الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

والذي يعرف أحمد..

محفوظ بشرى

(والعشب النحيل ذو الملمس الخشن/ يجلس في الصفوف الأخيرة/ لا يصفق لأحد/ ولا يذكره أحد في خطبة الوداع)
- عاطف خيري -
كم بعيد كل ذلك! عبر خصاص الذاكرة؛ يغويني الانسلال إلى نهارات الجنوبي ذات الأزيز الناضج، ذلك الذي يدبغ الأذنين باحتمالات سماع مفتوحة على كل أفق. قد يقولون عنه إنه جنوبي الثورات الأسطورية الميتة، وجنوبي العشاق المنكسرين، وجنوبي الشعر المرتاح وملاحم الانتخابات، جنوبي: شبشة، هيثم عمر، البلولة، مجدي بحر، سارة محيي الدين، الطيب الشريف، النيجيري، دكوك. مصنع السياسيين الذين افترسهم الإحباط قبل نضجهم، والشعراء قبل أن تسحقهم ممكنات الوجود. قد يقولون كل ذلك، وأكثر؛ لكنه يظل عندي جنوبي أحمد.
أحمد محمد حمدنا الله محمد أحمد، الاسم المقروء من الجانبين، الرمز الذي يخبئ خلفه أفضل ما أنتجت الجزيرة: الولد الهادئ، بصوته ذي الارتعاشات الخفيضة، والبطء المريح لمخارج الكلمات. العينان النفاذتان، كما السيف؛ تخترقان، توحيان بفطنة مرعبة وتزلزل.
لم أدر أوان تساؤلاتي المكبوتة التي أرسلها بالنظرات إلى الطيب الشريف؛ عن هذا الولد النحيل الصامت الذي يطرأ على طقس الغرفة 1×2 بداخلية البركل؛ فجأة، وبانسلال يفوق المباغتة، أنه سيصير أقرب من دمي إليّ. يلتقيه الطيب، يتبادلان حديثاً لا يعدو كلمات متناثرة، يغرق بعدها الولد النحيل في الصمت وعيناه اليقظتان تتابعان تفاصيل ما يجري مهما بلغت تفاهته؛ كان يقرأ الوجوه، يتابع حركات الأيدي التي تصاحب الكلام، لا يبتسم للدعابات الخشنة التي ينثرها ساكنو الغرفة في ما بينهم، ثم فجأة ينسل.
كان الجنوبي على اتساعه ضيقاً، لا مجال لدخول وافد جديد إلى مجتمعاته المغلقة دون أن يتم تمحيصه؛ لدواعٍ تتعلق بالتهجس الأمني في المقام الأول، وبالريبة التي هي الطابع العام للمكان، لذا ظل هذا الولد – الذي سيصير فيما بعد أهم من أثروا في كيف أرى- ظل لغزاً، لا سيما والطيب لم يشف غليلي بما يكفي عنه.
- اقعد معاه.. زول كويس.
لم أدر لمَ عليّ ذلك، بل لم أبد فضولاً لذلك بعدما عرفت أنه (زول كويس)، إذ كان هذا يكفي لتبديد تشككي غير المبرر تجاهه.
وفي نهار من نهارات الجنوبي النموذجية؛ صادفني، بادرني بالحديث، كان صوته خافتاً للغاية ولا يوحي البتة بما سيكون عليه بعد ذلك وهو يهدر بالـ(كولنج) داعياً إلى أركان النقاش والمخاطبات، مستخدماً قوة عارضة ذاكرته لاستدعاء مطولات حميد والقدّال وشعراء آخرين.
لا أذكر عن أي أمر تحدثنا، لكن أذكر ارتياحي إليه، أذكر دهشتي حين قرأ عليّ بعض ما كتب، أذكر ذاكرته النارية وهي تستدعي ما قيل في الكتب بنصه، ثم أذكر تلك البراعة المتناهية في التحليل والتعليق على الأفكار، أذكر قدرته في الوصول إلى المرامي البعيدة، وأذكر عينيه اللتين كان بإمكانهما اختراق فولاذ العقل؛ فتحس به يتجول داخل وعيك وبين طبقات نفسك.
الذي يعرف أحمد؛ أحد اثنين: إما ممتن لما فعله هذا الولد النحيل الذكي به وبطريقة تفكيره في الأشياء؛ وإما متجاهل لحقيقة أن هنالك من كان يسمى أحمد؛ مرّ على حياته بما أثر عليها ربما إلى الأبد.
الذي يعرف أحمد لا بد أن يتذكره وهو يشرح ما استعصى مما تحمله الكتب، أو يهدئ النفوس ويطفئ ما اشتعل من نيران بين الأصدقاء، أو بين الأحباء.
سريعاً انتقلنا للسكن سوية، ثم عبر سنوات من ذلك النهار الضاج؛ صرنا لا نفترق، يحمي كل منا ظهر الآخر، ننام معاً، نأكل معاً، بل ونفكر معاً. صرنا أقرب حتى إنه ليمر علينا اليوم بطوله دون أن نتبادل كلمة واحدة، لكن إن غاب أحدنا؛ أحس الآخر بنقصانٍ مؤلم. تحاورنا في كل شيء، في الدنيا والكون والدين والماركسية والأدب، وصلنا إلى نهايات مغلقة عدة مرات، لكننا كنا نعيد الكرة مرة أخرى. كان متديناً، يصلي خلفه من كان (يمسح بهم الأرض) قبل سويعات في ركن نقاش هو المتحدث فيه. كان واضحاً، يخافه من يقدسون المجاملات. كان واثقاً، إذ يبتسم أو يضحك؛ يحس الآخرون بأنهم أمام من يفوقهم عمراً وتجربة.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف كيف كان يشحذ تفكير الآخرين تجاه أي أمر ببساطة، بسهولة تدهش.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف ماذا يعني الإنسان، ماذا يعني الالتزام الأخلاقي، ماذا يعني العمق،ماذا يعني قبول الآخر، ماذا يعني تسخير ما تمتلك لخدمة الغير.
كأكثر مجتمعات الطلاب التي تعشعش فيها السياسة؛ لم يكن الجنوبي ذا مناخ يساعد على التعمق في المعاني الإنسانية الأكثر بعداً من مجرد روابط القربى البديلة، بين الزملاء، الأشقاء، الرفاق، الإخوان، أولاد وبنات الدفعة، إلخ. كان أحمد نشازاً وسط نفي كل جماعة لأخواتها، كانت له علاقات (بينية) تخترق الأسوار التي تضعها كل مجموعة حول ذاتها، حول كيانها-أعضائها.
كان الجنوبي هو الشعر في أواخر التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة، عدد يتناسل يومياً من الشعراء، أجيال مرت بالجنوبي وسمعنا الحكايات عن أفرادها، لكن في تلك الأيام، كان هناك الكثيرون،بعضهم من الجنوبي بحكم مكان الدراسة، وبعضهم وكأنهم يدرسون في الجنوبي كثرة ما يوجدون فيه: أحمد عبد الغفار، مصطفى عبد الله، هاشم يوسف، محمد إبراهيم، أيمن خليفة، مأمون التلب، أحمد الكباشي، أحمد محمد حمدنا الله، محمد حسن الدابي، عبد الرحيم حسن حمد النيل (أبو ذكرى)، وليد عوض، وغيرهم.
كنا نتلمس الطرق العمياء التي ستخرجنا من مشابهة غيرنا، وتخرجنا من أسر الحبيبات وهتافية الشكوى، إلا هو؛ كان يكتب وكأنما يصف تفاصيل لا ننتبه إليها،يغرق في الاختلاف، يحلل – كعادته – ما بين الجملة والجملة من تضاد، يلعب على تناقضات اللغة، على مفاجآت تتوقعها؛ لكنها في النهاية تخيب ظنك. لفترة ليست بالقليلة، ظللت أجد رائحته في ما نكتب ويكتبون، جنباً إلى جنب مع رائحتي درويش ودنقل الفاقعتين، أجد رائحة قصصه القصيرة في أشعارنا، أجد رائحة شعره في قصصي القصيرة، أجد رائحة دعاباته النقدية في كيف أفكر.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف (أكتينيا)، و(مليودراما رحلة ذكر النحل الأخيرة)، و(مقطع للبحر والغموض)، وغيرها من نصوصه الباكرة التي كانت بعيدة بمراحل عدة عن ما نحاول كتابته.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف (تفكيك آليات الخطاب المضاد)، وتنظيراته حول الطوطم والتابو لفرويد، ونقده اللاذع لنزعات حسين مروة المادية،يعرف كيف أن أحمد وهو يقرأ بسرعة تقليب الصفحات؛ يستطيع أن يسافر في تناقضات الكاتب غير البينة من أجل أن يعيد قراءة ما يختفي بين السطور.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف قدرته الماورائية على قراءة ما تخفيه النفوس، يعرف قدرته على إيجاد حلول باردة لسخونة المشاكل.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف كيف كان، يعرف ما الذي يحدث في الفضاء الكهربائي بينه وبين من يحاوره من شرارات إيجابية تمتص العنف والتعنت في الرأي، وتحويل النقاش إلى تبادل هادئ للآراء بدلاً من تحوله إلى منافسة بين أطراف على أحدها الربح.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف:
(جيفارا من يا صديقي/ وأبي في الستين/ لا زال يشعل النار في الموقد/ وينتظرني في العام القادم/ لأحضر الثقاب).
الذي يعرف أحمد؛ يعرف البنت التي (... كانت كقطةٍ مشوَّشة/ وكنتُ اللبن المسكوب على خط الأفق)، يعرف أن الليل كان سجادة زرقاء؛ وأحمد؛ كان المصلي الوحيد.
في شتاءات الجنوبي الغائمة؛ رفقة بدر الدين يس؛ الثوري الحالم، بجيفاريته الطفولية، وإحساسه الرقيق حد أن تُبكيه أغنية، مثلما يُبكيه مرأى الأطفال الذين يمسحون الأحذية، في تلك الشتاءات الطويلة التي تفرق بين المرء وصديقه؛ كنا نلتمس الدفء من بعضنا، نتماسك في وجه الضلالات السياسية غير الناضجة، نتآمر لصالح مناخ أكثر نقاء. يقرأ علينا أحمد ما تيسر من شعر، يدندن بدر الدين بما يجرح من غناء يحيل إلى الإضاءات الشحيحة في عتمة إنسانية غائبة، نقتلع احتمالاتنا من بين أضراس الفناء، نسخر من الحكمة العدمية للـ(سناير) الذين ينحنون كلما هددتهم عاصفة، يؤنسنا فهم عميق لخيباتنا، لقحل ما وراء النهايات، لضآلتنا فينا.
كان أحمد متكأ من ناءت به أوزار وجوده، من يبحث عن اتزان يبقيه على مقربة من الأشياء. صخرة أصدقائه، المستمع الأفضل، الناصح بلين، المؤاسي بلطف، الهميم كما ينبغي، الحسَّاس، القريب حين الحاجة، والمنجد في الملمات.
(... السلال، كيف تعول نفسها من الخواء)
إذ يقارع الحجة بالحجة؛ يكون فناناً يلعب باللغة، يصقل المنطق بالإيضاح، يستدعي مخزوناً لا ينضب من التفاصيل الصغيرة، يُعمل إبرة الديالكتيك رفواً في القطع المتناثرة، يعيد خياطة ما تقطّع بفعل مقص المسلمات، يقترح زوايا مغايرة للنظر. إذ يفعل كل ذلك؛ يتعلم الآخرون معنى أن تدقق في التفاصيل، أن تراها، تضعها في أماكن هي ذاتها ليست ثابتة، أن تواكب التحركات وتتوقعها.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف كيف (قلبوا) له ظهر المجن، تناسوه وكأن لم يكن، دفنوه، ودفنوا معه كل عوراتهم وما اطلع عليه من أوجههم التي كشفوها لديه حين ضعفٍ مثلما يكشف المضطر عورته أمام طبيب.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف كم كثر هم من يدينون له بما هم عليه من اتزان.
الذي يعرف أحمد؛ يعرف معنى الصبر.
أخيراً: الذي يعرف أحمد؛ يعرف من يكون.
(كنتُ موجوداً أوان البدء/ لم يفتني غير شدو العاصفة/ وأناشيد البراكين البريئة/ و.. قبلات الرياح
حينها_ إن لم تخني الذاكرة _/ كنتُ أولم للأعزاء/ فضيحتي وقريحتي/ والحب../ والآن/ لا شيء هنا/ لا شيء هناك..)
- شبشة -

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق