها، ولا يخطر بالبال البتة أن هذا ليس سوى المستوى الثاني فقط الذي تستخدمه آليات الدفاع عن النظام، فيذهبون ضحية للخدعة دون أن يفكروا أن النظر داخل الحذاء فات عليهم.
مَثَل:
(أنا بكره ثقافة الفقر، يعني زي إنو واحد يربي الجداد، ويقوم يوديه السوق يبيعو عشان يشتري ويكة ودقيق عشان ياكل كسرة بويكة! يعني هو ما ياكل جداد بس يبيعو للناس البياكلو جداد وبسعرو يجيب البياكلو هو! دي ثقافة فقر، حاجة عجيبة!)
(من حوار مع صديق في العام 2008م)
إذن يستعبدك رب العمل (استعباداً مباشراً) لعدد من الساعات في اليوم، لعدد من الأيام في الشهر، لعدد من الأشهر في السنة، لعدد من السنين في عمرك؛ بمقابل هو الكفاف من العملة التي تستبدلها بالطعام الذي يبقيك حياً بالكاد ودائماً بحاجة لاستعباد رب العمل لك. العمل قيمة مصنوعة، محمية بالقانون الظاهر والمستتر، بالعرف والدين، فلنتساءل: ما الذي سيحدث لو توقفنا جميعاً عن العمل؟ سينهار النظام بالتأكيد، ولئلا ينهار النظام؛ فهو يحافظ على أن تعمل، أن تلتزم بالقيم (التي صنعها)، أن تكون تطلعاتك في اتجاه واحد لن تصل به إلا إذا أدركت الخدعة، نحو (الرفاهية)، أن يشغلك بحرب طويلة ومصنوعة ضد الفقر، أو الظروف... إلخ، (ولهذا يصنع الفقر)، ولهذا يصنع المسارات التي تجعل الفقر قيمة مثلها مثل القيم الأخرى أولاً، ثم من بعد ذلك يدخلك إلى تلك المسارات التي تؤدي إلى ما يريده بك.
مَثَل:
لقد أصبحت تجد من يعتني بك، ويرعاك، ويخبرك كيف تعيش على نحو أفضل، وكيف ترتدي أحدث الأزياء، وكيف تزخرف منزلك، باختصار، كيف توجد.
(هنري لوفيفر – في معرض نقده الدعاية والإعلان- والتلفزيون)
العمل استعباد له ما يتعلق به، سلسلة كاملة متشابكة من المهام التي يجب القيام بها آلياً والمرتبطة بالعمل، سلسلة من الأفعال الاجتماعية المتصلة في دوال شرطية يستحيل الفكاك منها ما لم تتم معرفة اتجاه عملها أو مدى ارتباطها بنقاط تقع خارج الوعي المرئي مثلاً. لذلك ثمة ارتباط بين البعد القيمي للعمل وبين التقدم في السلم الاجتماعي، أي بين مدى الخضوع للعبودية وبين مدى الامتيازات المتحصلة بناء على درجة ذلك الخضوع. مثلما أن النظام يرتعب من حدوث (التفكك الأسري) (وهو موضوع سنلمسه في ما بعد)؛ فهو يرتعب كذلك من حدوث بطالة غير مسيطر عليها، أي خارج نطاق ما يحتاجه ويصنعه من بطالة من أجل إشباع شروط وجوده من جهة، ومن أجل تغييراته الدائمة في الترتيب والتراتبية (المكافآت) بين عناصر عمل الآلة (مقابل كل من يصعدهم النظام مكافأة لهم في السلم الاجتماعي؛ يوجد من تم إخلاء خاناتهم لأجل الوافدين الجدد، وإخلاء الخانات هذا لا يلتزم بداهة أن الجديد يوضع تماماً مكان المُزاح، بل يتم تحويل الإزاحة نحو من لا حاجة للنظام بهم، أو من يراد تخزينهم على مقربة حتى أوان الحاجة .. إلخ). ولأجل السيطرة على الوعي، تنتج الآلة خطاً متصلاً من الدوال الموجِّهة في فضاء الوعي العام والقابلة للالتقاط من قبل المستهدفين حالما يتوافر المستهدف على شيفرة مناسبة طبعت في وعيه منذ التنشئة. إنها شبكة معقدة حقاً، تصعب الإحاطة بكل خيوطها المتشابكة داخل أبعاد لا حصر لها في فضاء الوعي، تسندها آلة مادية جبارة لا ترحم ومصممة من أجل هدف واحد لا تحيد عنه: حماية النظام.

