الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

إنسان طي الكتمان (2)


محفوظ بشرى
قلنا في المقال السابق إن الذي يتحكم في اللغة يتحكم في الوعي العام، وفي معرض تأكيدنا على لا حياد اللغة استخدمنا مثالاً عبارة (رجل الشارع العادي). إن هذه العبارة تستر خلفها الكثير من المضمرات التي تسهم في توجيه وعي المُخاطب باتجاهٍ موضوع سلفاً تمهيداً لإحكام السيطرة على وعيه وترسيخ المسلمات المطلوبة ليظل – المخاطب- داخل المسار المطلوب.
وللتدقيق أكثر؛ فلنلاحظ أن هذه العبارة تفتح احتمالات عدة، فهي تعني:
1- هنالك رجل شارع غير عادي
2- هنالك رجل عادي ليس رجل شارع
3- هنالك رجل غير عادي ليس رجل شارع (من هو رجل الشارع بأي حال؟؟)
هذه بعض الاحتمالات التي أفرزها التحديد، هذا بالإضافة إلى كون أن يخاطب شخص شخصاً آخر ويتحدث معه عن ( رجل الشارع العادي)؛ فهذا يحمل دلالة غالبة يوحي بها السياق أن رجل الشارع العادي مرتبة أدنى من المخاطب والمتحدث، وهذا يدفع المخاطب للقبول اللاواعي لافتراض دونية رجل الشارع العادي أو حتى اختلافه عنه طالما تم استثناؤه، وهو ما يهيئه لقبول ما سيقول المتحدث سلفاً حتى قبل أن يقوله.
مثل أن يبدأ احدهم حديثه معك بـ شخص متعلم مثلك إلخ.. مما يضعك على الرغم من تعدد الاحتمالات داخل مسار محدد دون حتى أن تنتبه لهذا.
إن السيطرة على اللغة والتي يجيدها النظام وينافح أي محاولة من الأفراد أن يمتلكوا مثلها؛ هي الضمان الأقوى للحفاظ على سيطرته على البشر وتقويتها بما يخدم ويسير آلته كما يشتهي.
إن التحكم في الرغبات الجماعية والفردية وتوجيهها؛ يمثل إحدى الطرق التي ظلت تثبت فعاليتها على الدوام؛ ذلك أن هذا التحكم والتوجيه يستند على أرضية قوية من الغرائز التي تم كبتها وتحقيرها لتظل كالجمر الدفين قابلة للتوهج متى ما نُُفخ فيها. إن الآلة الدعائية الهائلة التي تروج لمنتجات (كمالية) تعتمد في مستوى عملها العميق على مداعبة المكبوت والمغطى ليتحول بكثرة الطرق عليه إلى محرك صغير يدير اللاوعي الذي وضع عليه النظام أقفالاً يمتلك هو مفاتيحها. فالجنس يصلح مثالاً جيداً لما نذهب إليه، كذلك نموذج الحياة المرفهة والذي غالباً ما يتم استخدامه من أجل الترويج لمنتجات غاية في الثانوية مثل بعض الأطعمة بما يوحي للمستهدف بأنه لو استخدم المنتج فقد ساوى بشكل ما بين طريقة عيشه وبين ما يراه عبر الوسيط الدعائي الذي غالباً ما يكون الصورة.
ينفق النظام الكثير من الوقت والجهد في صناعة النموذج الذي يريد أن يكون عليه البشر، النظام ممثلاً في أدواته الظاهرة كالحكومات والمؤسسات الدينية ونظم الأخلاق وغيرها. وعلى رغم الاختلاف الظاهري بين هذه الأدوات (المؤسسات) باختلاف الجغرافيا؛ إلا أن ما تطلبه هو ذات الشيء؛ ألا يخرج البشر من نطاق السيطرة، وكبح كل محاولة للرؤية من مكان مختلف. لذا نجد أن تعريف (المواطن الصالح) هو هو، في أي مكان، وكذلك تعريف المؤمن، والطيب، والمسالم. أيضاً بالضرورة أن تعريفات نقائض هذه المفردات هو ذاته في كل مكان، وهو ما يدفع للتساؤل: من أين تكتسب هذه التعريفات قيمتها وشرعيتها؟ ومن/ما أطلقها؟ ومن/ما حماها ويحميها بمؤسسة قانونية هي ذاتها يصح فيها التساؤل السابق؟
إن الدهشة لتعتري الفرد إن نظر بتفحص لكل ما يحيط به ويثقل حركته ويحجم رغباته و(يهذِّب) نزواته! وربما كان الانتباه لثقل القيود التي تثقل الفرد دافعاً لأسهل أشكال الخروج: (الجنون).

