محفوظ بشرى
لم أستطع حتى اللحظة؛ هضم الأسباب والمبررات لوجود السلطة، أنا أتحدث عن السلطة بإطلاقها، سلطة النظام، وليس عن (الحيكومة) مثلاً وأذرعها وأدواتها التي تمارس بها السلطة. أقول إنني لم أستطع فهم ضرورة السلطة، ولم أجد تفسيراً مريحاً لوضع أن بعض البشر يتحكمون في بشر آخرين، بدعاوى مختلفة تدور حول حاجة البشر لمن ينظم أمور حياتهم ويمنع تعديهم على بعضهم.
الشيء الوحيد الذي خطر على عقلي القاصر عن بلوغ المرامي البعيدة للأمر؛ أن السلطة هي سيطرة قلة على الغالبية من أجل مصالح هؤلاء القلة. هذا بتبسيط شديد.
هنالك دائماً من هم أرفع منزلة، من يسنون القوانين التي يفصلونها بحسب احتياجاتهم، من يصنعون الذوق العام، الموضة، الاتجاه العام للتفكير الجمعي. هؤلاء هم الذين بيدهم السلطة، هم من يحددون من هو (الحرامي) ومن هو (الشريف)، هم من يحددون ما هو (الخادش) وما (المتسق)، وكل ذلك بناء على تعريفهم لهذه المفاهيم، والذي تحميه أدوات وأذرع مادية ومعنوية تشكل كلها آلة هائلة، موضع المسيطر عليهم فيها موضع التروس الصغيرة التي تعمل دون أن تعرف ما الذي تنتجه الآلة ولا إلى أين تتجه.
دعونا ننظر إلى بعض أنواع السلطة، ودعونا نكتشف إلى أي مدى صرنا مدجنين لحماية مصالح وامتيازات فئة مسيطرة نخضع لها دون وعي، ونخدمها دون أن نحس بذلك.
يظل العرف الاجتماعي سلطة نموذجية يمكن النظر فيها لمعرفة كيف هو بنيان السلطة المطلقة للنظام، التي يشكل العرف جزءاً من آلتها، فالعرف الاجتماعي سلطة مركبة؛ إذ أنها تحمي وجودها بمقولاتٍ إما أنها غير قابلة للاختبار؛ أو لا يُسمح باختبارها. بمعنى أن هذه المقولات تشكل في مستوى من مستوياتها منطقة مسيجة بالمحاذير التي تجعل الاقتراب منها ودراستها أمراً شائكاً وعلى شيء من الصعوبة، بينما على مستوى آخر تشكل ذات المقولات تابوهات دينية أو عرفية ذات بنية أسطورية عدائية وصارمة في التعامل مع من يحاول الاقتراب منها.
وكمثال: المقدس غير القابل للنقاش؛ غالباً ما يكون هو المقدس الذي له تأثير مباشر على استقرار نمط العيش، أو يلمس بشكل ما سلطة النظام وذلك بالكشف عن احتمالات جديدة تجعل من الذين يقع عليهم القهر أكثر من أدوات تُستخدم لحماية فئات مسيطرة. إذ أن هنالك مقدسات لا تمس تلك الآلة الهائلة التي أشرنا إليها؛ وبالتالي من المسموح للبعض بالنبش فيها.
إن المجتمع هو خط الدفاع الأول القاعدي عن سلطة البعض، فإذا تجاوزه أحدهم؛ فسيجد في وجهه الخط الثاني، القانون، وإذا تجاوز القانون – وهذا لا يكاد لا يحدث – فسيجد الخط الثالث، القوة، والتي ليس من المرجح أن يفلت من تصفيتها له، وإذا أفلت؛ فسيجد أمامه خطوط دفاع أخرى أقواها الخط الأخير، وهو أن يتم استيعاب الوافد الجديد داخل الآلة بصورة أخرى يظن أنها أفضل له، وهو أمر مدعوم منذ البداية بمفاهيم كونت لديه بالتعليم والإعلام الموجهين ضده، فيصبح هو ذاته ضمن الفئة التي تحرك الأمور.