إنسان طي الكتمان (2)


محفوظ بشرى
قلنا في المقال السابق إن الذي يتحكم في اللغة يتحكم في الوعي العام، وفي معرض تأكيدنا على لا حياد اللغة استخدمنا مثالاً عبارة (رجل الشارع العادي). إن هذه العبارة تستر خلفها الكثير من المضمرات التي تسهم في توجيه وعي المُخاطب باتجاهٍ موضوع سلفاً تمهيداً لإحكام السيطرة على وعيه وترسيخ المسلمات المطلوبة ليظل – المخاطب- داخل المسار المطلوب.
وللتدقيق أكثر؛ فلنلاحظ أن هذه العبارة تفتح احتمالات عدة، فهي تعني:
1- هنالك رجل شارع غير عادي
2- هنالك رجل عادي ليس رجل شارع
3- هنالك رجل غير عادي ليس رجل شارع (من هو رجل الشارع بأي حال؟؟)
هذه بعض الاحتمالات التي أفرزها التحديد، هذا بالإضافة إلى كون أن يخاطب شخص شخصاً آخر ويتحدث معه عن ( رجل الشارع العادي)؛ فهذا يحمل دلالة غالبة يوحي بها السياق أن رجل الشارع العادي مرتبة أدنى من المخاطب والمتحدث، وهذا يدفع المخاطب للقبول اللاواعي لافتراض دونية رجل الشارع العادي أو حتى اختلافه عنه طالما تم استثناؤه، وهو ما يهيئه لقبول ما سيقول المتحدث سلفاً حتى قبل أن يقوله.
مثل أن يبدأ احدهم حديثه معك بـ شخص متعلم مثلك إلخ.. مما يضعك على الرغم من تعدد الاحتمالات داخل مسار محدد دون حتى أن تنتبه لهذا.
إن السيطرة على اللغة والتي يجيدها النظام وينافح أي محاولة من الأفراد أن يمتلكوا مثلها؛ هي الضمان الأقوى للحفاظ على سيطرته على البشر وتقويتها بما يخدم ويسير آلته كما يشتهي.
إن التحكم في الرغبات الجماعية والفردية وتوجيهها؛ يمثل إحدى الطرق التي ظلت تثبت فعاليتها على الدوام؛ ذلك أن هذا التحكم والتوجيه يستند على أرضية قوية من الغرائز التي تم كبتها وتحقيرها لتظل كالجمر الدفين قابلة للتوهج متى ما نُُفخ فيها. إن الآلة الدعائية الهائلة التي تروج لمنتجات (كمالية) تعتمد في مستوى عملها العميق على مداعبة المكبوت والمغطى ليتحول بكثرة الطرق عليه إلى محرك صغير يدير اللاوعي الذي وضع عليه النظام أقفالاً يمتلك هو مفاتيحها. فالجنس يصلح مثالاً جيداً لما نذهب إليه، كذلك نموذج الحياة المرفهة والذي غالباً ما يتم استخدامه من أجل الترويج لمنتجات غاية في الثانوية مثل بعض الأطعمة بما يوحي للمستهدف بأنه لو استخدم المنتج فقد ساوى بشكل ما بين طريقة عيشه وبين ما يراه عبر الوسيط الدعائي الذي غالباً ما يكون الصورة.
ينفق النظام الكثير من الوقت والجهد في صناعة النموذج الذي يريد أن يكون عليه البشر، النظام ممثلاً في أدواته الظاهرة كالحكومات والمؤسسات الدينية ونظم الأخلاق وغيرها. وعلى رغم الاختلاف الظاهري بين هذه الأدوات (المؤسسات) باختلاف الجغرافيا؛ إلا أن ما تطلبه هو ذات الشيء؛ ألا يخرج البشر من نطاق السيطرة، وكبح كل محاولة للرؤية من مكان مختلف. لذا نجد أن تعريف (المواطن الصالح) هو هو، في أي مكان، وكذلك تعريف المؤمن، والطيب، والمسالم. أيضاً بالضرورة أن تعريفات نقائض هذه المفردات هو ذاته في كل مكان، وهو ما يدفع للتساؤل: من أين تكتسب هذه التعريفات قيمتها وشرعيتها؟ ومن/ما أطلقها؟ ومن/ما حماها ويحميها بمؤسسة قانونية هي ذاتها يصح فيها التساؤل السابق؟
إن الدهشة لتعتري الفرد إن نظر بتفحص لكل ما يحيط به ويثقل حركته ويحجم رغباته و(يهذِّب) نزواته! وربما كان الانتباه لثقل القيود التي تثقل الفرد دافعاً لأسهل أشكال الخروج: (الجنون).

* صناعة الخطر.. صنعة السيطرة:
كما أسلفنا؛ يقتات النظام على الخوف، على الحاجة للأمن التي يصنعها عبر كل الآليات المتاحة، حتى الترفيه؛ أضاف النظام إلى دوره المطلوب؛ وهو محاصرة عملية التفكير التي سنتناولها، أقول أضاف النظام دوراً آخر للترفيه، وهو تعميق الإيمان بوجود الخطر، وتضخيمه، والإبقاء على الإحساس بفقدان الأمن حياً ويتم التذكير به عبر الوسائط الإعلامية.
إن الخطر يسمح بأن تُحكم السيطرة على من يراد تسييرهم وفقاً لمصالح لا تمت بصلة لمصالحهم الذاتية، ومن أجل أن يظل الخطر موجوداً ومهدداً لا يمكن إغفاله داخل حيز الوجود؛ ينتجه النظام على الدوام، بما يشكل صناعة تسهم فيها جميع أدواته على جميع مستويات الوعي الذاتي لدى الأفراد.
المسلسلات الدرامية، الرياضة، أفلام الكارتون، إلخ، كلها تحتوي على مركبات أولية للخطر يستخدم النظام هذه المركبات مع بعضها ليصنع وعياً موازياً يتم غرسه في عميق تربة الوعي البشري المستهدف بهذه العملية ضمن عملية كلية تقود إلى الهدف النهائي: الانقياد. ويتم كل ذلك عن طريق تحفيز ما غُرس قديماً عبر عملية التعليم وعبر سيطرة فقهاء السلطان على كل محاولات التمرد البشرية ومحاولات كسر النمط والتفكير (خارج السرب) والتي تُعد الخطر الأول على النظام وآلته الجهنمية.
إن العلاقة وثيقة بين الرضا، ونظرية الرزق المقسوم، وإعدام محمود محمد طه، واغتيال جيفارا، وغيرها من ردود أفعال النظام على الأنماط التي يجد فيها خطراً غير قابل للمعالجة. فمن أجل أن يجعلك النظام راضياً أو تسعى للرضا، فهو على استعداد لاستخدام كل الأدوات المتاحة لديه سواء أكان الدين أم قوانين الاجتماع أم التصفية الجسدية أم التصفية المعنوية وغيرها من الأدوات التي أثبتت على مدى التاريخ فعاليتها للحفاظ على المسار كما يراد له.
إلا أن أخطر ما يمسك به النظام كسوط يردع به من يفكر بالاختلاف، هو أمر متجذر بالغريزة لدى الكائن البشري: المعيشة. فسيطرة النظام على سبل كسب العيش وبالتالي تحكمه في حياة أو موت الأفراد؛ يعد أكثر الأدوات فعالية، إذ ليس من المسموح لك أن تكسب عيشك بعيداً عن سيطرة النظام، سواء أكان ذلك عبر ترسيخ المسلمة القوية باستحالة الانفصال عن بقية البشر، أم كان بالقوانين التي تطالك أينما حللت. ففي النهاية تم الإقرار بملكية (الدولة) للموارد الأساسية في الرقعة الجغرافية التي تتحرك فيها، أعني بالموارد الأساسية: الأرض، والماء، بل والشمس كذلك إن فكرت أن تخرج على سيطرة (الهيئة القومية) بصناعة كهربائك الخاصة!!
إن ما يحتاجه الإنسان في لاجدواه المريعة هذه المسماة بالحياة؛ هو أن يأكل ويشرب ويتناسل. هذا هو جوهر الوجود البشري إذا جردناه من كل ما أثقله به النظام من ثانويات حلت تدريجياً محل هذه الأساسيات، بل وصنعت – الثانويات- نظامها الخاص للحماية والذي يبين بشراسة الفرق بين (الحضارة) و(التخلف أو البدائية)، مدعوماً بنظريات تأخذ كينونتها من الميثولوجيا الدينية والاجتماعية القديمة والحديثة التي تجعل (الإنسان) مركزاً أول، منه تبدأ الأشياء وبه تنتهي.