* صناعة الخطر.. صنعة السيطرة:
كما أسلفنا؛ يقتات النظام على الخوف، على الحاجة للأمن التي يصنعها عبر كل الآليات المتاحة، حتى الترفيه؛ أضاف النظام إلى دوره المطلوب؛ وهو محاصرة عملية التفكير التي سنتناولها، أقول أضاف النظام دوراً آخر للترفيه، وهو تعميق الإيمان بوجود الخطر، وتضخيمه، والإبقاء على الإحساس بفقدان الأمن حياً ويتم التذكير به عبر الوسائط الإعلامية.
إن الخطر يسمح بأن تُحكم السيطرة على من يراد تسييرهم وفقاً لمصالح لا تمت بصلة لمصالحهم الذاتية، ومن أجل أن يظل الخطر موجوداً ومهدداً لا يمكن إغفاله داخل حيز الوجود؛ ينتجه النظام على الدوام، بما يشكل صناعة تسهم فيها جميع أدواته على جميع مستويات الوعي الذاتي لدى الأفراد.
المسلسلات الدرامية، الرياضة، أفلام الكارتون، إلخ، كلها تحتوي على مركبات أولية للخطر يستخدم النظام هذه المركبات مع بعضها ليصنع وعياً موازياً يتم غرسه في عميق تربة الوعي البشري المستهدف بهذه العملية ضمن عملية كلية تقود إلى الهدف النهائي: الانقياد. ويتم كل ذلك عن طريق تحفيز ما غُرس قديماً عبر عملية التعليم وعبر سيطرة فقهاء السلطان على كل محاولات التمرد البشرية ومحاولات كسر النمط والتفكير (خارج السرب) والتي تُعد الخطر الأول على النظام وآلته الجهنمية.
إن العلاقة وثيقة بين الرضا، ونظرية الرزق المقسوم، وإعدام محمود محمد طه، واغتيال جيفارا، وغيرها من ردود أفعال النظام على الأنماط التي يجد فيها خطراً غير قابل للمعالجة. فمن أجل أن يجعلك النظام راضياً أو تسعى للرضا، فهو على استعداد لاستخدام كل الأدوات المتاحة لديه سواء أكان الدين أم قوانين الاجتماع أم التصفية الجسدية أم التصفية المعنوية وغيرها من الأدوات التي أثبتت على مدى التاريخ فعاليتها للحفاظ على المسار كما يراد له.
إلا أن أخطر ما يمسك به النظام كسوط يردع به من يفكر بالاختلاف، هو أمر متجذر بالغريزة لدى الكائن البشري: المعيشة. فسيطرة النظام على سبل كسب العيش وبالتالي تحكمه في حياة أو موت الأفراد؛ يعد أكثر الأدوات فعالية، إذ ليس من المسموح لك أن تكسب عيشك بعيداً عن سيطرة النظام، سواء أكان ذلك عبر ترسيخ المسلمة القوية باستحالة الانفصال عن بقية البشر، أم كان بالقوانين التي تطالك أينما حللت. ففي النهاية تم الإقرار بملكية (الدولة) للموارد الأساسية في الرقعة الجغرافية التي تتحرك فيها، أعني بالموارد الأساسية: الأرض، والماء، بل والشمس كذلك إن فكرت أن تخرج على سيطرة (الهيئة القومية) بصناعة كهربائك الخاصة!!
إن ما يحتاجه الإنسان في لاجدواه المريعة هذه المسماة بالحياة؛ هو أن يأكل ويشرب ويتناسل. هذا هو جوهر الوجود البشري إذا جردناه من كل ما أثقله به النظام من ثانويات حلت تدريجياً محل هذه الأساسيات، بل وصنعت – الثانويات- نظامها الخاص للحماية والذي يبين بشراسة الفرق بين (الحضارة) و(التخلف أو البدائية)، مدعوماً بنظريات تأخذ كينونتها من الميثولوجيا الدينية والاجتماعية القديمة والحديثة التي تجعل (الإنسان) مركزاً أول، منه تبدأ الأشياء وبه تنتهي.