لو نظرنا إلى السلطة الواقعة علينا، أو بعضها، فسنفاجأ بهذا القهر الثقيل الذي نحمله على أكتافنا، وكمثال: سلطة الدولة، وقانونها،والتي تحدد لك من تكون، وبيدها سحب شرعية وجودك ذاته إن شاءت، وتحدد لك ماذا تأكل وماذا تشرب وماذا تلبس ومتى تنام وماذا تتعلم وكيف تنجب ...إلخ. ثم سلطة المجتمع التي تفرض عليك كيف تتحدث وفيم تفكر، وكيف تسير، ومن تتزوج وكيف، ...إلخ، ثم سلطة الأب، والأخ الأكبر، والأم، والأسرة، وهذه سلطة عاطفية بشكل كبير.
وهذه السلطات كلها متداخلة ببعضها إذ أنها في مجموعها تشكل الآلة التي نتحدث عنها،النظام، وهي مكملة لبعضها، وكل منها تمتلك أدواتها التي تفرض بها رؤيتها لما يجب أن يكونه الفرد الواحد، مدعومة بسياق كامل وقوي من المقولات والمفاهيم والأعراف والبنى الأسطورية التي تسيج كل ذلك وتمنحه اسماً وتمنح الفرد في الوقت ذاته إحساساً بالرضا لانتمائه لهذا النسيج، بل يحس الفرد بالرضا عندما يؤدي واجبه في خدمة هذه الآلة التي يستفيد منها قلة من البشر.
منذ أن يولد الإنسان؛ يضع (النظام) يده عليه؛ يحقنه بالمفاهيم الأولية عن ضرورة السلطة لحمايته، ولأن النظام مصمم أصلاً ليحتاج الفرد دائماً لآخر يحميه؛ لذا فإن التجارب الأولى للطفل مع التنمر والتحرش ممن هو أقوى منه؛ ترسخ لديه صدق المقولات التي تكرس لضرورة وجود السلطة والنظام، فلنتذكر أن النظام هو صاحب السهم الأعلى في صنع النزعة العدائية، ولنفكر في احتمالات أن العداء ذاته حتى لو كان طبيعة بشرية تماماً فهذا لا يعني أن النظام هو الحل الوحيد للحماية منه.
يدخل الطفل إلى المدرسة، والتي تشكل (مصنعاً) أولياً لصنع التروس التي تحتاجها الآلة، كما تشكل كذلك مصنعاً للفوضى اللازمة لخلق شرط بقاء ذات الآلة. فالمدرسة هي التي تصنع من سيصيرون يوماً ضمن الفئة المسيطرة، ومن سيصيرون تروساً لآلة هذه الفئة، ومن سيصبحون خارج النظام لتأكيد الحاجة للنظام في حماية نسق الحياة منهم. إن المجرمين، والخارجين على القانون،والمجانين، والمرضى النفسيين، وأشباههم من الفئات خارج الاتساق العام؛ كلهم يصنعون بقصدية صارمة كجزء لا بد منه لوجود النظام، كوقود لآلة السيطرة الضخمة، ولهدف آخر على قدر من الأهمية، وهو أنهم يشكلون السبب الظاهر لمشروعية النظام، وهو السبب الذي يتم توجيه النظر إليه إعلامياً ليغطي على الأسباب الحقيقية لوجود النظام.
ليس للنظام مركز محدد يشكل بؤرة التحكم، بل هو مثل الجسد متعدد الأرؤس، لكن كل أجزائه تعي أن من واجبها حماية الأجزاء الأخرى.
ثمة علاقة لا تنفصم بين (الدولة)، و(المعتقدات)، و(العرف الاجتماعي)، و(الأعيان). إن مُس أحد هذه المكونات؛ تحركت أذرع السلطة على الفور للدفاع عنه، إذ أن سلامة أي جزء هي سلامة للأجزاء الأخرى.