لست أفهم لماذا وُجد الإنسان! وكل ما قيل لي من مبررات لم تشف غليل هذا السؤال، بل حتى الحرب المضادة على كل من يتساءل عن كنه هذا الوجود؛ لم تكن كافية لإماتة السؤال هذا؛ لأننا إذا استثنينا ما يفرق بين البشر فسنجد أن أولى المشتركات هي أن جميع البشر يأكلون، يشربون، يتناسلون، ويموتون! فأي شيء أكثر بديهية من أن هذا أساس الإنسان وكل ما يفعله في حياته غير هذه الأشياء هو فقط محاولة لفعل هذه الأشياء بطريقة أفضل!
لكن حتى هذه الأساسيات؛ وضع النظام عليها يده، فسيطر على الأكل والشرب، وسيطر على التناسل، وصنع من هذه السيطرة أداة للتحكم بالناس، فعليك ألا تعادي النظام لتأكل وتشرب وتتناسل، مع ملاحظة أن هذه الأمور لفعلها تحتاج إلى الأمن، الأمن الذي أقنعنا النظام أنه هو فقط من يوفره لنا.
* النظام يدجن الشعراء
كانت خطورة اللاعبين باللغة على النظام؛ تكمن في أنهم يشاطرونه السيطرة على مقاليد اللغة في الوقت الذي لم يكن النظام قادراً على إحكام السيطرة عليهم مما جعله يلجأ لمحاولة صرف انتباه الناس إلى أشياء بديلة، وهو الأمر الذي بلغ أوج نجاحه الآن، فالقنوات الفضائية وأساليب وأدوات تحصيل المعرفة البديلة للقراءة (من الكتب)؛ تشكل البديل الذي حيَّد نهائياً لاعبي اللغة (شعراء، أدباء، خطباء،... إلخ) بل وتم حصرهم داخل جدران ضيقة يتعاطون فيها ألاعيبهم اللغوية التي انصرفت إلى ما لا يهم النظام حقاً.
إن الشعراء ظلوا ولظروف تحيط بمفهوم الشعر؛ الأكثر خطراً على الأنظمة، مما حدا بآلة النظام أن تشن عليهم حرباً طويلة وهادئة أنضجت في آخر الأمر المفاهيم التي سادت عن الشعر وماهيته ولغته. أتحدث هنا عن شعراء في سياق يختلف عن محجوب شريف أو أحمد فؤاد نجم وغيرهما ممن احتوتهم أنظمة منافسة (على المستوى الثانوي) للنظام القائم، لكن في النهاية كل الأنظمة مبنية على ذات الهدف: السيطرة على الإنسان وتوجيهه بما يخدم آلة ضخمة تخدم بدورها قلة من البشر.
إن أعظم خدعة نفذها النظام كانت هي إقناع الشعراء أنهم فوق الآخرين، أنهم الأعلى، أنهم المنتجون والبقية متلقين فقط، مما أدى آخر الأمر إلى نجاح النظام في تحييد من يشاطرونه السيطرة على مقاليد اللغة وذلك بأن صرفهم لينزووا داخل شريحة ضيقة نزع عنها آليات التأثير على المحيط.
* لا تفكر.. لا تفكر
إن محاصرة عملية التفكير؛ كانت مهمة أنيطت بنظام التعليم والذي هو على علاقة معقدة بنظم أخرى ومقولات في غاية القوة مثل: التربية، الأسرة، المجتمع،...إلخ. ونظام التعليم تم توجيهه بما يخدم هذه الغاية: محاصرة التفكير، فهو مصمم تماماً لإنتاج وعي محايد في أحسن الظروف، ناهيك عن مهمته الأولى في تعطيل ملكة التفكير الحر مقابل تنمية قدرات التلقي والتفكير المضبوط وفقاً لعملية إعادة الإنتاج الممتدة التي بُنيت حول جوهر فاعل هو التلقين. في النهاية يتم ترسيخ مفاهيم الطاعة، والقبول، والرضا ضمن الوعي الفاعل لمن صنعهم نظام التعليم هذا.
إن نظام التعليم؛ وهو من الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام، مثله مثل المؤسسة القانونية والمؤسسة الدينية والتراتبية الاجتماعية، هذا النظام لا يكتفي فقط بمسخ البشر وتحويلهم إلى كائنات ذات قابلية للاستعباد؛ بل إنه يحول الفرد إلى رقيب على ذاته وعلى غيره بما يحمي النظام من أي محاولات لاختراقه، وهو دور لا ينتبه إليه أحد، طالما أن داخل كل منا (عميل) بشكل ما يمنعنا من الولوج إلى حيث لم نلج من قبل داخل حقل التفكير في ماهيات الأشياء وجدواها.
دائماً هنالك نخبة، هي التي تقرر عن الجميع ما هو صالح وما لا يجب التعرض له، هذه النخبة تراعي مصالح غامضة تؤدي إلى نتائج غامضة بالنسبة إلى السواد الأعظم، عندما تضع أو (تؤطر) أو (تقنن) ما يشكل مسارات الحركة داخل النسيج الاجتماعي المصنوع والمصمم ضد الاحتجاج، ضد الخروج، ضد الاختلاف، إذ أن الهدف الظاهري الأول الذي تحاوله أنماط السيطرة هو: التماثل! هذا في الوقت الذي تعمل آليات مضادة من أجل اللاتماثل. هذا التناقض بين الرغبة في ان يصبح البشر كلهم نسخاً من نموذج واحد كامل، والرغبة التي تشكل محركاً لتسلل (فيروسات) السيطرة إلى الوعي، وهي التميز؛ هذا التناقض يقود إلى نتائج وخلاصات تصنع الإطار الذي يعيه المسيطر عليهم، منها أن التميز مرضيٌّ عنه طالما أنه داخل حدود وسيطرة النظام، بينما التماثل غاية أسمى حينما (تتطهر) النفس من (الهوى) إلخ غبار الميثولوجيا!!
وبين هذين التناقضين، توجد القوة المثبطة التي تحفظ اتزان النظام بالنسبة إلى البشر بما يكاد أن يكون معادلة رياضية تشكل قانوناً يمكن الاعتداد به.
إن خطورة التفكير على النظام تدفعه دفعاً للتحايل على ممارسته، فإذا نظرنا إلى ما حولنا نجد ان كل غرض، كل خطاب، كل أدوات (التهذيب) والتشذيب؛ موجهة نحو إلهاء الناس عن التفكير، بل إن الأدوات الأشد عنفاً توجه لسحق ذلك النوع من التفكير الذي ينحو لاكتشاف طرق أخرى ومسارات مختلفة للعيش مما يهدد مسلمة النظام الأثيرة: نحن نعيش لأن النظام يستفيد من طريقة عيشنا. فإذا ظهر احتمال بأن تظهر طريقة مختلفة للعيش فإن النظام إما أن يحتويها ويدمجها داخل أقرب السياقات إليها، أو أن يحاربها بكل شراسته وعنفه، ولنتذكر هنا أن النظام هو من صنع العنف، وهو صانع الرعب الأول والأوحد.
* لا تتخيل.. لا تحلم
بقوة الخيال فقط؛ استطاع التفكير أن ينفلت مرات من ربقة السيطرة المطلقة للنظام، لكن حتى الذين حلموا أحلاماً (وردية) كما يقال؛ لم ينجوا من محاولات تحييدهم، جون لينون مثلاً حُيِّد بطريقة تكشف تماماً كيف يصنع النظام العنف، وكيف يوجهه بأصابع خفية. إنني لا أجد فرقاً بين قتل جون لينون، وإجبار البائعات في سوق الناقة على شراء مقاعد وأدوات من شخص بعينه، وذلك بقوة القانون مثلاً، ولا أجد فرقاً كذلك بين الخدعة الكبرى المسماة إصدار العملة، ومطاردة باعة الأرصفة الذين يبيعون بأسعار أقل من المحلات التي تغذي النظام وتسهم في تثبيته (مالياً على الأقل). إن كل أدوات النظام وأذرعه تحمي امتيازات ومصالح بعضهم، لكن.. من هم هؤلاء الـ(بعضهم)؟
دائماً أنا مجبر، مجبر على العمل، مجبر على التفكير في ما لا معنى له بالنسبة لي، مجبر على الحذر، مجبر على التذمر، مجبر على كل شيء! ولماذا كل ذلك؟ لأن هنالك من يستفيد من كل الأشياء التي أنا مجبر على القيام بها. وإن رفضت؟ حينها تتوجه الآلة الهائلة نحوي. قد يتهمون الخارجين على النظام بالتمرد، أو بالجنون، أو بالزندقة، إلخ، وذلك تمهيداً لعزل العناصر التي يخشى أن تؤثر على عناصر أخرى بما يصنع خطراً على النظام.
* لا تستيقظ.. وإلا..
منذ الأسئلة الطفولية الأولى التي تعرض من يسألها للضرب؛ وحتى الأسئلة الناضجة بكآبتها الخانقة والتي تعرض من يسألها للحذف؛ مشوار طويل يقضيه المرء محاولاً مقاومة النوم الذي يدعو إليه كل ما حوله. مطلوب منك ألا تستيقظ، عندها تصبح مواطناً صالحاً، وشخصاً ناجحاً، وصاحب (سيرة عطرة)، بل ربما تمت ترقيتك لتصبح من تروس آلة النظام الأكبر، وربما سُمح لك أن تشكل نظامك الخاص الصغير الذي يرضي رغبتك الذاتية ويسهم في ذات الوقت في ضخ دماء جديدة على آلة النظام ككل، بل ربما سمح لك ان تشكل مؤسسة داعمة للنظام، أو أن تصبح جزءاً من مؤسسة قائمة بسلطة كبيرة. كل هذه إغراءات لتظل نائماً، أما إذا استيقظت؛ عندها سيحاربك النظام، سيحاربك عملاء النظام الذين يحتلون أجساد نسيجك الاجتماعي الصغير، العملاء الذين يسكنون جسد أبيك، وجسد أمك، وأختك، وأخيك، وصديقك، كلهم يرسل إليك الرسائل لتعود إلى (الطريق القويم)، مستخدمين الأسلحة الناعمة في البدء: الحنان، الخوف عليك، توظيف القيم المعنوية كالأبوة والصداقة والأمومة، بعدها ينتقلون إلى أسلحة أقوى: المقاطعة، العزل، تغيير المعاملة، وكل هذا قبل أن يسلموك إلى المجتمع، الذي سيسلمك إلى المؤسسة القانونية، وعندها ستكتشف كم كان النوم مريحاً وأنت تقترب من الحذف أو العزل سواء بالقتل أو السجن.
ما حاولنا تحسسه؛ لا يزيد عن كونه وصف سطحي عابر لآلة تطحن بلا توقف. قد تكون هذه رؤيتي لوحدي، وربما أحس بها غيري، وربما أكرر ما قيل سلفاً بطريقة أخرى، كل هذه احتمالات لا تلغي في ظني محاولة الولوج إلى تعقيد الآلة، إلى النظام وأدواته، والنظر إلى كل ذلك بعين الريبة.
فلنتذكر هابيل وقابيل، داود، الحروب، الحرية، ولنلمس إلى أي مدى كان النظام دائماً هو صانع العنف، هو مانح الامان واللاأمان في ذات الوقت. ولنفكر أكثر من مرة: أين تذهب قوة عملي؟ وعلى ماذا أحصل مقابلها؟ إن الحياة هي الحق الوحيد، فلماذا أُسلب هذا الحق إلا بمقابل؟ ولماذا تُحدد حياتي سلفاً كأنها نسخة من حياة أخرى؟ لماذا لا أستطيع فعل كل ما أريد؟ لماذا أواجه بالتعقيدات في كل شؤوني التي تتقاطع مع أذرع النظام؟
هذه أسئلة عفوية، بسيطة، ساذجة لفرط بداهتها، ولكن..
* أخيراً..
أي قوة للكلمة!
قد ينظر ناظرون إلى كلمة (تخدش) وكأن بها نتوءات شريرة لم يلحقها التهذيب أو تجاوزها أبو اللسان الأول، ذلك الذي وضع نطفة اللغة في رحم الوعي لتخرج شجرةً يستظلها طير المعنى مفرخاً كل ساعة أشكالاً من المجاز والكناية والبلاغات بأبوابها تاركاً لمن ادعى بذر البذرة الأصل نبشه عن الجذور التي إن وصلها قتل الشجرة.
من يخاف اللغة؛ يخاف عقله.
من يهذبون اللغة؛ يختنونها، لا يقتلون ما يوصف.
من يظنون؛ ينسون أن الظن كيمياء بحاجة إلى الكلمة ليدركوا ماذا يعتريهم عندها.
كل ما يقال، ما يكتب، ما يفكر فيه، كله تكرار الإشارات ذاتها بصعوبة زائدة في انتظار ميلادها لتعفر وجهها بصوت الوطن.
الكلمات وطن اللغة، تولد فيه بعد أن كانت تجول في تيه بلا أبعاد، وبلا كينونة.
المعنى الظل؛ وما لا ظل له لا بقاء له.
* أخيراً جداً..
Imagine there's no countries
It isn't hard to do
Nothing to kill or die for
And no religion too
Imagine all the people
Living life in peace...
(John Lennon- imagine)



المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...