لست أفهم لماذا وُجد الإنسان! وكل ما قيل لي من مبررات لم تشف غليل هذا السؤال، بل حتى الحرب المضادة على كل من يتساءل عن كنه هذا الوجود؛ لم تكن كافية لإماتة السؤال هذا؛ لأننا إذا استثنينا ما يفرق بين البشر فسنجد أن أولى المشتركات هي أن جميع البشر يأكلون، يشربون، يتناسلون، ويموتون! فأي شيء أكثر بديهية من أن هذا أساس الإنسان وكل ما يفعله في حياته غير هذه الأشياء هو فقط محاولة لفعل هذه الأشياء بطريقة أفضل!
لكن حتى هذه الأساسيات؛ وضع النظام عليها يده، فسيطر على الأكل والشرب، وسيطر على التناسل، وصنع من هذه السيطرة أداة للتحكم بالناس، فعليك ألا تعادي النظام لتأكل وتشرب وتتناسل، مع ملاحظة أن هذه الأمور لفعلها تحتاج إلى الأمن، الأمن الذي أقنعنا النظام أنه هو فقط من يوفره لنا.
* النظام يدجن الشعراء
كانت خطورة اللاعبين باللغة على النظام؛ تكمن في أنهم يشاطرونه السيطرة على مقاليد اللغة في الوقت الذي لم يكن النظام قادراً على إحكام السيطرة عليهم مما جعله يلجأ لمحاولة صرف انتباه الناس إلى أشياء بديلة، وهو الأمر الذي بلغ أوج نجاحه الآن، فالقنوات الفضائية وأساليب وأدوات تحصيل المعرفة البديلة للقراءة (من الكتب)؛ تشكل البديل الذي حيَّد نهائياً لاعبي اللغة (شعراء، أدباء، خطباء،... إلخ) بل وتم حصرهم داخل جدران ضيقة يتعاطون فيها ألاعيبهم اللغوية التي انصرفت إلى ما لا يهم النظام حقاً.
إن الشعراء ظلوا ولظروف تحيط بمفهوم الشعر؛ الأكثر خطراً على الأنظمة، مما حدا بآلة النظام أن تشن عليهم حرباً طويلة وهادئة أنضجت في آخر الأمر المفاهيم التي سادت عن الشعر وماهيته ولغته. أتحدث هنا عن شعراء في سياق يختلف عن محجوب شريف أو أحمد فؤاد نجم وغيرهما ممن احتوتهم أنظمة منافسة (على المستوى الثانوي) للنظام القائم، لكن في النهاية كل الأنظمة مبنية على ذات الهدف: السيطرة على الإنسان وتوجيهه بما يخدم آلة ضخمة تخدم بدورها قلة من البشر.
إن أعظم خدعة نفذها النظام كانت هي إقناع الشعراء أنهم فوق الآخرين، أنهم الأعلى، أنهم المنتجون والبقية متلقين فقط، مما أدى آخر الأمر إلى نجاح النظام في تحييد من يشاطرونه السيطرة على مقاليد اللغة وذلك بأن صرفهم لينزووا داخل شريحة ضيقة نزع عنها آليات التأثير على المحيط.
* لا تفكر.. لا تفكر
إن محاصرة عملية التفكير؛ كانت مهمة أنيطت بنظام التعليم والذي هو على علاقة معقدة بنظم أخرى ومقولات في غاية القوة مثل: التربية، الأسرة، المجتمع،...إلخ. ونظام التعليم تم توجيهه بما يخدم هذه الغاية: محاصرة التفكير، فهو مصمم تماماً لإنتاج وعي محايد في أحسن الظروف، ناهيك عن مهمته الأولى في تعطيل ملكة التفكير الحر مقابل تنمية قدرات التلقي والتفكير المضبوط وفقاً لعملية إعادة الإنتاج الممتدة التي بُنيت حول جوهر فاعل هو التلقين. في النهاية يتم ترسيخ مفاهيم الطاعة، والقبول، والرضا ضمن الوعي الفاعل لمن صنعهم نظام التعليم هذا.
إن نظام التعليم؛ وهو من الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام، مثله مثل المؤسسة القانونية والمؤسسة الدينية والتراتبية الاجتماعية، هذا النظام لا يكتفي فقط بمسخ البشر وتحويلهم إلى كائنات ذات قابلية للاستعباد؛ بل إنه يحول الفرد إلى رقيب على ذاته وعلى غيره بما يحمي النظام من أي محاولات لاختراقه، وهو دور لا ينتبه إليه أحد، طالما أن داخل كل منا (عميل) بشكل ما يمنعنا من الولوج إلى حيث لم نلج من قبل داخل حقل التفكير في ماهيات الأشياء وجدواها.
دائماً هنالك نخبة، هي التي تقرر عن الجميع ما هو صالح وما لا يجب التعرض له، هذه النخبة تراعي مصالح غامضة تؤدي إلى نتائج غامضة بالنسبة إلى السواد الأعظم، عندما تضع أو (تؤطر) أو (تقنن) ما يشكل مسارات الحركة داخل النسيج الاجتماعي المصنوع والمصمم ضد الاحتجاج، ضد الخروج، ضد الاختلاف، إذ أن الهدف الظاهري الأول الذي تحاوله أنماط السيطرة هو: التماثل! هذا في الوقت الذي تعمل آليات مضادة من أجل اللاتماثل. هذا التناقض بين الرغبة في ان يصبح البشر كلهم نسخاً من نموذج واحد كامل، والرغبة التي تشكل محركاً لتسلل (فيروسات) السيطرة إلى الوعي، وهي التميز؛ هذا التناقض يقود إلى نتائج وخلاصات تصنع الإطار الذي يعيه المسيطر عليهم، منها أن التميز مرضيٌّ عنه طالما أنه داخل حدود وسيطرة النظام، بينما التماثل غاية أسمى حينما (تتطهر) النفس من (الهوى) إلخ غبار الميثولوجيا!!
وبين هذين التناقضين، توجد القوة المثبطة التي تحفظ اتزان النظام بالنسبة إلى البشر بما يكاد أن يكون معادلة رياضية تشكل قانوناً يمكن الاعتداد به.
إن خطورة التفكير على النظام تدفعه دفعاً للتحايل على ممارسته، فإذا نظرنا إلى ما حولنا نجد ان كل غرض، كل خطاب، كل أدوات (التهذيب) والتشذيب؛ موجهة نحو إلهاء الناس عن التفكير، بل إن الأدوات الأشد عنفاً توجه لسحق ذلك النوع من التفكير الذي ينحو لاكتشاف طرق أخرى ومسارات مختلفة للعيش مما يهدد مسلمة النظام الأثيرة: نحن نعيش لأن النظام يستفيد من طريقة عيشنا. فإذا ظهر احتمال بأن تظهر طريقة مختلفة للعيش فإن النظام إما أن يحتويها ويدمجها داخل أقرب السياقات إليها، أو أن يحاربها بكل شراسته وعنفه، ولنتذكر هنا أن النظام هو من صنع العنف، وهو صانع الرعب الأول والأوحد.
* لا تتخيل.. لا تحلم
بقوة الخيال فقط؛ استطاع التفكير أن ينفلت مرات من ربقة السيطرة المطلقة للنظام، لكن حتى الذين حلموا أحلاماً (وردية) كما يقال؛ لم ينجوا من محاولات تحييدهم، جون لينون مثلاً حُيِّد بطريقة تكشف تماماً كيف يصنع النظام العنف، وكيف يوجهه بأصابع خفية. إنني لا أجد فرقاً بين قتل جون لينون، وإجبار البائعات في سوق الناقة على شراء مقاعد وأدوات من شخص بعينه، وذلك بقوة القانون مثلاً، ولا أجد فرقاً كذلك بين الخدعة الكبرى المسماة إصدار العملة، ومطاردة باعة الأرصفة الذين يبيعون بأسعار أقل من المحلات التي تغذي النظام وتسهم في تثبيته (مالياً على الأقل). إن كل أدوات النظام وأذرعه تحمي امتيازات ومصالح بعضهم، لكن.. من هم هؤلاء الـ(بعضهم)؟
دائماً أنا مجبر، مجبر على العمل، مجبر على التفكير في ما لا معنى له بالنسبة لي، مجبر على الحذر، مجبر على التذمر، مجبر على كل شيء! ولماذا كل ذلك؟ لأن هنالك من يستفيد من كل الأشياء التي أنا مجبر على القيام بها. وإن رفضت؟ حينها تتوجه الآلة الهائلة نحوي. قد يتهمون الخارجين على النظام بالتمرد، أو بالجنون، أو بالزندقة، إلخ، وذلك تمهيداً لعزل العناصر التي يخشى أن تؤثر على عناصر أخرى بما يصنع خطراً على النظام.
* لا تستيقظ.. وإلا..
منذ الأسئلة الطفولية الأولى التي تعرض من يسألها للضرب؛ وحتى الأسئلة الناضجة بكآبتها الخانقة والتي تعرض من يسألها للحذف؛ مشوار طويل يقضيه المرء محاولاً مقاومة النوم الذي يدعو إليه كل ما حوله. مطلوب منك ألا تستيقظ، عندها تصبح مواطناً صالحاً، وشخصاً ناجحاً، وصاحب (سيرة عطرة)، بل ربما تمت ترقيتك لتصبح من تروس آلة النظام الأكبر، وربما سُمح لك أن تشكل نظامك الخاص الصغير الذي يرضي رغبتك الذاتية ويسهم في ذات الوقت في ضخ دماء جديدة على آلة النظام ككل، بل ربما سمح لك ان تشكل مؤسسة داعمة للنظام، أو أن تصبح جزءاً من مؤسسة قائمة بسلطة كبيرة. كل هذه إغراءات لتظل نائماً، أما إذا استيقظت؛ عندها سيحاربك النظام، سيحاربك عملاء النظام الذين يحتلون أجساد نسيجك الاجتماعي الصغير، العملاء الذين يسكنون جسد أبيك، وجسد أمك، وأختك، وأخيك، وصديقك، كلهم يرسل إليك الرسائل لتعود إلى (الطريق القويم)، مستخدمين الأسلحة الناعمة في البدء: الحنان، الخوف عليك، توظيف القيم المعنوية كالأبوة والصداقة والأمومة، بعدها ينتقلون إلى أسلحة أقوى: المقاطعة، العزل، تغيير المعاملة، وكل هذا قبل أن يسلموك إلى المجتمع، الذي سيسلمك إلى المؤسسة القانونية، وعندها ستكتشف كم كان النوم مريحاً وأنت تقترب من الحذف أو العزل سواء بالقتل أو السجن.
ما حاولنا تحسسه؛ لا يزيد عن كونه وصف سطحي عابر لآلة تطحن بلا توقف. قد تكون هذه رؤيتي لوحدي، وربما أحس بها غيري، وربما أكرر ما قيل سلفاً بطريقة أخرى، كل هذه احتمالات لا تلغي في ظني محاولة الولوج إلى تعقيد الآلة، إلى النظام وأدواته، والنظر إلى كل ذلك بعين الريبة.
فلنتذكر هابيل وقابيل، داود، الحروب، الحرية، ولنلمس إلى أي مدى كان النظام دائماً هو صانع العنف، هو مانح الامان واللاأمان في ذات الوقت. ولنفكر أكثر من مرة: أين تذهب قوة عملي؟ وعلى ماذا أحصل مقابلها؟ إن الحياة هي الحق الوحيد، فلماذا أُسلب هذا الحق إلا بمقابل؟ ولماذا تُحدد حياتي سلفاً كأنها نسخة من حياة أخرى؟ لماذا لا أستطيع فعل كل ما أريد؟ لماذا أواجه بالتعقيدات في كل شؤوني التي تتقاطع مع أذرع النظام؟
هذه أسئلة عفوية، بسيطة، ساذجة لفرط بداهتها، ولكن..
* أخيراً..
أي قوة للكلمة!
قد ينظر ناظرون إلى كلمة (تخدش) وكأن بها نتوءات شريرة لم يلحقها التهذيب أو تجاوزها أبو اللسان الأول، ذلك الذي وضع نطفة اللغة في رحم الوعي لتخرج شجرةً يستظلها طير المعنى مفرخاً كل ساعة أشكالاً من المجاز والكناية والبلاغات بأبوابها تاركاً لمن ادعى بذر البذرة الأصل نبشه عن الجذور التي إن وصلها قتل الشجرة.
من يخاف اللغة؛ يخاف عقله.
من يهذبون اللغة؛ يختنونها، لا يقتلون ما يوصف.
من يظنون؛ ينسون أن الظن كيمياء بحاجة إلى الكلمة ليدركوا ماذا يعتريهم عندها.
كل ما يقال، ما يكتب، ما يفكر فيه، كله تكرار الإشارات ذاتها بصعوبة زائدة في انتظار ميلادها لتعفر وجهها بصوت الوطن.
الكلمات وطن اللغة، تولد فيه بعد أن كانت تجول في تيه بلا أبعاد، وبلا كينونة.
المعنى الظل؛ وما لا ظل له لا بقاء له.
* أخيراً جداً..
Imagine there's no countries
It isn't hard to do
Nothing to kill or die for
And no religion too
Imagine all the people
Living life in peace...
(John Lennon- imagine)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...