الأربعاء، 15 فبراير 2012

محمد آدم فاشر (2)



يقترح محمد آدم فاشر في مقالته (الثأر من كردفان والنيل الأبيض على جريمة شندي هو الفصل المبتور من التاريخ المسطور)؛ سيناريو مختلفاً للأحداث التاريخية التي صاحبت حملة محمد علي باشا على السودان. وهو سيناريو على درجة من الإمتاع ويصلح ليكون مرتكزاً لمزيد من التأمل في الأسئلة الحائرة التي تصاحب التاريخ (الرسمي) على أمل جلاء ما خفي منه.
يرى محمد آدم فاشر أن السبب الأول لحملة محمد علي على السودان كان القضاء على المماليك الذين نجوا من مذبحة القلعة وفروا إلى السودان مؤسسين مملكة قوية في دنقلا وما حولها. وعليه يقترح أن كل المقاومة والمعارك التي تعرضت لها الحملة كانت من عمل المماليك، وهو ما يرى أنه بُتر ممن كتبوا تاريخ السودان، ما أدى إلى ضياع فصل مهم يغير وضع الأحداث في السودان ككل.
ويستدل آدم فاشر بمعركة كورتي - مثالاً - التي قال إن التاريخ صورها على أنها معركة الصمود ضد المحتل. ويرى أن رواية وزارة التعليم السودانية (الرواية الرسمية) لا تحقق حاجة البحث العلمي الذي يحدد لكل معركة هدفاً من أربعة أهداف هي: دينية، اعتداء بغرض الحصول على المغانم، رد الحقوق، صد العدوان.
ويناقش آدم فاشر فرضية الوزارة بأنها لصد العدوان ويرى أن هناك عدة نقاط تقف في وجه هذا الأمر مثل: أولاً إنه بالمقارنة بحجم القبيلة لا يستطيع الشايقية حشد عدد كبير من المقاتلين، وليس هناك ما يدل على أنهم استنفروا القبائل الأخرى من حولهم. ثانياً إن انخراط الشايقية في حملة الخديوي كان طوعاً ووصفه بأنه حدث غريب في عرف الحروب لأن المواجهات العنيفة تترك مآسي من الصعب جداً عبورها في اللحظة إلى مرحلة الصداقة، وإذا ما أرغموا على الانخراط في الحملة وهو ما لم يحدث لأية قبيلة قبلها وبعدها فالأولى أن يتم تجريدهم من السلاح وهو ما لم يحدث.
من هذه الملاحظات يقترح محمد آدم فاشر أن ما حدث لا يمكن قراءته بمعزل عن دور المماليك وأنهم قاوموا الحملة في معارك طاحنة كانت من ضمنها كورتي حيث حملوا الشايقية على القتال معهم وعندما انهزموا جنوباً انضم الشايقية إلى الباشا لملاحقة المماليك. ثم أورد رواية أخرى تقول إن المماليك عندما انهزموا في أرض النوبة من قبل جيش إسماعيل فروا جنوباً مع عائلاتهم ومنقولاتهم فحاول الشايقية قطع الطريق عليهم ربما طمعاً في ما يحملون لكنهم تعرضوا للهزيمة مما أوجد الحاجة إلى صوت نسائي يحثهم على الثبات فكانت (مهيرة).
ثم يعرج آدم فاشر إلى حادثة حرق إسماعيل باشا بأرض الجعليين، مورداً الرواية المشهورة عن مطالبة الباشا للمك ثم إهانته ومن ثم المكيدة والحرق. ويبدي ملاحظات ذكية هي: أولاً كان الموسم موسم أمطار مما يصعب الحصول على الأعشاب بالمواصفات المذكورة تاريخياً، وإذا وقع الافتراض أنها جُمعت منذ موسم الجفاف فما السبب؟
ثانياً صورت الرواية السائدة موكب الباشا وكأنه موكب صغير يمكن استضافته في منازل من القش تُنشأ سريعاً.
ثالثاً لم تؤكد المصادر أو الرواية المدة التي قضتها الحملة ببلاد الجعليين والسبب الذي يجعل الحملة تتأخر هناك.
رابعاً لا يحتاج الباشا لإذن من المك للحصول على المال والأنعام!
ويواصل آدم فاشر في عدد من التساؤلات حتى يصل إلى ملاحظة أن حملة الدفتردار الانتقامية ذهبت إلى كردفان ثم إلى النيل الأبيض قبل أن تأتي أخيراً إلى بلاد الجعليين! قبل أن يتساءل السؤال الرئيسي لديه في هذه المسألة: إن مقتل إسماعيل باشا في شندي عند عودته عبر مكيدة هذه حقيقة تاريخية، ولكن يبقى السؤال من الذي فعل ذلك؟


نتابع.

الخميس، 9 فبراير 2012

محمد آدم فاشر (1)


