الاثنين، 28 مارس 2011

نشادر


محفوظ بشرى
      
(1)

ما بعد العام 2003م، جامعة الخرطوم. الصيف يدخل بوابات الجسد، يحتل في الذهن مناطق كانت من قبل تشغلها ذكريات المدارس الإبتدائية، وحمى السحايا الشعبية، وإحساس مداري عمَّق طعمه فينا ماركيز وأمادو. الصيف، وبقية من حرارة تتآكلنا، نحن ثوريو ما قبل تلاشي المعنى والقضايا، المتمردون، بدوغمائية أغرقنا بها مشاتل التفكير باتساع كل الجامعات.

قال عبد الرحيم: (ولد عجيب، بيكتب شعر مفاجئ، لازم تسمعو). كان في نفسي شيء من آثار فلسفة مادية تأبى أن تندهش. كان في نفسي ذلك الغرور الصفوي بأننا قد ملكنا مفاتيح الحقيقة المطلقة. كان الوقت أكثر شباباً من أن يعترينا الذهول.

على حافة رصيفٍ بها شيء من الحدة، جلسنا. الوقت بعد الظهر، بتلقائية آلة، وبترددٍ لم يولد لديه، أنزل حقيبة الظهر المثلثة وقرأ:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ/ وامْتَطَتْ ذاتَ الْمُغَنِّي/ فَتَّتَتْ حزنَ دِمَاه/ فأشاعَ الطُّهْرَ في الجَّوِّ ومات.

كانَ النَّشادرُ يغمُرُ الأقدامَ بالحِنَّاء/ بالحزنِ المقيم/ بالشهوةِ... الأوجاعِ/ نظراتِ الرِّجالِ الضَّاربينَ غُرُوبَهم في غَرْوِ بَادِيَةِ الشّروق.

صَلَّيْتُ بالرُّوح/ فى هَوَجِ التناسلِ والتلاقحِ/ دونَ عُذْر/ صَلَّيْتُ حتى اْرْتَابَتِ الأشياءُ/ واهْتَبَلَتْ مساماتُ السَّمَاء/ ونَشَقْتُ أشرعةَ النشادر. كان وَعْيُ الماءِ وَعْيِي/ كنتُ فى لاوَعْيِ وَعْيي/ أتَدَاعَى بالهطول/ للمجاعاتِ سمائي/ للمدامعِ ما أرى*.

للحظةٍ نظرتُ لأعلى، بدت الأشجار شاهقة، وكأن هنالك من حثا تراباً ساخناً بقلبي، الدوي، الدوي. إستعدته القصيدة من أولها، وبذات التلقائية، بدأ من جديد:

النَّشيد الأول:

الرُّوح... مساءُ النَّشَادِرْ... طِبَاعُ الأرض:

فَرَّتْ عيونُ الأرضِ من ذاتِ الحريقِ........

(إسمك منو؟)

(أحمد محمد إبراهيم).

(بتقرأ وين؟)

(في الإسلامية.. طب).

كانت الأسئلة تتقطم دون أن تفصح عما أردت، كانت الأجوبة أكثر براءة من رنينها السريع. أمعنتُ ذاكرتي بالفتى النحيل حد أن تشتكي الثياب، الوجه المبتسم، صغير السن حتى بالنسبة لي. أمعنتُ يقيني في داخله الخارجي. موسومٌ كصاحب الوقت، حركة دائمة في سكون مقلق.

قلت لعبد الرحيم ليلتها: ( الود ده جبتو من وين؟).

بعدها اغتبنا روحه مشرحين ذراته بحسدٍ لذيذ. (يالعاديته التي تصدم بتعقيدها، يا لقربه العميق جداً). كان ذلك ما قلته في نفسي وأنا أتهيأ للرحيل خارج المدينة.

(2)

لن تعرف صدق الرجل إلا مما يكتب.  فإن قال، فلن تميز الصدق من الخيال. أحمل معي وريقات بها القصيدة كاملة، قرأتها قبل أن أقرأها، استوقفتني شهوات مشاغبة تتناثر في متن النص، كنا نرى أن التعبير المباشر عن غريزة الجسد الأولى، يفسد النشيد الشعري، كنا نلمِّح بأبعد ما نستطيع، حتى جاء هو ليقول بكل بساطة: تَرْقُصُ الْحِنَّاءُ فى عينيكِ/ يَرْقُصُ الصَّدْرُ الْمَضِيقُ الكَثُّ/ دهراً/ أشتهيكْ/ أتَعَالاكِ عَلَيّ/ ثم أنسلُّ كجرحٍ نَاعِلاً حزني/ وألْعَق**.  وذات قلق، هاتفت أحدهم ليخبرني دون تعمد أن الإسم صار (أحمد النشادر). لست على يقين بمن جاء بالإسم، ربما عبد الرحيم، ربما.  ورغم لقائي القصير به، لكنني رأيت كيف أنه في بداية أن يصير النشادر داخله، هو النشادر الذي يراه الآخرون، أو هكذا إعتقدت.