في المدرسة؛ يبدأ تلقين التلاميذ منذ البداية أهمية التراتبية، وأهمية العمل، واحترام التقاليد. ويستمر المنهج التربوي في تشكيل وتكوين تلك العجينة المرنة لتصبح في نهاية الأمر مشكلة بما يخدم من يقبعون في قمة الهرم. عندما ينتهي الفرد من مراحله التعليمية يكون طموحه ألا يصبح خارجاً على الاجتماع، وفي ذات الوقت يوارب له باب الحلم بأن يحصل على المميزات التي يتمتع بها من هم في القمة الاجتماعية. وهذا يخلق تناقضاً غير خلاق، يجعل من الفرد أداة سهلة القياد باتجاه ما يريده الذي يتحكم بها. فالناظر إلى أحلام من أكملوا (تعليمهم)؛ يجدها لا تخرج عما تم غرسه في أذهانهم منذ وقت مبكر عن ما هو (النموذج) الذي يجب أن يتطلعوا لأن يكونوه! هنا يبدأ الفرد بمحاولة (الترقي) في السلم الاجتماعي، من غير أن ينظر إلى ما يوجد أسفله، فقط ينظر إلى الأعلى، دون أن يملك أدنى فرصة ليرى أنه ترس في آلة وجدت لخدمة البعض على حساب البعض الآخر.
إن أخطر ما في السلطة؛ هو مقدرتها على التخفي، فأنت لا تكاد تنتبه إلى أن كل ما تظنه خيارك تم اختياره لك منذ وقت مبكر، ولا تكاد تنتبه كذلك إلى أن الطريق الذي تسير فيه تم وضعك عليه و(تسييرك) دون أن يكون لك رأي في هذا,
فدائماً ما نجد عدة أوجه للسلطة، لا نرى (أو لا يُسمح لنا أن نرى) إلا وجهاً واحداً، وهو على الأغلب الوجه الذي يحمل شبهة أننا نستفيد منه بصورة ما، فأنت ترى الشرطة، ولكن لا ترى من خلف الشرطة، ترى الجيش، ولا ترى من خلف الجيش، أي بعبارة أخرى أنك ترى الأذرع، ولكن من غير المسموح لك أن ترى الوجه أو الجسد الذي يملك تلك الأذرع.
يقتات النظام على الخوف، دائماً الخوف، خوف مباشر من العنف مثلاً، أو خوف كامن، من المستقبل مثلاً. إن النظام يدرك جيداً أن الخوف يمثل شرط وجوده؛ لذلك ليس من مصلحته أن يقضي على الخوف، ولا أن يعالج مسبباته؛ يجب أن تظل الحاجة لوجود النظام وآلته القاهرة حية، وعلى الناس استشعار حاجتهم للنظام دائماً، وهو الأمر الذي يجعل من النظام أكبر مفرِّخ للخوف وعدم الأمن.
وإن كان الخوف هو الوقود الذي يجعل النظام حياً؛ فإن النظام بسيطرته على حياة البشر مباشرة يكسب شيئين: أولهما أنه يصنع أسباب ودوافع العنف بتحكمه في (المال) وتوزيعه، بحيث يضمن دائماً وجود من يملكون مقابل من لا يملكون. الشيء الثاني الذي يكسبه النظام؛ هو حفاظه على استقرار العلاقة بينه وبقية المستغلين (بالفتح)، إذ أنه من يعطي الأشياء الضرورية لحياة البشر قيمتها مقابل أوراق يسميها النقود! إذن فعلى كل من يرغب بضمان عيشه أن يلتزم بالنظام، أو لن يكون أمامه إلا الخيار الآخر، أن يكون خارجاً عليه، وهو أمر كما أسلفنا يستفيد منه النظام كذلك.
هنالك مكافآت يقدمها النظام لمن يؤمن به، ويدافع عنه. وهذه المكافآت لا تقتصر على الجانب المادي والرفاهية فقط، بل أهم من ذلك؛ إذ أن النظام يمنح البعض صك الدخول إليه والذي يترتب عليه مقدار من السلطة الممنوحة لأولئك الذين تقدموا باعترافاتهم الرمزية بالنظام وتم قبولها. وكمثال على ذلك؛ إن الذي يتقدم لنيل درجة الدكتوراه؛ يقدم فروض طاعته للنظام، وتتمثل في التزامه المنهج (المتعارف) عليه للحصول على هذه (الدرجة)، والتي يعني منحها له؛ مقداراً من السلطة (المعرفية) أو (العلمية). إذن هي علاقة تبادل بين النظام ومن يتقدمون بطلبات عضوية رمزية للدخول إليه، هم يدافعون عنه، وهو يمنحهم سلطة أنهم (يعرفون) أكثر من غيرهم عن حقل ما، ما يجعلهم (مرجعية) في هذا الحقل.
والأمثلة مثل هذا كثيرة لو أمعنا النظر فيها، لكن تبقى العلاقة بين النظام وسلطته؛ وبين الأفراد الرافضين أو الراغبين هي ذاتها.
من بين السلطات المتخفية كذلك؛ سلطة البداهة! فأن تقول (رجل الشارع العادي) مثلاً؛ تحيل إلى بداهة لا يتوقف عندها المرء كثيراً ليرى كيف تتجلى السلطة القاهرة في هذه العبارة البسيطة. ومثلها كثير، بل إن أول ما أحكم النظام سيطرته عليه هو اللغة، خالقاً منها أداة أخرى لتعزيز سيطرته وفرض سلطته على تلك التروس التي تحر ك آلته الهائلة بما يحقق مصالحه وبما يحمي امتيازاته، ممن؟ من هذه التروس ذاتها!!
قيل قديماً إن من لا يجيد اللعبة الاجتماعية سيصبح إما شاعراً أو ثائراً أو مريضاً نفسياً. وهذه العبارة إلى حد ما صحيحة، فلو نظرنا إلى هؤلاء الثلاثة؛ فسنجد أنهم يمثلون شكلاً من أشكال الخروج على النظام، وللنظام أسلوبه في نعت كل منهم بصفة توضح مدى خطورته، فغالباً ما يُنعت الشاعر (بالتهويم) بمعنى أنه منفصل عن الواقع أو (مثالي)، أما الثائر؛ فينعت بوضوح بالتمرد أو العمالة أو الكفر أو الزندقة، وهي كلها إشارات توضح وجوب القضاء عليه، أما المريض النفسي؛ فيتم عزله ببساطة عندما يُطلق عليه اسم (مجنون)!
كل هذه الوسائل؛ هي ببساطة سياجات لحماية وجود النظام مثلما أوضحنا في البداية، لكن أهم سياج يحمي النظام؛ هو ما اصطلح عليه بـ(عنف الدولة)، إذ أن النظام يمنح نفسه الحق في أخذ حياة من يشكلون خطراً على وجوده؛ هذا من جانب؛ كذلك الحق في أخذ حياة صانعي الخوف من أجله، وذلك كي يُري أنه يقوم بواجبه في الحماية، وأن الحماية لا تزال مطلوبة، أي أن الفكاك من ربقة سلطة النظام أمر غير وارد ضمن آلياته.
اللغة غير محايدة؛ وهذا يجعلها تصلح أن تكون أداة بيد من يحسن السيطرة عليها، وتحضرني هنا قصة الخطاب الذي أرسله عبد الحميد كاتب مروان الحمار؛ إلى قائد الثوار أبي مسلم الخراساني؛ والذي كان هو ذاته كاتباً يعرف جيداً مدى قوة تأثير الكلمة مما حدا به أن يحرق الخطاب قبل قراءته. لكنني أتحدث هنا عن مستوى آخر للغة، ذلك المستوى الذي تصير فيه أداة تعريفية، أو إقصائية، أو ذات أبعاد خادعة تعمل على تغييب الوعي عن طريق خطاب مرسِّخ للمسلمات المراد ترسيخها. بعبارة أخرى؛ إن من يتحكم في وظيفة اللغة؛ يتحكم في الوعي العام. من هنا ركز النظام من نشأته الأولى البدائية؛ قبل سموه فوق مفهوم (الدولة) القديم؛ على إحكام قبضته على اللغة، ثم المعرفة، مما أتاح له التمكن من مخادعة الوعي الجمعي لينصرف عن حاجاته الأساسية وحقه في الحصول عليها؛ إلى حاجات بديلة لا تشكل تهديداً حقيقياً للحياة حال عدم الحصول عليها.
إن الإعلام هو الذراع الناعمة للنظام، هو من يصنع الصورة البديلة التي ننظر إليها وننشغل بها عن الصورة الحقيقية، وفي سبيل هذا؛ دُجنت الفنون، ووسائل الترفيه، والإعلانات، كل ذلك بمصاحبة (رشة ملح) خفيفة للتعمية، وإظهار أن هنالك وجهات نظر أخرى.
ولا اختلاف بين (المسلسل) وما يبثه من مفاهيم ورسائل؛ وبين (كتابي الأول) الذي كان يدرس في وقت ما هنا، والذي يشبه دعاية (لوكس)، في الترسيخ للمفهوم الكامن في العقل عن الجمال والرفاهية ونموذج الحياة الكاملة.
إن كثيراً ممن يتحلقون كل مساء أمام شاشات التلفاز؛ أو يقرأون الصحيفة الرياضية بلذة؛ لا يعون أنهم يدخلون قسراً إلى عالم افتراضي بديل، مصمم بعناية لإشباع الحاجات النفسية بما يطفئ فتيل أي ثورة يمكن أن تشتعل في النفس حال الانتباه إلى جفاف العالم الحقيقي، عالم من أهم وظائفه منح الرضا للجميع، فالرضا يظل هو الهدف الأسمى الذي يحاول النظام أن يغرسه في النفوس، سواء أكان ذلك بالنصوص، أم بالترفيه، أو أي وسيلة أخرى تحقق التنفيس لتلك الآلة البشرية.
إن مفاهيم الخير والشر؛ تم التلاعب بها بحذق بحيث صار الشر مرتبطاً بالعصيان والخروج، فكل من يقوم بممارسات من شأنها بدء تمرد وسط (التروس)؛ يوصم بأنه شرير. وكل من يحافظ على ثبات قوانين النظام؛ هو بالضرورة خيِّر. وهذا الإبدال أقصى جوهر النظرة للخير والشر؛ الذي كان يقوم على النظر لمدى الإضرار بالآخرين، وفقاً لمعادلة تعتمد حركة التغير والتطور الحتمي الذي تصنعه حركة التاريخ.
بقي أن نقول إن الرغبات الدفينة التي تنفجر من حين إلى آخر، والتي تتخذ عدة أشكال (تنفيسية) مثل أن تشجع فريقاً ما بجنون، وبما يشبه حالة من الإيمان؛ وغير ذلك من أشكال الإدمان (العاداتي) المنتشرة بكثرة وسط الاجتماع البشري- كلها تعبر عن حاجة مفقودة لدى الفرد، وفوق فقدانها فهي تقع داخل بعد تم اجتثاثه من نظام التفكير المدجن الذي خضع إليه الجميع (تقريباً)، الأمر الذي يجعلها غائبة و(غير معرَّفة) –إذا استعرنا اللغة الحاسوبية- مما يشوش على الوعي الذي يحاول معالجتها بتوجيه هذه الطاقة (غير المعرفة) باتجاه اعتقاد ما، أو رغبة تحقق لذة تكفي للتغطية على إشارات التشويش تلك. وعلى كل حال، إن أعظم ما نجح فيه النظام، هو خلق رقيب ذاتي ينوب عنه في التحكم باتجاهات التفكير لدى الأفراد دون أن ينتبهوا حتى إلى الآلية (المدهشة) التي يقفزون بها فجأة إلى نهايات محسومة لكل التساؤلات التي تفلت أحياناً من القبضة الفولاذية للنظام.
خلاصة ما أراه؛ أن هنالك من يستغلونني لتتوفر لهم حياة رخية بلا جهد، وهم فوق استغلالهم لي؛ يخدعونني بأن استغلالي هو واجب مقدس عليّ تأديته. ثم بعد كل ذلك يقفون بالمرصاد لأي محاولة مني للفكاك من هذا الاستعباد. غير مسموح لي أن أختار، فقد تم الاختيار سلفاً نيابة عني. غير مسموح لي بالتساؤل؛ فقد صيغت كل الإجابات من قبل مولدي. ليس مسموحاً لي أن أحيا كما أريد، فقد حُددت مهام حياتي مسبقاً!
هذا هو الحال، وربما أسوأ، فما أكتبه ليس أكثر من تحسس لقفل باب يؤدي إلى بلاد العجائب.
فلنقف قليلاً لنفكر في المبررات التي تم تلقيننا إياها عن لماذا نفعل ما نفعله بهذه الطريقة، ولنفكر قليلاً في النقود، السلطة، التقاليد، الشرف، النزاهة، السرقة، القتل، العنف،... إلخ المفاهيم والمقولات التي تحدد مسارات حيواتنا، ولنفكر: هل النهايات التي تؤدي إليها طريقة عيشنا؛ هي النهايات التي نرغبها بالفعل؛ أم إنها التي يراد لنا أن نرغب فيها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق