الخميس، 8 ديسمبر 2011

عن الكتابة.. حوار مع محفوظ بشرى


أجراه عيسى الحلو- صحيفة الرأي العام – 2008م


لماذا تكتب؟
الكتابة بالنسبة لي حاجة مبهمة، لم أدرك كنهها، ولم أتساءل قبل سؤالك لي. لكنني الآن أظن أن الكتابة في شكل من أشكالها، تدل على خلل في الاتزان. أو ربما تكون رغبة غامضة في الخلق، في صنع شيء يكون هو الشيفرة التي تدل عليك وسط كل هذا الصخب المسمى بالحياة. أو ربما في احتمال ثالث ما هي سوى رغبتنا في فعل يدلنا على أننا نحيا، ونتحرك وسط هذا الحيز الضيق الذي نشغله ضمن الحركة الكلية للأحياز المتشابكة التي تشكل ما يسمى بالحياة الإنسانية. بهذا يمكنني القول إنني أكتب لأستعيد اتزاني المفقود وسط المزالق التي تكتنف الطريق الذي يجب أن أقطعه حتى نهايتي المحتمة. أكتب لأرى، أكتب لأنفذ عبر الظلام، أكتب لأن هذا ما أفعله.

كيف تكتب؟
سؤال الكيفية هذا، ربما يحيل إلى الأفعال الطقوسية التي تصاحب لحظة الكتابة، تلك الأفعال التي قرأنا عنها ضمن القصص الطريفة. أو ربما يحيل كذلك، إلى معنى أكثر شمولاً يكمن داخل الدلالات العمياء التي يستتر وراءها الكثير مما لا يمكن قوله باللغة فقط. كيف أكتب؟ أكتب بنصف وعي ونصف غياب، وهو ما يلزم ليجعل ما يضطرب داخلي واضحاً بما يكفي للخروج. أما كيف يكون بعد خروجه؟ فهذا ما لا أشغل به كل تفكيري، فقط أقرأ ما كتبته بعد زمن، إن أعجبني تركته، وإلا تناسيته عله يعجبني في مرة قادمة.

لمن تكتب؟
إن قلت لك إنني أكتب لنفسي، أكون كاذباً. وأكون كاذباً كذلك لو قلت إنني أكتب لغيري! أثناء نصف الوعي المسمى بلحظة الكتابة، يوجد قارئ افتراضي في ذهني، يحمل أكثر خصائصي وطباعي، له ذائقتي، وجزء كبير من خبراتي. هذا القارئ الافتراضي، هو من أوجه إليه الخطاب. إنه لا يمثل أياً من القراء المحتملين، لكنه كذلك لا يمثلني بشكل كامل، إنه فقط يشبه دائرة الهدف التي يجب التصويب عليها. من جانب آخر، الطبع الإنساني متغلغل فيَّ، أي أنني حين أقبل بنشر نص لي، فهذا له علاقة بالتشارك، وهو أمر إنساني كما يقولون. هناك أيضاً النزعة الإنسانية الأزلية نحو الخلود، وهي تظهر في أشياء عدة مثل السعي للشهرة، أو إنجاب الأبناء، أو أن ينتشر اسمك بشكل ما. كل هذه أشياء لها علاقة بسؤال (لمن تكتب). لن أكون كاذباً وأقول إنني أحمل رسالة ما وبناءً عليها أنشد التأثير في الآخرين ومن ثم التغيير! نعم أنا أنشد التغيير، لكنه التغيير فقط. لست نبياً.

إلى أي مدى تتجاور كتاباتك مع الكتابات المعاصرة لها؟
لا يمكنني أن أجزم في أمر كهذا. بالتأكيد هناك مشتركات، هناك نقاط تقاطع، وهناك اختلافات وتمايزات. لكن من موقعي كأحد الذين يمارسون هذا الفعل (الكتابة)، يبدو صعباً أن أجد ما يشابه أو يختلف مع الآخرين. وكما أظن، فلا يوجد نص ينبت من العدم، ولا يوجد نص بمعزل عن الجدل بينه وبين النصوص الأخرى، هناك حركة دائبة من التأثير والتأثر بين النص وبقية النصوص المعاصرة أو القديمة، وهذا لا يعني أن تفاعل الكاتب مع هذا الجدل هو ذاته تفاعل بقية الكتاب، فكلٌّ يتميز على مستويات عدة عن غيره، وحتى لو وجد من يتجاورون بصورة لصيقة تقترب من التطابق، فهذا لا يستمر ـ في تقديري ـ إلا بالمقدار اللازم ليبدأ الاختلاف.