(1)
من قديم كنت أحس بأن ثمة خطباً ما في (تاريخ السودان). أستند في إحساسي بهذا الخطب إلى هشاشة المسلمات التاريخية التي اعتمد عليها السرد الخيالي - بنظري - الذي سمي (تاريخ السودان) ومن ثم حُشيت به رؤوسنا بلا ترفق.
الأسئلة النشطة التي كانت تثاورني من حين إلى حين، تبدو إجاباتها (الرسمية) بلا سند من أبسط أنواع المنطق. كانت هذه الأسئلة من نوع: ما الذي حدث خلال 300 سنة قبل الفونج؟ أين ذهب العنج؟ من أسقط دولة علوة؟... الخ؛ كلما أغرقت فيها، وجدت أن ثمة يداً عبثت بشيء ما  في مكان ما لغرض غامض.
ومن أجل أن يكون ما أرمي إليه جلياً، فقد تم التعارف (مدرسياً) على أن إسقاط دولة علوة جاء عبر تحالف (العبدلاب) و(الفونج). بغض النظر عن تجاهل روايات أخرى غير رواية التحالف الرسمية، يمكننا ملاحظة أن في ذاك الوقت (حوالي 1500م) لم يكن هناك (عبدلاب) إذ إنهم أبناء عجيب بن عبد الله جماع... الخ القصة، وحتى لدى ود ضيف الله مثلاً لا نجد هذا الاسم (العبدلاب) بل يشير إليهم باسم (أولاد عجيب) أو (ولد عجيب شيخ قري).
جرت محاولات تصحيحية لاحظتها مؤخراً بجعل التحالف بين الفونج والقبائل العربية بقيادة عبدالله جماع القاسمي، إلا أن هذه المحاولات لم تأخذ بعد قوة تمكنها من إزاحة المسلمة السابقة.
ذات الأمر يشبه الإجابة على سؤال: أين ذهب العنج؟ وهم نوبيو دولة علوة. بعضهم لديه الشجاعة - مثل د.الباقر العفيف - ليقول: (العنج ديل نحن ذاتنا) والبعض يتجاهل هذا السؤال تماماً. إلا أن الطريف هو تعامل الروايات المحلية الشفاهية مع هذا الأمر، فالنوبيون انقرضوا بالجدري (مع ملاحظة أنه جدري انتقائي جداً لم يقتل غيرهم من مساكنيهم) وذلك دفعة واحدة مثلما هي الرواية الشائعة في شرق النيل الأزرق، أو أرسل إليهم الله ثعابين ووحوشاً طردتهم إلى الصحراء ليفسحوا المكان للعرب الوافدين مثلما هي الرواية في الشمالية.
إن أسئلة مثل هذه - على بساطتها - تفتح أفقاً آخر للنظر، مدهشاً، ومفاجئاً، ومحطماً للكثير من الأوثان التي نحن عليها في اعتكاف.

(2)
ما دفعني لنبش هذا الموضوع مرة أخرى، الزاوية الممتعة التي نظر منها محمد آدم فاشر إلى التاريخ المدون للغزو التركي للسودان. إذ يفترض أن ثمة انتحالاً جرى لمقاومة المماليك للجيش الغازي؛ من قبل الشايقية والجعليين (كورتي ومقتل إسماعيل). وهو يؤسس هذا الرأي على تساؤلات منطقية وقراءات للواقع المحيط في جدله مع الصراعات القائمة في ذلك الوقت. مشيراً إلى عدم قدرة القبائل على حشد الأعداد التي قيلت، إضافة إلى أن مفهوم الوطن في ذلك الوقت لم يكن يعني أكثر من حمى القبيلة.
تحتوي مقالة آدم فاشر على الكثير من الجوانب التي يعتبر نقاشها تجديفاً تاريخياً، هذا إن لم يوصف كاتبها بـ(الشعوبية). إلا أنها مع ذلك ممتعة، وواضحة، وإن لم تخل من أثر التدافع القبلي المحتدم مؤخراً.
سنعود إليها.



الأحد، 15 يناير 2012

مصطفى سيد أحمد



1
مغنٍّ كثيف الشعر، ينحني على عوده ويغني:
(مهما هم تأخروا فإنهم يأتون
من درب رام الله أو من جبل الزيتون...).
مغن كثيف المسافة بينه والآخرين، ينصب شباكه لمن يهفو إلى بساطة الرؤية (لسه بيناتنا المسافة والعيون واللهفة والخوف والسكون..) لتكتشف الفريسة بعد وقتٍ أن ثمة تعقيداً لم تطأ رائحته أولاً يوجد في ذات (المسافة).
يمد شباكه إلى من يعتريه قلق المنزلة بين المنزلتين بـ (عينيك مدن..)، (الدنيا ليل غربة ومطر..)، (مكتوبة في الممشى العريض..) حتى التخوم الرمادية بين الذات والذات الكلية حين تساوي أنت أكثر من هتاف (عرق الجباه الشم..) وأخواتها، وأكثر من ذوبانـ(ها) في (آه لو تأتين آه من عميق الموج من حضن المياه..)، وبلا شك أكثر من مأساة (عبد الرحيم) والكوميديا المظلمة لـ (الحاج ود عجبنا) عم الجميع.
مغنٍّ كثيف اللغة، حد استحالة أن يحاط بها - لغته - بكل كبريائها حين أنها غيرت طعم الكلام كثيراً وغيرت عدسات الذي كان ينظر صوب الأغاني بوصف الحبيبة شعراً يسيل كما الذهب أو هدفاً يجمد ما عداه من الشعور ليصبح (تختة) يصوب نحوها ما ضاقت به غدد الشعور فكاد ينفجر.
مغنٍّ كثيف الحياة.
مغنٍّ كما ينبغي.

2
مثلما طلى التسعينيات بلغة طردت لغات الغياب إلى الثقوب البعيدة؛ ظل يطلي - مصطفى- يوميَّ الكلام بما يجعل الونسة ضرباً من لغة الطير الجميلة. تنبت مفردات مستعارة منه عبر شقوق الخيال، تنمو فينبت شاعر مفاجئ خلع (بامبرز) (الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان) إلى فساحة أن يفكر: (وما حريق البحر؟ ما عجاجه؟ وما الذي يمنح اللوحة ازدواجية القراية؟ وكيف يمكن أن يكون الحزن كائنا يمشي على ساقين أو دائرة تطوف في فراغ الكون وتمحو عن شعاع الصمت ذاكرة السكون المطمئنة؟ وكيف تنجبني مريم الأخرى قطارا وحقيبة؟ من مريم الأخرى؟ وكيف هو عزاء باقات النجوم في المطر؟...).
مثلما ضرب - كما زلزال - هذا المصطفى، قوانين الواقع، قوانين السؤال، قوانين الترنّم، قوانين المعرفة بوطن كان عميقاً بقدر ما كان باهتاً؛ يعرج - هو - على (ال) القمرية في كل الكلمات ليخترع صيغة توكيد جديدة، أطلقت جيل (فولترون) و(كابتن ماجد)، و(بابار) إلى قلقٍ مضاد للرضا، وإلى أمنيات أكثر نضجاً من (تبقى لي دكتور، وتبقى لي مهندس)؛ إلى أمنيات غائمة في لذتها كما (مشرع الحلم الفسيح) الذي تقف دونه جزر تترامى وموج لديح.
مثلما كوى - كما بركان - الرؤية المعتادة، هذا المصطفى، يكوي احتمالات التشابه؛ فيتوارى كل لحظة مكان من الذاكرة، لتحل مكانه أمكنة صغيرة مليئة بالأطفال والحدود الميتة والأشواق التي بهاراتها من وحدة الوجود في تعدد الأمزجة. حين صارت (نفسي أفهمك) هي: (نفسي أقراك مرة صاح عكس احتشادك في الحضور..)، وعندما أصبح التساؤل: (ليه غبتي يا القمرا)، تغيرت طرق القول، طرق الحب، طرق اللهفة؛ حتى صارت أقرب إلى (بعد ما عز المزار..) عبوراً بـ(يا سر مكتوم في جوف أصداف..) بديلاً لوضع كل شيء على المائدة.

3
ربما ما كان لي ولغيري النفاذ إلى أفق للمتعة التي كانت - قبل مصطفى - دونها الريبة وخوف التعقيد وشدة الجديد على من تعوَّد - بالكاد - على أنماط من الشعر القياسي؛ النفاذ إلى زمن العيون الإلفة والحضن الملاذ، ثم القفز حتى (كأنك من وراء صفحة زجاج مبلول وراك الريح وقدامك مدى السكة ونداء المجهول) وصولاً إلى شهيق عاطف خيري وعزلة الصادق الرضي ورحيل أبوذكرى في الليل.
ربما ما كان لي ولا لغيري استطعام (حاجة فيك) و(البت الحديقة) التي لا أعرف حتى اليوم إن كانت حديقة أي ذات حدقات أو أنها حديقة بأزهارها وأطيارها ونخيلها؛ ثم الركون إلى غرائب الصور قبل أن تصير معتادة فتخلع غرابتها إلى حين مثل (بنية من خبز الفنادق) و(صوتك وكت قطع البحر قبال مراكب العمدة ضهر النيل عرق). هو هذيان خلاق أصابت عدواه كل من جاء به حظه ليعبر تسعينيات القرن الماضي حافياً من كل جميل، أوان لا زال المغنون يبكون على الزمن الدوار وبسمة النوار أو يحاول المغنون الجدد تعديل الذائقة لتطرب لإعداد الشباب ليوم اللقاء وإعادة سلطان الشرق ودك حصون العدا، إلى غيره من الهواء النتن الذي استوى - ليس فجأة - بما كان هواء طيباً.

4
هو مصطفى. المغني الذي حطم المقاعد فظللنا وقوفاً لم نفهم أن الحكمة من تحطيم المقاعد هي عدم البقاء في ذات المكان.. هي التحرك نحو أفق جديد رائحته كما الجنة.
هو مصطفى. صياد الزيف المحلق في سماء تحتها من اهتم لأمرهم. قاتل ما يحجب الشمس الأخرى.. الجديدة.
هو مصطفى... ولن يكفي الكلام.


الخميس، 8 ديسمبر 2011

عن الكتابة.. حوار مع محفوظ بشرى


أجراه عيسى الحلو- صحيفة الرأي العام – 2008م


لماذا تكتب؟
الكتابة بالنسبة لي حاجة مبهمة، لم أدرك كنهها، ولم أتساءل قبل سؤالك لي. لكنني الآن أظن أن الكتابة في شكل من أشكالها، تدل على خلل في الاتزان. أو ربما تكون رغبة غامضة في الخلق، في صنع شيء يكون هو الشيفرة التي تدل عليك وسط كل هذا الصخب المسمى بالحياة. أو ربما في احتمال ثالث ما هي سوى رغبتنا في فعل يدلنا على أننا نحيا، ونتحرك وسط هذا الحيز الضيق الذي نشغله ضمن الحركة الكلية للأحياز المتشابكة التي تشكل ما يسمى بالحياة الإنسانية. بهذا يمكنني القول إنني أكتب لأستعيد اتزاني المفقود وسط المزالق التي تكتنف الطريق الذي يجب أن أقطعه حتى نهايتي المحتمة. أكتب لأرى، أكتب لأنفذ عبر الظلام، أكتب لأن هذا ما أفعله.

كيف تكتب؟
سؤال الكيفية هذا، ربما يحيل إلى الأفعال الطقوسية التي تصاحب لحظة الكتابة، تلك الأفعال التي قرأنا عنها ضمن القصص الطريفة. أو ربما يحيل كذلك، إلى معنى أكثر شمولاً يكمن داخل الدلالات العمياء التي يستتر وراءها الكثير مما لا يمكن قوله باللغة فقط. كيف أكتب؟ أكتب بنصف وعي ونصف غياب، وهو ما يلزم ليجعل ما يضطرب داخلي واضحاً بما يكفي للخروج. أما كيف يكون بعد خروجه؟ فهذا ما لا أشغل به كل تفكيري، فقط أقرأ ما كتبته بعد زمن، إن أعجبني تركته، وإلا تناسيته عله يعجبني في مرة قادمة.

لمن تكتب؟
إن قلت لك إنني أكتب لنفسي، أكون كاذباً. وأكون كاذباً كذلك لو قلت إنني أكتب لغيري! أثناء نصف الوعي المسمى بلحظة الكتابة، يوجد قارئ افتراضي في ذهني، يحمل أكثر خصائصي وطباعي، له ذائقتي، وجزء كبير من خبراتي. هذا القارئ الافتراضي، هو من أوجه إليه الخطاب. إنه لا يمثل أياً من القراء المحتملين، لكنه كذلك لا يمثلني بشكل كامل، إنه فقط يشبه دائرة الهدف التي يجب التصويب عليها. من جانب آخر، الطبع الإنساني متغلغل فيَّ، أي أنني حين أقبل بنشر نص لي، فهذا له علاقة بالتشارك، وهو أمر إنساني كما يقولون. هناك أيضاً النزعة الإنسانية الأزلية نحو الخلود، وهي تظهر في أشياء عدة مثل السعي للشهرة، أو إنجاب الأبناء، أو أن ينتشر اسمك بشكل ما. كل هذه أشياء لها علاقة بسؤال (لمن تكتب). لن أكون كاذباً وأقول إنني أحمل رسالة ما وبناءً عليها أنشد التأثير في الآخرين ومن ثم التغيير! نعم أنا أنشد التغيير، لكنه التغيير فقط. لست نبياً.

إلى أي مدى تتجاور كتاباتك مع الكتابات المعاصرة لها؟
لا يمكنني أن أجزم في أمر كهذا. بالتأكيد هناك مشتركات، هناك نقاط تقاطع، وهناك اختلافات وتمايزات. لكن من موقعي كأحد الذين يمارسون هذا الفعل (الكتابة)، يبدو صعباً أن أجد ما يشابه أو يختلف مع الآخرين. وكما أظن، فلا يوجد نص ينبت من العدم، ولا يوجد نص بمعزل عن الجدل بينه وبين النصوص الأخرى، هناك حركة دائبة من التأثير والتأثر بين النص وبقية النصوص المعاصرة أو القديمة، وهذا لا يعني أن تفاعل الكاتب مع هذا الجدل هو ذاته تفاعل بقية الكتاب، فكلٌّ يتميز على مستويات عدة عن غيره، وحتى لو وجد من يتجاورون بصورة لصيقة تقترب من التطابق، فهذا لا يستمر ـ في تقديري ـ إلا بالمقدار اللازم ليبدأ الاختلاف.

كيف يكون النص نصاً جديداً من حيث مضمونه وشكله؟
كلمة (جديد) كلمة شائكة في اللغة العربية. لكن المعنى الاصطلاحي لها يذهب في اتجاه أن الجديد هو شيء لا يشابه ما قبله. بكل حال، لن أخوض في صحة التسمية (الكتابة الجديدة). برأيي أن ما يطلق عليها اليوم (الكتابة الجديدة)، لها خصائص تتضح أحياناً، حيث إنها كتابة مفعمة بالأسئلة، بالشك، بالقلق. كما أنها تراهن على اللغة بشكل أساسي بما يجعل من المعنى أحد تمثلات هذه اللغة، وهو ما أعتبره قتلاً للمعنى من أجل إعادة إنتاجه ـ المعنى ـ من جديد. كذلك أرى أن هذه الكتابة لا تصف، إلا بالمقدار الذي يظهر الحيرة التي تغمر محاولات خلق علاقات جديدة بين الموجودات، علاقات ربما تعبر عن الغموض الذي يكتنف هذا الوجود بمستوياته كلها، الظاهرة والخفية. إنها كتابة تقول إنه لا توجد حقيقة، بل محض علاقات متحولة بين الأشياء مما يقودها إلى محاولات إعادة تعريف للممكن واللاممكن. هذا هو ما أظن أني أراه في الكتابة الآنية، أو ما يسمى بالكتابة الجديدة. أما عن كيف يكون النص جديداً في الشكل والمضمون، فأعتقد أنه يجب أن ينتج شكلاً خارجاً على المألوف، ومضموناً بإمكانه أن يحمل محمولات أكثر مفاجأة، أكثر عمقاً من المباشرات الفجة التي يسقط فيها التعبير. أرى أنه يجب أن يكون ذاتياً أكثر منه وصفاً لموضوعات جامدة خارج الذات. فلنتساءل: هل الشعر هو الكلام الموزون المقفى؟ هل يجب أن يحتوي السرد على حكاية وعلى قص؟ هل اللغة أداة؟ ماذا لو رفض الكاتب هذه التعريفات التي تقولب الإنتاج الأدبي؟ ماذا لو رفض هذا التجنيس؟ أظن أن على النص الجديد أن يقوم على الرفض لما ساد، منطلقاً من ضرورة التجاوز، ضرورة التطور، تلك الضرورة التي تجعل لكل عصر سماته التي تظهر في الكتابة مثلما أنها تظهر في نمط الحياة، وما الكتابة إلا ظهورات عميقة لهذا النمط.

لأي هدف تريد الكتابة أن تصل؟
لست على يقين من أنني أعرف على وجه الدقة ما تريد الكتابة أن تصل إليه، إضافة إلى أن هناك اختلافاً في الرؤى بين البشر على حسب الموقع الذي يقف فيه الناظر إلى الكتابة. هناك مثلاً من يعتبرون الكتابة أداة لتوصيل الأفكار من أجل هدف لا يخص الكتابة بقدر ما يخصهم، هناك أيضاً من ينظرون إلى الكتابة كفعل وجد لذاته، وبالتالي يكون هدفها تحقيق هذه الذات، وبين هذين النموذجين يوجد عدد كبير من الرؤى بعدد البشر، كلٌّ ينظر للكتابة بطريقته، مما يقوده للنظر إلى الهدف منها بطريقته كذلك. بالنسبة لي فأنا أتساءل أحياناً عن الجدوى من الكتابة، وهو سؤال على علاقة وثيقة بالسؤال الأول: (لماذا أكتب؟)، وكإضافة إلى ما سبق، أقول إن ظني يحملني على الاعتقاد بأن الكتابة فيما هي فعل غير منفصل عن الكاتب والمحيط الذي يتحرك فيه، فهي ليست بمعزل عن التأثيرات التي يرسلها هذا المحيط، كذلك فهذا المحيط ليس بمعزل عن تأثير الكتابة، مما يدفعني للظن بأن الهدف الذي تحاول الكتابة أن تصل إليه منذ فجرها الأول، هو الإمساك بلحظة العدم، السكون، الخمول الذي يدل على وصول الأشياء إلى نهاياتها، وإلى أقصى حدود يمكن للكتابة أن تحيط بها، إنها لحظة الموت النهائي للكتابة، لحظة الوصول التي لا يعود بعدها من جدوى ولا جدوى، اللحظة التي تنفد فيها التناقضات التي كانت الوقود لما هو الكتابة، إنها لحظة النهاية.

هل الكتابة تعني تحقق الكاتب أم تحقق القارئ؟
لا أظن أن العلاقة بين هذا المثلث (الكاتب/الكتابة/القارئ) تحتمل غير أن يتحقق كل عنصر من هذه العناصر في البقية وبالبقية، إنها علاقة تشبه فرسان ألكسندر دوماس الأب الثلاثة، الكل للواحد والواحد للكل. إن قولي بأن الكتابة (تعني)، هو قول يجعل من الكتابة معنى، نافياً أي احتمال لأن تكون عنصراً له وجوده المنفصل في أحد المستويات عن العنصرين الآخرين. أو على أقل تقدير فإن جعلها (معنى) ينفي عنها كينونتها مقابل كينونتين تتنازعانها، إذ هي ـ الكتابة ـ يجب أن تكون تحقق واحدة منهما. كذلك يكون من العبث أن أقول لك إن الكتابة هي تحقق الكتابة! لذا تجدني مضطراً عند التفكير في هذا السؤال أن أبعثر الكلمات: الكتابة/تعني/تحقق/الكاتب/القارئ! وقبل الدخول إلى فحوى العلاقات التي تربط بين هذه الكلمات بكل تشابكاتها، تقفز إلى ذهني تساؤلات على شاكلة: ما هو التحقق؟ هل بإمكان القارئ أن يكون فاعلاً تجاه كتابة ما؟ ما علاقة الكاتب بكتابته التي على الرغم منه امتلكت جسدها وكينونتها المنفصلة؟ وهذه أسئلة كما تعلم بها الكثير من الفخاخ، مما يجعلني حذراً حين أحاول الإجابة. كما كنت أقول، إن الكتابة والكاتب والقارئ يشكلون تحققهم في بعضهم داخل جدل شديد التعقيد ربما، هذا الجدل هو ذاته ما يسمح للكتابة أن تكتسي من خيال القارئ ما يجعلها كاملة في اللحظة، ومن رؤية الكاتب ما يجعلها باتجاه جدوى ما، وهو ذاته الجدل الذي يعمل داخل منظومتي الشعور لدى الكاتب والقارئ مفرزاً نتائج نفسية شديدة الخصوبة، وهذه النتائج ربما تجعل من الكتابة كائناً أو شيئاً يكاد يكون ملموساً بأدوات اللمس المادية مثلما هو ملموس بالأدوات الذهنية. لكن في النهاية أعترف مرة أخرى بأن سؤال التحقق هذا لم يخطر ببالي من قبل، أنا لا أتساءل عن الأسرار العميقة للكتابة، إنني أكتب فقط، ولا أنشغل بتفسير ما كتبته إلا من موقعي كقارئ. علاقتي بكتابتي تذهب في اتجاه أن تصير باهتة نوعاً ما، فكما أسلفت، تأتي الكتابة بنصف وعي، فلا أعرف إن كنت أكتبها أم أنها تكتبني، ولا أهتم، ففي نهاية الأمر سيتخلق كائن ما، يحمل نصف جيناتي، ولست مهتماً بأن أعرف من أين جاء بالنصف الآخر.

السبت، 3 ديسمبر 2011

الميرغني والمهدي والقفز إلى السفينة الغارقة



1
في بداية التسعينيات، عندما كان الخطاب الإنقاذي في أوج سطوته، على خلفية نشيده الأثير وقتها (الليل ولى لن يعود وجاء دورك يا صباح.. وسفينة الإنقاذ سارت لا تبالي بالرياح)؛ كان السيدان الميرغني والمهدي يقفان على الشاطئ بعيداً عن السفينة الفتية، لأسباب ذات احتمالات متعددة، فربما لم تكن لديهما الرغبة في الإبحار انتظاراً للاستيلاء على السفينة كلها، وربما لم يرغب قادة السفينة الجدد باصطحاب (وزن زائد)، أو ربما احتمالات أخرى.
الآن، بعد تلاشي النشيد، وبعد أن شاخت السفينة وأصبحت تهتز لأقل ريح، ناهيك عن العواصف التي تتجمع نذرها مهددة باجتياح ربما يكسر السفينة ذاتها؛ الآن في الوقت الذي يجب على من بالسفينة التفكير في القفز منها، يقفز السيدان إليها.
2
شارك السيدان. هذه تكاد تكون حقيقة رغم كل الحبر الذي أريق تبريراً من سيد ونفياً من السيد الآخر. لكن ثمة مفارقة تعتري المشاركتين، إذ أن الميرغني أعلن موافقته على المشاركة في الحكومة رفقة المؤتمر الوطني والأحزاب الصديقة له وفي الوقت ذاته خرج نجله محمد الحسن بتصريحات يرفض فيها المشاركة. بينما أعلن المهدي رفضه المشاركة، بينما شارك ابنه عبد الرحمن.
قراءتي لهذه المفارقة تنبني على النظر إلى الصورة الكلية للمشهد في وقت بدأت فيه المعارضة التقليدية تتآكل بفعل الحركة الاجتماعية التي نحت بتسارع في اتجاه إسقاط الرؤى المعتادة والمفاهيم التي كانت تمثل اللبنة التي بني عليها النسيج الهويوي الذي يصنع صورة ما يُسمى السودان، وكذلك التغير في زوايا النظر إلى المعضلات التي ما انفكت تمسك بخناق الواقع.
في الجانب الآخر أخذ التآكل يعتري السلطة نتيجة التكلس الرؤيوي الذي لازم مشروعها، مما أنتج فساداً من الصعب إخفاؤه، يضاف إلى واقع السلطة كذلك الحصار الذي بدأ يأخذ بأنفاسها أكثر وأكثر بعد انفصال الجنوب، مما وضع السلطة في نفق ضيّق تحاول جاهدة الخروج منه، وهو الأمر الذي أشرت إليه في البداية بـ(غرق السفينة).
3
ظل السيد محمد عثمان الميرغني طوال سنوات يمثل ثقلاً رمزياً للمعارضة منذ فترة التجمع في التسعينيات وحتى وقت قريب. لكن النظر المدقق ربما يوصل إلى أن مشكلة السيد الميرغني مع السلطة ليست متعلقة بـ(السودان) كما يتم إظهارها، بل هي مشكلة تكاد تكون شخصية بتضرر مصالح السيد من السياسة المتبعة من قبل السلطة لا أكثر. وذات الأمر يكاد ينطبق في نظري على حالة السيد الصادق المهدي وإن أضيف إليها شيء من المرارة كونه من انتزعت السلطة من يديه. وهناك عامل أظن أنه ذو أثر في المشهد الحالي وهو المنافسة الخفية بين السيدين على الاستحواذ على صورة (الزعيم). وهو أمر يقودني إلى الافتراض التالي:
أعلن الميرغني موافقته على المشاركة بالحكومة متخذاً مجازفة سياسية قد تحرقه أمام من يعارضون النظام ويسعون إلى إسقاطه (وربما هذا قد حدث بالفعل)، لكنه أتبع هذه المجازفة بالتحسب لكل الاحتمالات وذلك بدفعه لابنه محمد الحسن ليدلي بتصريحاته التي قد تحفظ له مكانة لدى المعارضة إن فشلت مجازفة الميرغني وسقط النظام وهو ضمن نسيجه، أي أن الميرغني جازف بنفسه مع الحكومة وإن استمرت هذه الحكومة فهو يرعى مصالح بيت الميرغني وإن فشلت ما عليه سوى التنحي لمحمد الحسن الذي سيحافظ من بعده كذلك على مصالح بيت الميرغني لدى القادمين الجدد.
أما الصادق المهدي فقد عكس الأمور ودفع بابنه عبد الرحمن ليكون بيت المهدي ضمن الحكومة بذات السياق السابق، لكن المهدي ربما لاحظ أن الميرغني قد أخلى له ساحة التنافس على زعامة المعارضة بحرق تاريخه مما جعله يفضل أن يبقى هو في الجانب المناوئ ويذهب ابنه في الجانب المشارك.
على العموم هي افتراضات، لكن ما يجعلها قوية بالنسبة لي حتى الآن عدة ملاحظات:
أولاً: عبد الرحمن المهدي عكس ما قاله يوم أداء القسم بأنه لا يمثل حزباً ولا يمثل والده، فهو يمثل حزب الأمة ووالده الصادق، وإلا على أي أساس تم اختياره (كمستقل!!) دون بقية ضباط القوات المسلحة للمنصب الذي تبوأه؟ أي ثقل لديه بعيداً عن الأنصار وبعيداً عن اسمه؟ أي خبرة تلك التي يمتلكها دون بقية السودانيين لتقفز به إلى هذا المكان؟
ثانياً: لماذا قدم الميرغني ابناً لا يميز بين النيل الأزرق التي تدور بها الحرب والنيل الأبيض الآمنة، ولا يميز بين جنوب كردفان وشمال كردفان ليخطئ ويخلط في أول خطاب له؟ أليس الأمر والحال هذه لا يتعلق بمشاكل السودان بقدر ما يتعلق بمصالح بيت الميرغني؟
4
مثلما قلت سابقاً، إن المصالح التي تربط هولاء القادة بالنظام أكبر بكثير من المصالح التي تربطهم بنا، والضمير (نا) هذا يرجع إلى من يكدون حتى الممات من أجل هؤلاء السادة، من أجل أن يكونوا من الملاك والأثرياء والنافذين، وحين تضيق بهم السبل ينصبون أنفسهم دون استشارة متحدثين باسم الجميع من هؤلاء الذين ربما لا يُسمح لأحدهم بملامسة السيد أو رؤيته ناهيك عن التحدث إليه؟
كم عدد الاتحاديين في السودان؟ وكم منهم قابل الميرغني (راعيهم)؟
ذات السؤال عن الأنصار.
إن هناك لعبة قديمة وضع قواعدها أولئك الذين في الحكم وهؤلاء الذين في المعارضة. نحن فقط متفرجون على هذه اللعبة وعلينا التشجيع فقط، غير مسموح لنا باللعب. وخطاب الاتحاديين التبريري عن المشاركة يحمل هذه السمات، إنهم يخشون تغير قواعد اللعبة مما يجعلهم متفرجين بدلاً عنا، إنهم يخشون من سيطرة الحركات المسلحة على الخرطوم، وكأن هذه الحركات مكونة من سكان المريخ وليس من سودانيين، إنهم يخشون على السودان من التشرذم واللحاق بالجنوب؟ بل يريدون في الواقع المحافظة على البنية القديمة للكيان السوداني التي تضعهم في قمة الهرم اجتماعيا واقتصاديا. إنني أتساءل: مم يخشون حقيقة؟

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

بربّك.. إنهم في النظام

«وسائل الإعلام هي مؤسسات مندمجة مع بعض المؤسسات الرئيسية في البلاد. والأشخاص الذين يملكون ويديرون هذه المؤسسات ينتمون إلى نفس النخبة المحدودة من المالكين والمديرين الذين يسيطرون على الاقتصاد الخاص، الذين بالتالي يسيطرون على الدولة، لذلك فإنها رابطة أو فئة محدودة جداً من وسائل الإعلام المشتركة أو المتحدة والمديرين والمالكين. فهم يتشاركون نفس الفهم والإدراك، وهلم جرا (...) لذلك من الطبيعي أنهم يفهمون المسائل والمشاكل، القمع، السيطرة وصياغة مصالح الجماعات أو الفئات التي يمثلونها، وبشكل مطلق مصالح الملكية الخاصة للاقتصاد، وأين تتركز في الحقيقة. علاوة على ذلك فإن لوسائل الإعلام سوقاً قوامها المعلنون، وليس عامة الناس، فعلى الجمهور أن يشتري الصحف، بيد أن الصحف مصممة لتجعل الجمهور يشتريها، وبذلك يمكنها أن ترفع أجور ومعدلات أجورها، فالصحف تباع بشكل أساسي للمعلنين عن طريق الجمهور، وحيث إن المؤسسة تبيعها وإن سوقها يعتبر مجالًا للأعمال؛ فتلك ناحية أخرى يكون فيها النظام المشترك أو نظام العمل قادراً بشكل عام على ضبط وسيطرة رضاءات وسائل الإعلام. وبمعنى آخر إذا ما خرجت عن الخط بشكل لا يدعو للتخيل أو التصور؛ فإن المادة الدعائية ستسقط (...) وسلطة الدولة لها نفس التأثير، فوسائل الإعلام تريد إبقاء علاقتها الحميمة مع سلطة الدولة، فهي تريد أن تحصل على التسريبات منها، وهي تريد دعوتها إلى المؤتمرات الصحفية الرسمية، وهي تريد أن تحتك مع وزير الخارجية، وكل أنواع المهمات، ولفعل ذلك فإن عليها أن تمارس نفس اللعبة، وإن لعب اللعبة يعني قول الأكاذيب (...) بعيداً تماماً عن الواقع، ذلك أنهم يمضون ليفعلوا ذلك بأية طريقة خارجة عن مصلحتهم الخاصة وعن وضعهم الخاص في المجتمع، فهناك تلك الأنواع من الضغوطات التي تجبرهم على ذلك. إنه نظام ضيق جداً للسيطرة، بشكل مطلق».
نعوم تشومسكي (تواريخ الانشقاق)
1
أفترض دائماً أن ما يسمى (المهنية) في الوسائط إنما تعني الانحياز المستتر إلى السلطة، وليس كما يتم الترويج له بأنها تعني الحياد. وافتراضي غذته نظرتي إلى الوسائط بوصفها أدوات لـ(تغبيش) الوعي الجمعي – إن وجد – وصرف الانتباه عن ما يهم البشر الذين يقعون عرضة للاستغلال والسيطرة الموجهة إلى مصالح النخبة على حساب مصالح المجموع. وفي كتابة سابقة تناولت بعض أساليب هذا التغبيش البسيطة وضربت مثلاً بالتلاعب باللغة كأن تسمى الكوليرا (إسهالات مائية) والمجاعة (فجوة غذائية) والفقر (تعفف)... الخ الأمثلة التي تم تناولها وتناول الغرض من اختراع المصطلح ولصالح من يتم ذلك.
أحاول هنا التركيز بخفة شديدة على الإقصاء اللاواعي عن طريق اللغة الذي تمارسه الوسائط الإعلامية بغرض التغبيش الذي ذكرته.
2
برأيي أن الكاتب يختار قارئه عن طريق اللغة التي يستخدمها لقول ما يريد قوله، فإن كانت لغته (معتادة) لدى شريحة كبيرة من المتلقين إذن فهو اختار هذه الشريحة، وإن كانت (معقدة) – مع تحفظي على المصطلحين حاليا - فهو اختار شريحة ضيقة يمكنها التعاطي مع لغته تلك، ما يعني أنه – متعمداً أم غير متعمد – أقصى (السواد الأعظم) من المتلقين.
هناك تلاعب وتعقيد والتواء في اللغة المستخدمة الآن في الوسائط – في رأيي – بل حتى الرأي الذي يكتب حالياً في الصحف بدأت لغته تصبح طاردة وعدائية للقارئ غير المضطر. الناظر إلى الصياغة التي تسمى (المثلى) للأخبار يلاحظ مسحة من الرتابة المصحوبة بالمراوغة وذلك في الصحف التي تدعي أنها (مستقلة)، أما تلك التي تتبنى خطاً لا يحتاج إلى المراوغة فنجدها تتلاعب في طريقة صياغة الخبر لتوجيه القارئ نحو انفعال عاطفي يخدم مصلحة مالكيها. ذات الأمر يتكرر بهذا السياق في بقية الوسائط المسموعة والمرئية.
3
بالاستناد إلى حديث تشومسكي الوارد في البداية يمكن افتراض أن المصالح التي تربط مالكي وسائل الإعلام مع النظام بسلطاته ومعلنيه وبنوكه... الخ هي أكبر بكثير من المصالح التي تربطهم بالناس – وهو الأمر الذي ينطبق على القادة السياسيين المعارضين والمؤيدين، لكن هذا حديث آخر – ويؤدي هذا الارتباط المصلحي إلى الاشتراك بينهم والنظام في استغلال هذا الذي يتم التحدث إليه وباسمه ويسمى (المواطن) مما يلغي توفر حسن النية في كثير من الأحيان حين تتحدث الوسائط أو رموز النظام عن الاهتمام بالمواطن.
إن أنماط التلاعب الظاهرة والمستترة من الرسوخ بمكان حتى إنها خلقت بنية تبريرية تغطيها وتجعلها تعمل على استنباط نمط لكل موقف وتنتج خطابات مسيطرة سرعان ما تندغم داخل نسيج البروباغاندا التي ظلت تغيّب الكثير من التفاصيل لصالح إبراز ما يقود إلى السيطرة الذهنية المرجوة.
4
من أين تأتي الأخبار التي تغذي الصحف والوسائط الأخرى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما الذي سيحدث إن لم تكن هناك أخبار وكانت الوسائط مختصة فقط بالتعبير عما في أذهان الناس وتفتح لهم الباب واسعا لقول ما يريدون؟
إن الطريقة التي تصنع بها الأخبار ومصادرها يشوبها الكثير من الفساد، مع ملاحظة أن أكثر الأخبار التي توضع تحت هذا التصنيف (أخبار) ليست أخباراً، إذ تعتري بنيتها الكثير من التلاعبات التي تجعلها توَجّه لتكون تبريراً أو دعاية.
حين تسند خبراً إلى وكالة، ولا تسنده هذه الوكالة إلى مصدر واضح، يصبح الخبر عائماً في فراغ الاحتمالات. بل حتى إن أسند إلى مصدر معلوم تظل نسبة صدقيته لا تتعدى 50% حتى التأكد مادياً منه، فما بالك بخبر يصعب اختباره والتأكد منه؟
إن الشعب يشبه (البطاريات) التي تغذي بالطاقة نخبة صغيرة تمسك بكل شيء، ومن مصلحة النخبة أن تظل البطاريات تنتج الطاقة. فيتم إقناع الناس بأن يظلوا كما هم، وأن المجهول مخيف حقاً، ويتم إقناعهم بأن غاية الحياة أن تخرج إلى العمل منذ الفجر وتعود آخر الليل تحمل (كيس الخضار واللحمة) وأن كل دعوة للتغير ستفقدهم هذا الكيس الثمين، طالما أن هناك كيسا تتعب من أجله لـ12 ساعة دون النظر إلى من يحصلون على كيسهم قبل الاستيقاظ من النوم ودون التفكير في أن مصاص دماء يستهلك حياتك؛ إذن لا مشكلة هناك.
أتذكر المخترق الأكبر للعبة السلطة؛ جورج أورويل، في مزرعة حيواناته، حين أقنعت الخنازير بقية الحيوانات بأنها تعمل عملاً أشق من العمل في الحقل، وهو عمل يسمى (التفكير)! وأذكر كذلك التحوير الأشهر لمبادئ الثورة عندما قام وزير إعلام الخنازير – في الرواية ذاتها – بتحويل العبارة (كل الحيوانات متساوية) إلى (كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر تساوياً من البعض الآخر).
إنني أسأل بكل سذاجتي المواطنية: أيهما يستحق الامتيازات؛ من يجلس في مقعد وكل عمله الكلام عن ما ينبغي فعله والتصويت، أم من دفع دمه ووقته وصحته وإنسانيته ثمناً لتلك الامتيازات؟ أم أن (التفكير) أصعب بكثير من العمل منذ الفجر إلى أواخر الليل؟
5
بربك، إنهم يدفعون الضرائب، ويضعون أموالهم في البنوك، ويحصلون على الامتيازات والمناصب. بربك كيف تكون مصالحهم هي ذات مصالحي؟

انتقاء

يشكل  اللون الأسود لدى من يريحون ذواتهم على فرضية أنهم من أعراق عليا، بيضاء بالضرورة؛ شائبة تقلق اتزانهم النفسي – اللاواعي – حين الاختبارات الأولية البسيطة التي تجعل ذلك الانتماء لا يصمد كثيراً إلا بتدعيمه بالكثير من التلفيقات والتبريرات التي تتشابك في آخر الأمر لتصنع ما يشبه أيديولوجيا تتخللها العقد النفسية وردود الأفعال النافية/المثبتة في سبيل دعم فرضياتها الهشة.
كانت ملاحظة ذكية – برأيي - تلك التي أوردها د.الباقر العفيف في كتابه (وجوه خلف الحرب) حين أشار إلى عملية الاستدراك الممارسة عن طريق الزواج للتخلص من اللون الأسود وذلك بانتقاء أنثى بيضاء لرفع نسبة البياض في النسل. لكن ما يثير التساؤل هو:  ما الذي تؤدي إليه عملية الانتقاء تلك؟
طيِّب، حين ينتقي ذكور سود إناثاً بيضاوات، فإن نسبة كبيرة من الإناث السوداوات يكن خرجن من (سوق) الزواج. وإذا كان الأطفال الذين ينتجون عن تلك الزيجات أقل سواداً من آبائهم، ثم انتقوا هم كذلك من جديد إناثاً بيضاوات، وخرجت من جديد الإناث ذوات الوصمة (اللون الداكن) من المنافسة؛ فسينتج أطفال أقل بياضاً من أمهاتهم وأقل سواداً من آبائهم.... إلخ. ما تجدر ملاحظته أن عدد السود إناثاً وذكوراً يسير إلى نقصان لصالح عملية التبييض المستمرة. ويأتي لا وعي العملية في أنها تتلثم بمفاهيم أنتجت لتبريرها، فمثلاً قواعد الجمال تغيرت كثيراً وتتغير لتصبح الأنثى الجميلة المشتهاة بيضاء كصفة مركزية تسعى إليها بالكيمياء ذوات الحظ العاثر الذي جعل لونهن أسود مما يخرجهن من المنافسة في سوق الزواج.
تسير هذه العملية (التبييض) بوتيرة تزداد قوة مدعومة بإفرازات الأيديولوجيا المتسترة خلف الكثير من الدعاوى، يغذيها تاريخ طويل من العقد النفسية والقفزات التاريخية المفاجئة والتناقض الحاد والتفاوت بين مكونات عجلة التطور.
إن ما يحدث أمام الجميع يومياً هو إقصاء منظم للون الأسود، في سبيل أن نصبح بيضاً (كما نعتقد) و(كما نبدو)، وهي لعمري طريقة شاقة لخياطة الصدع الذي ينتاب من يفكر في ذاته وكأنه ليس أسود، ليس زنجياً، ليس عبداً، ولكنه في ذات الوقت يحمل صفات السود، والزنوج، ويراه الآخرون عبداً.
أكتب ملاحظاتي هذه وفي ذهني ذلك السعار نحو الأبيض بدعاوى مختلفة على قمتها أنه جميل! فمعظم الإناث داكنات اللون يدركن أن حظوظهن أقل - وتقل بمرور الوقت – في الحصول على شريك ذكر؛ من الأخريات ذوات الألوان التي تميل إلى الأبيض. ورغم كل المعالجات التي يلجأن إليها للتبييض إلا أنهن يدركن أن احتمال نجاحهن ضئيل، سواء أكان نجاحهن في الحصول على عمل مرموق اجتماعياً، أم في الحصول على شريك مناسب.
إن محاولة التخلص من السواد تغذي الكثير من التصرفات والأفعال التي أراها مضحكة أحياناً. فمثلما لاحظ د.الباقر العفيف من قبل أن التبرعات كانت تجمع لفلسطين في عز الأزمة الإنسانية في دارفور؛ نلاحظ أيضاً أن درجة الانفعال بقضايا (البيض) الذين نفترض انتماءنا إليهم أكبر من انفعالنا بقضايا من يشاركوننا ذات الجغرافيا، وذات اللون، وذات السحنة، وذات المصير المشترك (الحقيقي). إنه لأمر يثير العجب!

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...