(3)

الأول من يوليو 2008م، صيفٌ شاخ سريعاً، الخرطوم، شارع البلدية. قال مأمون وهو متعجلٌ كالعادة: (إنت وأحمد حتقوموا تظبطوا المسائل، تعال ألاقيك برئيس التحرير). كنت متوجساً، فيما بعد صادفتني مقولة رامبو: (في نفسي ذعر من جميع المهن)، سبب آخر للتوجس كان هو أحمد النشادر. كنت أعرف مأمون، إلتقينا كثيراً في عصر الفوضى من حياتينا، أفهمه، أستطيع التعاطي معه. لكن النشادر.. كانت لقاءاتنا دائماً سطحية، سريعة، نتفادى فيها الإحتكاك. كنا حذرين من بعضنا دون مبرر غير أننا نخاف الصداقات الجديدة ربما. وانا أعبر صالة التحرير المكتظة، نظرت إليه بخواء يخفي تحته توتراً مخجلاً، نظر إليَّ نظرة خافتة.. وابتسم.

الأيام الاولى كانت صعبة، فجأة بعد غياب عامين عما يسمى بـ(المشهد الثقافي)، يجب علي أن أعمل داخل هذا المشهد الذي صرت لا أعرف عنه شيئاً. لم يتذمر، لم يظهر التأفف، على الرغم من أنه كان ينجز ثلاثة أرباع العمل. شيئاً فشيئاً، بدأت أراه. خرجت من أسر الصورة الأولى لفتى نحيف صغير السن وبرئ يقرأ علي (كتاب النشادر)، خرجت من صورته المعقدة التي لم أرها مباشرة ولكن عبر (الجينوم.. قنصل الأبد). هنا شخص آخر، شخص تمنيت أن أكونه أكثر من مرة.

(4)

لستُ النشادر، ولا ينبغي لأحد أن يكون. أن تقول في شخص ما تراه فيه، أمر عصي، تزداد صعوبته كلما زادت محاولاتك أن لا تكذب فيما يخصك، وأن لا تسقط في فخ المديح الرخيص. لست النشادر لأنني لست فناناً، لأنني لست واضحاً، لأن لدي ما أخفيه، لأنني لا أبتسم بصدق، لأنني أبالي بالتفاهات، لأنني لا أستمتع، لأنني لا أبتكر طرقاً جميلة لأتذوق خارج حدود المنطق والمألوف. لست النشادر لأنني أنا، سجينٌ، خائرٌ، مستهلكٌ، خاسرٌ، منغلقٌ، وأسأل حين لا ينبغي السؤال.

لا أحد النشادر، لأن لا أحد يملك القدرة لتحفيز من هم قريبين منه ليخلقوا أياماً أكثر قابلية لأن تعاش.

لا أحد هو النشادر، لأن لا أحد سيقول:

إنَّنِي النَّايُ/ زفيرُ الحُبِّ مِنْ فَمِ إمْرَأة./ حاشداً فِيَّ عصافيرَ سجينة/ حُرقةً/ أَنَّات طَلْقٍ/ كان أنْ حبلَتْ مسامي واْحترقْتُ/إنني النَّايُ/ مبعوثُ الرِّئَاتِ/ وملاءاتي الفَرَاغ/ عارفاً صمتي/ ومُؤْتَزِرَاً كتابي/ نافذاً صوتي / مُحَاطاً بالأثير/ أعتلي السُّمْرَةَ لوحاً / يرشفُ النَّاجِينَ مِنِّي من مُكَابَدَةِ الزَّفير***.

(5)

28 أكتوبر 2008، صحيفة الأحداث، صفحة 14: وسادة تنوّع مفترس. الخرطوم: أحمد النشادر. (وسادة هادئة من التنوع المفترس، ما يمكن أن يسيطر عليك وأنت تضع بصرك على مدخل معرض مركز توقيذر للفنون...الخ)****.

كان هذا آخر عمل صحفي له كمسؤول عن الملف الثقافي لصحيفة الأحداث، بعدها، إنتهى عصر النشادر. كنت موزعاً بين رغبتين، أن يظل، وأن يذهب ليصبح ما يريد أو ما يراد منه. فذهب هكذا، بسيطاً كمن لم يفعل شيئاً، كمن لم يخلخل الذائقة ويشكلها كما يريد. (دبرها أحمد النشادر)، تلك الحياة الذهبية، تلك الحوارات التي تنتظر. ما فعله النشادر في صحافة الثقافة، لن يُرى الآن. يوماً ما، سيكتشفون (هم) أنهم كانوا تلاميذاً لزمن طويل في مدرسة أحمد النشادر. تلك المدرسة التي ضد الملل. المدرسة التي تجعلك تنظر بأكثر من عين وتسمع بأكثر من أذن. مدرسة الغريزة التي تصيب وتصيب. فيما أذكر، أنه كان الأكثر تفهماً للحاجات البشرية (ومنها حاجاتي حين يطلب مني أن أسافر لمدة يومين مثلاً).  كان الأكثر قدرة على توليد الأفكار الجديدة، والأكثر مجازفة بين من عرفتهم.

(6)

هو موت جنون العظمة، إنتصار المجموع، تصالح التناقضات، كاريزما التساؤلات الحصيفة، فضيحة الإنسان في وجوده، شعرٌ مشاكسٌ يخدش عباءات (مريم الشجاعة) الزائفة، وسذاجة (شرف والأسد) المخيبة للآمال. عراقة تتكون في شرط فسادها بعلاقات التأجج الموحية. هو القميص، القميص.

(7)

............................................

.............................................

.............................................

(8)

كل فصول الصيف، وخريف أخير، كل ضحكات الصباح الهستيرية، كل حوارات الشارع ونحن نجمع المواد، كل التمرينات التي دربنا بها أذهاننا على ابتكار المفاجأة طي الروتين، كل أوراق الأشجار التي استرقت السمع لكتاب النشادر، كل الليالي المفعمة بالإرهاق وعشوائية البرامج المعدة سلفاً، كل نميمة بيننا عن الفلاسفة والدوبيت والشعر (أبو ضلفتين)، كل الخبث الساذج الذي جعلنا نضرب في الأرض بحثاً عن مشروع لم نتفق عليه ولم نعرف ملامحه حتى، كل الصفحات التي مُلئت بمضادات العادية الحيوية، كل الوقت الذي انقضى بيننا عن قرب ( 1920 ساعة)، كل هذا هو النشادر.

يناير 2009م

إحالات:
* كتاب النشادر - النشيد الاول
** كتاب النشادر –  النشيد الثاني
*** كتاب النشادر  -النشيد الثالث
**** تقرير للنشادر عن ورشة تشكيل بمركز توقيذر
عبد الرحيم: الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل
مأمون: الشاعر مأمون التلب

MEDIA


محفوظ بشرى

قبل أن تخفت أصوات الاعتراض على ما تبثه الفضاءات المفتوحة عبر شاشات التلفزيون إلى العقول التي ظلت مسجونة داخل الجغرافيا المحلية هنا؛ بدا وكأن هذه الأصوات أقرب ما تكون إلى هبة ريح خفيفة في مواجهة عاصفة لا تعبأ بالتذمر الذي تواجه به من قبل من تجتاحهم. واستمر هذا الاعتراض لفترة من الوقت إبان شروق شمس “المؤامرة على المشروع الإسلامي في السودان» كما كان يردد المتضررون من انفتاح البشر الذين هم موضوع ذلك المشروع على آفاق أخرى مغايرة قد تدفع بهم إلى التساؤل عما يمكن أن تكون عليه حيواتهم إن هم خرجوا على المشروع الذي ظل القائمون عليه يغذون قدسيته بتدعيمه بنزعات البشر التلقائية وردود أفعالهم على «استهدافهم». بعد ذلك استمر التذمر والاعتراض بالخفوت حتى لا نكاد نسمع اعتراضاً على المادة التي تُبث على الفضائيات إلا في ما ندر، حين فجأة يتذكر أحدهم أن وسائل الإعلام العالمية «تستهدف» البلاد و»توجهها» فيبدأ بتوجيه نيران النقد إليها ولكن دونما حماس واضح، إذ أنه في الغالب من المتابعين لما يبث في هذه الوسائط الإعلامية، أو ربما أهل بيته، أو أنه لا يعرف أين تكمن خطورة ما يحاربه في الحقيقة.
لكن في ظني أن الحرب على ما يسمى «القيم الوافدة والدخيلة» من قبل المتضررين من هذا الوفود وهذا الدخول، ليست حرباً واعية بما يكفي لبلورة خطاب واضح وقوي يواجه هذه القيم، ذلك أن ما تفعله «الميديا» وما يمكن أن تفعله لا يزال المفهوم عنه بدائياً لدى أولئك المتضررين وهم الذين من مصلحتهم المحافظة على نسق القيم الموجود كما هو من أجل تحقيق «مشروعهم» أياً كان ذلك المشروع. ذلك أنه يتم في الغالب تلبيس الحرب على الميديا بمناسبة أو حدث ما، ولا يتم وضع أساس تبنى عليه إستراتيجية طويلة المدى لخوض هذه الحرب، أي أن الإعلام جيد طالما لم يمس «ثوابت» يعتمد عليها النظام المحلي بما يهدد وجوده الذي يعمل على جعله دائماً وغير قابل للنزول عن «مكتسبات» تم الحصول عليها باستثمار أفق الوعي المتاح لهؤلاء الذين يتم اكتساب هذه المكتسبات منهم، ويصبح هذا الإعلام عدواً حين يمس ما لا يرغب سادة نظام ما أن يمس حتى لا يهدد وجودهم.
إذن، كيف يكتسب الإعلام هذه القوة التي بإمكانها السيطرة على عقول من يقعون في دائرة تأثيرها؟ لو نظرنا إلى التلفزيون بعيداً عن الفكرة المسبقة بالنظر إليه بوصفه أداة «تسلية» وحاولنا وضع احتمال بأن يكون أداة «تحكم»؛ إذن لربما أمكننا أن نرى بعض الأوجه الغائبة من مفهومنا عنه، فبرغم كل شيء يظل التلفزيون هو الذي يعلمنا كيف نعيش، كيف نلبس، كيف نتزين ونزين منازلنا، كيف يجب أن يكون سلوكنا، كيف ينبغي أن نفكر «بإيجابية»، كيف نأكل، وغير ذلك من أدق تفاصيل المعيشة اليومية، لكن أخطر ما يعلمنا إياه التلفزيون هو أنه يرينا ما النموذج الكامل الذي علينا السعي لبلوغه، وهنا مكمن عملية السيطرة العقلية التي يعالجها التلفزيون لدينا عبر التسلية، الترفيه، المتعة، أو أي المسميات لما يبث إلى تلافيف عقل المشاهد.
إن عملية صناعة «النجوم» تحتوي قدراً من الرسائل المشفرة التي تتسلل إلى أدمغة من تم جعلهم يضعون نجومهم هؤلاء نموذجاً يحذون حذوه مسيرين باللاوعي الذي يحرك عمليات استيعاب الرسائل المشفرة التي توضع حيث يمكن ألا ينتبه إليها المستهدف، هذه الرسائل تتعلق بالترويج لقيم موجهة سلفاً من أجل حصد المزيد من كل شيء، وهناك أمثلة حدثت لدينا هنا في السودان وإن بشكل بدائي، لكنها تعتبر خطوة في طريق محاولات إحكام السيطرة.
إن الفوبيا التي تنتاب المستفيدين من بقاء الأمور على ما هي عليه؛ من الغزو الفكري أو الثقافي، ما هي إلا رد فعل تجاه تهديد بفقدان السيطرة، إذ أن المحليين لا يرغبون في تقاسم السيطرة على الجماهير المحلية مع خارجيين لديهم مصالح أكبر قد تتضارب مع مصالح هؤلاء المحليين، مما يقود إلى التصادم في المصالح الذي يبرز فيه كل منهما أسلحته الدعائية، فبينما في الغالب يحاول الخارجيون كسب الصراع عن طريق بث خيارات للحياة ترتكز على أقوى محرك لدى البشر «الغريزة»؛ يجاريهم المحليون بالتمترس خلف غرائز مثل التديُّن والخوف من المجهول/الجديد، ما يجعل الأمر في النهاية صراعاً على شيء من التعقيد. إلا أننا نجد أن المؤسسات الإعلامية الكبرى كاسبة، وذلك لضعف آليات الصراع المحلية وفقرها المعرفي بالبشر، إذ أن أهدافها لا تتجاوز حماية النظام القائم دون آفاق أخرى لمكاسب أكثر من خلال تحويل الإنسان إلى مستهلك شره لما يقال له عبر التلفزيون إن عليه استخدامه، أو تحييده من الصراعات التي تدور حول السيطرة عليه.
في الأنظمة التي تعتمد أسلوباً أكثر قوة في السيطرة على الإنسان، يلعب التلفزيون دور الأداة الأولى في هذه السيطرة، فبالنسبة إلى البشر هناك، يؤخذ كل ما ورد في نشرة الأخبار على أنه حقيقة، وكذلك حديث كل من استضيف وبجانب اسمه درجة علمية أو سبقت اسمه كلمة «الخبير»، مما يسهل عملية تمرير الكثير من الحقائق المزيفة التي يكون الغرض منها خدمة قضية اقتصادية، تجارية، أمنية، وغيرها من القضايا المتعلقة بوجود واستمرارية النظام المسيطر. لكن عندنا هنا في البلاد التي لا يزال عليها أن تقطع شوطاً طويلاً حتى الوصول إلى مرتبة الدول الأخرى «العدو»؛ تمرر الأشياء بفجاجة أشبه بالأوامر العسكرية، فيؤتى بمن له سلطة ما «دينية، اجتماعية، وغيرها» ليقدم نصائح مباشرة. لا زلنا - لحسن الحظ - بعيدين عن خبث تمرير الرسائل مغلفة بما يجعلها تبدو  وكأننا اخترنا محتواها، إذ يخفى علينا التوجيه الذكي الذي جعلها تتسرب بكل بساطة إلى عقولنا.
يقوم التلفزيون كذلك بصنع الأيقونات، النجوم الذين يشكل الانتماء إليهم رابطاً يستخدم بذكاء لتسيير حياة المسيطر عليهم وفق ما يشتهي من يمسك بالخيوط. إن الخطورة في «النموذج» أنه يعمي عن كل ما سواه أثناء سعي الآخرين نحو التشبه بهذا النموذج، إن خارجياً في المظهر، أو إن في طريقة العيش، ففي الحالين هناك من يكسب من هذا التشبه، ويكون هذا بطريقة لا تشابه ما صادفني قبل عدة أيام في إحدى الصحف، إذ نشرت إعلاناً لبيع الرسائل (sms) المتعلقة بالفقه والحديث والسيرة والسنن، وقيمة الرسالة ١٥٠ قرشاً غير شاملة الضريبة، وفي حين لم يوضح الإعلان إن كانت الرسائل اختيارية أم لا، أي أن المشترك تأتيه الرسائل حين يطلبها أم أن لا خيار له في متى تأتيه وكم عددها؛ نجد أن مقدمة الإعلان توسلت بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، بعبارات توحي بأن من لم يشترك فمحبته له غير تامة. إن هذا لا يشبه دعاية الشامبو التي يظهر فيها كريستيانو رونالدو ليقول إن اسمه كريستيانو رونالدو وهو يستخدم شامبو (....) للقشرة، فهنا كريستيانو لا يعظ أو يطلب من المشاهدين أن يستخدموا الشامبو، إن الإعلان يعتمد على عدة مستويات تستغل نجوميته، فالبعض من المهووسين سيستخدمون الشامبو على الفور لمجرد أن نجمهم المحبوب يستخدمه، والبعض الآخر سيفكرون أنه لولا أن الشامبو جيد لما قام بدعايته نجم، هدا باستبطان أن النجوم لا يخدعون محبيهم بافتراض أن النجم يبادلهم الحب، فطالما أنهم لن يخدعوه فلن يخدعهم هو كذلك، وهناك من سيفكرون بأن الشركة المنتجة طالما استعانت برونالدو فهي شركة غنية إذ أن فاتورة هذا النجم باهظة، إذن هذه الشركة الغنية ستنتج منتجاً يتناسب مع غناها هذا، وسيكون غالياً، والغالي بغلاتو يضوقك حلاتو كما قيل لنا بصيغ مختلفة.
هل لاحظتم بدائية الإعلان الأول وذكاء الإعلان الثاني؟
على مستويات أكثر تعقيداً تتم الدعاية لمنتجات، مفاهيم، أنماط حياة، قوانين سلوك، وغير ذلك من التفاصيل التي تسيِّر الحياة، وكل ذلك دون الانتباه لما يدخل مخلوطاً بالتسلية، الأفلام، الرياضة، الدراما، الأخبار، التقارير، البرامج التعليمية والتثقيفية، وغير ذلك.
إن قوة هذا المكعب السحري (التلفزيون) تكمن في أنه ينتهج الصورة وسيلة لإيصال ما يريده المتحكمون فيه. الصورة - في رأيي - تشبه الحقنة، تحقنها في الوريد فتدخل على الفور إلى دورة المحقون البيولوجية سواء أكانت مفيدة كما يفترض بها أم مضرة وتؤدي إلى آثار غير المقصودة منها، بينما تشبه القراءة أقراص الدواء، تبتلعها فتمر بمراحل كثيرة ليتم في النهاية استخلاص ما ينفع منها قبل الدفع به إلى الدورة البيولوجية للمبتلع، لذلك مثَّل التلفزيون الأداة الأمثل لتمرير المخططات من قبل المخططين للسيطرة على العقول وتوجيهها.
في ظل ضعف النظام المحلي في مجابهة آليات النظام الخارجي الذي يسعى إلى السيطرة على جميع من على البسيطة؛ تبدو المعركة محسومة، ويمكن القول دون الخوف من الوقوع في خطأ كبير إن مشاهدي التلفزيون في السودان يشاهدون قنوات غير سودانية بأكثر من نصف الوقت المتاح لهم للمشاهدة، وهذا يعني أن الرسائل والقيم التي تمرر إليهم يومياً هي تلك التي تخدم نظماً أخرى غير النظام الذي يعيشون تحت سيطرته، مما يجعل خيار هذا النظام أن يمرر ما يريد عبر الوسائل المقروءة والمسموعة، وهي لا تعطي ذات قوة التأثير التي للمرئي، المدعومة بالعاطفة الجاهزة لتلبس ما يوضع أمامها حتى دون مراجعة أو محاولة هضم، بذا يمكننا فهم تشبث السلطة هنا في السودان بأن تكون الصحف تحت سيطرتها مثلها مثل الإذاعة والتلفزيون، فهي المنفذ الوحيد الذي يمكن للسلطة أن تحكم قبضتها عليه دون الخوف من مزاحمة آخرين، وإن كانت حتى الصحف الآن تتعرض للهجمة بسبب ظهور الإنترنت، وهو على الرغم من أنه ليس مثل التلفزيون في اتساع نطاق الحصول عليه واستعصائه على الرقابة، إلا أنه بكل المقاييس أحسن حالاً من الصحف التي يحكمها قانون المكان.
أخيراً، أذكر أنني شاهدت فيلم «الرجل الراكض» إن كانت الترجمة صحيحة، وانتبهت إلى أن في الفيلم تم حذف أهم ما تقوم عليه الرواية التي أخذ الفيلم عنها، وهو أن التلفزيون كان مفروضاً على السكان من قبل الحكام ويعتبر عدم اقتناء تلفزيون جريمة يعاقب عليها القانون. إذ قامت الرواية على أن في المستقبل سيتم التحكم بالناس عن طريق التلفزيون الذي يبث التسلية طوال الوقت محشوة بتعريف من هو المواطن الصالح ومن المجرم بما يشبه غسيلاً للدماغ، لكن ولسبب ما قامت هوليوود بإعادة إنتاج المعنى ليصبح معبراً عن أن البحث عن نمط العيش الذي يتم الترويج له الآن، في المستقبل هو الغاية النهائية التي يسعى إليها البطل «النموذج» أرنولد شوازنيجر، وهذا يشبه ما فعلته هوليوود بشخصيات مثل جيفارا وكلاي وغيرهما من النماذج غير الخاضعة تماماً لسيطرة النظام.

إلى صديقي أحمد: (يرهقني البشر )

محفوظ بشرى
صديقي أحمد:
أكتب مخاطباً إياك، لأنني شعرت بحاجتي لأن أقول لك، تلك الحاجة التي كانت في تلك الأيام تتمخض عن حوار أشبه ما يكون بحوار (الطرشان)، فقط محض إيماءات وإشارات مبتورة لمن لم يكن أينا، لكنها في عميق حقيقتها كانت إكمالاً لفجوات تفاصيلٍ صارت أكثر من مُفَكَّرٍ فيه في الآن واللحظة، كانت أكثر من ذلك، تندرج ضمن نسيج حياة متغيِّرة نحياها، تفاصيلها تروغ وتنزلق وتتلاشى حين نكاد نلمسها، لكننا ما فترنا من ملاحقتها،  تلك الملاحقة التي أعتقد الآن أنها ما يُسمى الحياة.
كانت الأشياء واضحة، ثمة خير وشر، صواب وخطأ، كان الهدف جلياً بما لا يقاس، ساخناً، يكاد يكون حقيقة،  وكنا أكثر شباباً من أن نرى كيف أن الأشياء لا تسير وحدها فقط؛ ولكننا نسير كذلك. أما الآن، فلا أعرف أي اتجاه سيفاجئ أنفي بلطمة الصديد.
صديقي أحمد:
أرهقني البشر. هذا الأمر ليس جديداً، وأنت تعلم ذلك، كثيراً ما قلت لك إن البشر يرهقونني، فهم يسببون لي ارتباكاً حين أحاول فهمهم. أخبرتك ذلك، في تلك الأيام الصفراء حين كنا نحتسي خيباتنا الباردة، حين شعرنا لأول مرة باللدغة التي أيقظت ما كان في سبات الإيمان. أنت تذكر بلا شك تلك الأيام التي تلونت فجأة بالرمادي، أوان اكتشافنا أولى قطرات ما كان جامداً حتى بدأ يسيل بفعل حرارة المحكات التي تتالت لتفضح أي نتانة كانت تختفي خلف تلك المقولات الزاهية. أرهقني البشر، بلا شك أن ذلك كان من نبوءاتك السرية التي لم تطلعني عليها، أثق في هذا، لأنني أثق بك، أنت، آخر مسمار يجعل لهذه الكلمة معنى ما، يكفي لأن يكون ملاطاً يمسك هيكل ذاتي، ويلصق أجزاءه ببعضها. لم تكن ثقتي عمياء كما يقولون في الأدبيات القديمة، ولكنها كانت إيماناً آخر يوازي ما تورطت في فقدانه، الإيمان الذي غاب وقت أن تبدى عدم الرضا، ثم بعد أن حل محل الأجوبة التي كانت تكفي لإسكات ذلك الطفل الجائع المتسائل باستمرار عن جدوى وجوده، وعن جدوى جدوى وجوده ذاتها، الطفل الذي لم تشبعه المسلمات الجاهزة لتبرير كل شيء بالوصول به إلى نقطة ما بعدها إلا الانقلاب على ما يمكن أن يؤدي إلى عالم آخر بسيط وملون بألوان لا تستفز بذلك الخلط اللانهائي الذي يفرخ لوناً كل رمشة عقل.
 أرغب في الثرثرة معك، الحديث عن أشياء عادية للغاية، سكونك وسكينتك حين تراقب قلقي ونفاد صبري، أرغب كثيراً في بعزقة الوقت في سياق عبثي لا يفضي إلا إلى طرفة (بايخة) تضحكنا. وفي ذات الوقت أحتاج أن أتجاذب معك حياكة الأفكار ونحن نجدف نحو الأعمق في إحداثيات لم نتوقف هنيهة لنتساءل عما إذا كان أحدهم طرقها قبلنا.
(كل خطاب هو خطاب مضاد، بالنسبة لخطابات أخرى «حتمياً»؛ أو بالنسبة إلى عناصره الداخلية «افتراضياً»، مما يعني أن البحث في قراءة العناصر الداخلية للخطاب والعمل على تعرية آليات اشتغاله المخفية؛ يؤدي إلى صنع خطاب موازٍ صالح للتحطيم، بما يحطم الخطاب الأوَّلي). أترى؟ لا زلت أذكر تلك البداية التي لم ندرك - رغم بدائيتها وسذاجتها - إلا بعد وقت، كيف غيرت مسار الرؤية، وكيف بعثرت المسلمات التي سوَّرت الطريق الذي صعب تركه. لا زلت أذكر، الثورة الحارة السابعة، بالقرب من منزل (ناس أكرم)، بيت بلا سقف، المغربيات الدافئة، محاولة ابتكار (منهج) لقراءة ما يبدو غامضاً، انطلاقاً من أن الغموض ثياب تخفي ما يفضح، وأن علينا تعلم كيف نخلع من الخطاب ثيابه، فالعري مرحلة أولى لمعرفة ما تحت الجلد، مرحلة أولى قبل التشريح.
أذكر جيداً كلما غامت الرؤية كيف بدأ كل ذلك، وإلى أين وصل بنا، أذكر المحاولات الأولى لاختبار الفرضية، نماذج الخطابات بسيطها ومعقدها، أذكر الصعوبة والجهد ونحن نحاول التفكير صامتين كل على حدة، أذكر محمد سبيلا، الآيديولوجيا نحو نظرة تكاملية، آفانا سييف وأسس المعارف الفلسفية، أذكر دهشة اكتشاف كم الجمود الموجود في المذاهب التي تحارب الجمود، كل ذلك وأكثر، شكل أولى قطرات الشك، الشك المقدس، الذي أفضى إلى العدم أولاً، ثم إلى تعلم كيف تُقرأ الحقيقة غير الموجودة في إطلاقها المحكي عنه.
أتعرف أن المفهوم الطريف الذي وضعناه لعلاقة الإنتاج لا يزال يحكم بعض مواقفي تجاه العلاقات الاجتماعية؟ أمر مدهش هذا، حين أتذكر أن المتعة تصلح لأن تكون قيمة محسوبة، لها ثمن، ولها سوق، أنا أتحدث عن المتعة بإطلاقها وليس عن نوع واحد.
صديقي أحمد:
كما كنت أقول، البشر مرهقون، فهم غير واضحين، أعني أن تعقيدهم من النوع غير الواضح، وهذا يرهقني. إنهم يفعلون كثيراً من الأشياء لا لأنهم يجب أن يفعلوها، ولا لأنهم يريدون فعلها، ولكن لسبب لا أعرفه، لا تبدو لي الأمور منطقية. قد تسألني: وما المنطق؟ نعم، ما المنطق. هل أصلح أنا أو أنت أو أي واحد لأن يكون منتهى ما، نموذجاً، الثابت الذي تقاس به الأشياء؟ هل من حق أيٍّ كان أن يحدد، أو أن يحكم، أو أن يضع القيمة؟
إن كانت الإجابة لا؛ إذن ما الذي يحدث؟ لماذا نحيا سلسلة من الأحكام والتقريرات بناء على منطق ما أو بناء على هوى؟
وإن كانت الإجابة نعم؛ كيف ولماذا ومن أين جاء هذا الحق؟
إنها الفوضى بلا شك يا صديقي، الفوضى الجميلة التي يخافها البشر لسبب ما لا يفصحون عنه صراحة، الفوضى التي أحلم بها سراً، وأعرف أنك لا تحبذها مثلما لا تحبذ القوانين. هل أنت متناقض؟ هل سألتك هذا السؤال قبل الآن؟ لا بد أنك لم تجبني لو كنت سألتك.
صديقي أحمد:
أتحدث إليك، وأعلم أن حديثي هذا يشبه أحاديثنا القديمة، محض إشارات وإيماءات تكمل فجوات وأحاديث لا تكتمل، ونحن نحلم بالتليباثي ليكفينا مشقة نقل الأفكار بطريق الصوت، تلك الترجمة التي تحدثنا عنها مراراً، وكيف أن الفكرة حين تقطع الطريق بيني وبينك تكون فقدت الكثير، تصل ناقصة ربما، أو تتغير عند مرورها بأوساط مختلفة الكثافة. لكن الكثير حدث، منذ تلك اللحظة التي أدركنا فيها أن هنالك ما يسمى الخطاب، وحتى الآن، وأنا أرى كيف كانت بداية متواضعة وتفتقر إلى الضبط اللازم للتحول إلى نمط، إلى أداة مطاطية تصلح لأن تتمدد بمرونة مذهلة لتحتوى الكثير، تصلح – في ظني – لقراءة على شيء من الوضوح، صانعة ما أحب أن أسميه (التحطيم) في انحياز سري لـ لوكاش، لكنه تحطيم فوضوي (لا زلت أظن الفوضى شيئاً جميلاً) ينتفي منه الهدف بتقليديته المدرسية الكابية.
صديقي أحمد:
أتظن أن يوماً سيأتي ويطعن محاولات التحلل من القيود بإثبات ضرورة القيود؟ أقول هذا لأنني أظن أن الضرورة هي ما تبقى من وقود يحركني، لكن في اتجاه فهم أنماط الضرورة ومحاولة الانفكاك منها، والضرورة ربما كانت قيداً كما أستبطن، لكن كما قيل لي؛ طالما أنني أموت؛ فلا فكاك من القيد، لذا أكره الموت.
صديقي أحمد:
متى سيختفي النعت من اللغة؟ متى ستصبح الأرقام محض أرقام؟ متى ستتوارى التعابير التي تحط وترفع؟ متى سيصبح البشر بشراً؟ متى سيموت الموت؟

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...