كيف يكون النص نصاً جديداً من حيث مضمونه وشكله؟
كلمة (جديد) كلمة شائكة في اللغة العربية. لكن المعنى الاصطلاحي لها يذهب في اتجاه أن الجديد هو شيء لا يشابه ما قبله. بكل حال، لن أخوض في صحة التسمية (الكتابة الجديدة). برأيي أن ما يطلق عليها اليوم (الكتابة الجديدة)، لها خصائص تتضح أحياناً، حيث إنها كتابة مفعمة بالأسئلة، بالشك، بالقلق. كما أنها تراهن على اللغة بشكل أساسي بما يجعل من المعنى أحد تمثلات هذه اللغة، وهو ما أعتبره قتلاً للمعنى من أجل إعادة إنتاجه ـ المعنى ـ من جديد. كذلك أرى أن هذه الكتابة لا تصف، إلا بالمقدار الذي يظهر الحيرة التي تغمر محاولات خلق علاقات جديدة بين الموجودات، علاقات ربما تعبر عن الغموض الذي يكتنف هذا الوجود بمستوياته كلها، الظاهرة والخفية. إنها كتابة تقول إنه لا توجد حقيقة، بل محض علاقات متحولة بين الأشياء مما يقودها إلى محاولات إعادة تعريف للممكن واللاممكن. هذا هو ما أظن أني أراه في الكتابة الآنية، أو ما يسمى بالكتابة الجديدة. أما عن كيف يكون النص جديداً في الشكل والمضمون، فأعتقد أنه يجب أن ينتج شكلاً خارجاً على المألوف، ومضموناً بإمكانه أن يحمل محمولات أكثر مفاجأة، أكثر عمقاً من المباشرات الفجة التي يسقط فيها التعبير. أرى أنه يجب أن يكون ذاتياً أكثر منه وصفاً لموضوعات جامدة خارج الذات. فلنتساءل: هل الشعر هو الكلام الموزون المقفى؟ هل يجب أن يحتوي السرد على حكاية وعلى قص؟ هل اللغة أداة؟ ماذا لو رفض الكاتب هذه التعريفات التي تقولب الإنتاج الأدبي؟ ماذا لو رفض هذا التجنيس؟ أظن أن على النص الجديد أن يقوم على الرفض لما ساد، منطلقاً من ضرورة التجاوز، ضرورة التطور، تلك الضرورة التي تجعل لكل عصر سماته التي تظهر في الكتابة مثلما أنها تظهر في نمط الحياة، وما الكتابة إلا ظهورات عميقة لهذا النمط.

لأي هدف تريد الكتابة أن تصل؟
لست على يقين من أنني أعرف على وجه الدقة ما تريد الكتابة أن تصل إليه، إضافة إلى أن هناك اختلافاً في الرؤى بين البشر على حسب الموقع الذي يقف فيه الناظر إلى الكتابة. هناك مثلاً من يعتبرون الكتابة أداة لتوصيل الأفكار من أجل هدف لا يخص الكتابة بقدر ما يخصهم، هناك أيضاً من ينظرون إلى الكتابة كفعل وجد لذاته، وبالتالي يكون هدفها تحقيق هذه الذات، وبين هذين النموذجين يوجد عدد كبير من الرؤى بعدد البشر، كلٌّ ينظر للكتابة بطريقته، مما يقوده للنظر إلى الهدف منها بطريقته كذلك. بالنسبة لي فأنا أتساءل أحياناً عن الجدوى من الكتابة، وهو سؤال على علاقة وثيقة بالسؤال الأول: (لماذا أكتب؟)، وكإضافة إلى ما سبق، أقول إن ظني يحملني على الاعتقاد بأن الكتابة فيما هي فعل غير منفصل عن الكاتب والمحيط الذي يتحرك فيه، فهي ليست بمعزل عن التأثيرات التي يرسلها هذا المحيط، كذلك فهذا المحيط ليس بمعزل عن تأثير الكتابة، مما يدفعني للظن بأن الهدف الذي تحاول الكتابة أن تصل إليه منذ فجرها الأول، هو الإمساك بلحظة العدم، السكون، الخمول الذي يدل على وصول الأشياء إلى نهاياتها، وإلى أقصى حدود يمكن للكتابة أن تحيط بها، إنها لحظة الموت النهائي للكتابة، لحظة الوصول التي لا يعود بعدها من جدوى ولا جدوى، اللحظة التي تنفد فيها التناقضات التي كانت الوقود لما هو الكتابة، إنها لحظة النهاية.

هل الكتابة تعني تحقق الكاتب أم تحقق القارئ؟
لا أظن أن العلاقة بين هذا المثلث (الكاتب/الكتابة/القارئ) تحتمل غير أن يتحقق كل عنصر من هذه العناصر في البقية وبالبقية، إنها علاقة تشبه فرسان ألكسندر دوماس الأب الثلاثة، الكل للواحد والواحد للكل. إن قولي بأن الكتابة (تعني)، هو قول يجعل من الكتابة معنى، نافياً أي احتمال لأن تكون عنصراً له وجوده المنفصل في أحد المستويات عن العنصرين الآخرين. أو على أقل تقدير فإن جعلها (معنى) ينفي عنها كينونتها مقابل كينونتين تتنازعانها، إذ هي ـ الكتابة ـ يجب أن تكون تحقق واحدة منهما. كذلك يكون من العبث أن أقول لك إن الكتابة هي تحقق الكتابة! لذا تجدني مضطراً عند التفكير في هذا السؤال أن أبعثر الكلمات: الكتابة/تعني/تحقق/الكاتب/القارئ! وقبل الدخول إلى فحوى العلاقات التي تربط بين هذه الكلمات بكل تشابكاتها، تقفز إلى ذهني تساؤلات على شاكلة: ما هو التحقق؟ هل بإمكان القارئ أن يكون فاعلاً تجاه كتابة ما؟ ما علاقة الكاتب بكتابته التي على الرغم منه امتلكت جسدها وكينونتها المنفصلة؟ وهذه أسئلة كما تعلم بها الكثير من الفخاخ، مما يجعلني حذراً حين أحاول الإجابة. كما كنت أقول، إن الكتابة والكاتب والقارئ يشكلون تحققهم في بعضهم داخل جدل شديد التعقيد ربما، هذا الجدل هو ذاته ما يسمح للكتابة أن تكتسي من خيال القارئ ما يجعلها كاملة في اللحظة، ومن رؤية الكاتب ما يجعلها باتجاه جدوى ما، وهو ذاته الجدل الذي يعمل داخل منظومتي الشعور لدى الكاتب والقارئ مفرزاً نتائج نفسية شديدة الخصوبة، وهذه النتائج ربما تجعل من الكتابة كائناً أو شيئاً يكاد يكون ملموساً بأدوات اللمس المادية مثلما هو ملموس بالأدوات الذهنية. لكن في النهاية أعترف مرة أخرى بأن سؤال التحقق هذا لم يخطر ببالي من قبل، أنا لا أتساءل عن الأسرار العميقة للكتابة، إنني أكتب فقط، ولا أنشغل بتفسير ما كتبته إلا من موقعي كقارئ. علاقتي بكتابتي تذهب في اتجاه أن تصير باهتة نوعاً ما، فكما أسلفت، تأتي الكتابة بنصف وعي، فلا أعرف إن كنت أكتبها أم أنها تكتبني، ولا أهتم، ففي نهاية الأمر سيتخلق كائن ما، يحمل نصف جيناتي، ولست مهتماً بأن أعرف من أين جاء بالنصف الآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...