السبت، 7 سبتمبر 2013

أزمنة الصادق الرضي وزمان جلال مسعود

عن ضجة الحنين في الخلايا.. عن زهو الدم القديم

وأنا أسمع –في الآن- (يا مداعب الغصن الرطيب) يدلقها جلال مسعود شوكةً تلو شوكة إلى مدى ما تصل؛ لا من (شريط مسجل) مثلما كان والتسعينيات الصفراء تحجل قبل ركضها، بل من جهاز الكمبيوتر أمامي عبر سماعتي أذن؛ وأنا أسمعها الآن أكاد أبكي، مثلما أكاد أبكي كذلك وأنا أتشرّب:
(تصعدُ الجدرانُ في اللبلابِ
والخرطوم واقفةٌ على ساقٍ تغنِّي
هل ينامُ النيل؟!
كُنَّا عاشقَيْنِ نهدهدُ الأطفالَ
- ما اْسْمي؟!
- أُسَمِّيكِ حضورَ الأرضِ فاقتربي
- وما طعمُ البكاء؟!)*
زمنان بينهما دكنة الرمادي المجلل لكادر الصورة التي تتقادم، الرمادي وهو يغطي –أيامئذ- رائحة التحولات الكبيرة، والبلاد تزحف في صليل المحتَّم المخفي طي جراحها.
(جيت أساءلك
لو صحيح الريدة حيَّة
أو صحيح الغربة طالت
وفتَّحت جرح الأسيَّة
لو لقيت روحك وفية...)*
وما الصادق الرضي، إن لم يكن صورة (stamp) على ورق الغلاف الخلفي لديوان غير متناسق القطع ومتناسق المذاقات يحمل ما تسرب -سمعاً- قبل ذلك؟ ما الصادق الرضي إن لم يكن من نحن أدرى به وهو يحدثك عن كل شيء إلا الشعر لشيء في زمن الشاعر!
ولجلال مسعود أزمنة عدّة، يحملها صوته جنباً إلى جنب رفقة الأورغن، العود، أو رفقة الخلاء الفسيح الذي يقاوم الرائحة؛ حين كل شيء يفوح بالدين حتى الغناء. لجلال مسعود عرفاننا نحن، واحترامنا حتى الثمالة، إذ يأخذ بأيدينا عبر صفارٍ لئيم، صفار ضد الحياة، ليخبرنا بأن ثمة ما يطرب، ما يخز غير (الله أكبر ياهو ديل).. ثمة خضرة وثمة نهر خلف تلك الصحارى.. وما جلال مسعود إن لم يكن من أنبياء بعثروا مخزن الوقت لنخرج نحن من جلباب الموت إلى عري الحياة.
 (أماه يا خضراءُ
كيف تردِّدين: الصَّبْرُ مفتاحُ الفَرَجْ!
الصبرُ لا يأتي بخبزٍ
أَشعلي كَفَّيْكِ
إنَّ النَّارَ مِفْتَاحُ الفَرَجْ!
النَّارُ يا أماه
ليس الصَّبْرُ
ليست تمتمات الشعوذةْ!)*
والكتابة حبٌّ؛ والحبُّ دربٌ في ذاكرة الجهات. تركب (البرينسة) في غبار الصباح البارد: الديم، الجنيد، ود السيد،....، و... رفاعة! ثمة شيء هناك وليس جلال مسعود فقط، ليس الأورغن، ولا عداء الكودة في الضفة الأخرى للنهر، وليس –كذلك- عداء المحيط كلّه للحياة، ولا نيران المقاومة. يعني جلال مسعود الحب، حرية أن تكون مراهقاً دون ذاكرة الجحيم والجنة، يعني كسر دائرة التعريف وإعادة تسمية الأفعال خارج دفتر (العيب) وما ليس كذلك.
(صدفة غريبة.. بتمر عليَّ
إنسان بعزو.. شايلو في عينيّ
جافاني وصدَّ.. تاني ما بعود ليَّ
الزمان أشجانيييي والسهر طال بيَّااااااا
لااا للللااا)*
وما مرّ خلف السنوات لا يُحصى أثره، بل يُرى، منذ الهوس بتلك التي لإدريس الأمير (عرفنا هذا بعد أعوام)؛ وحتى ما نفض عنه صفوت الجيلي الغبار:
(صب دمعي أنا أنا أنا قلبي ساكن
حار فراقك نار يا سواكن
السكونك وسط البحور يا سواكن
كنتي جنة ومليانة حور يا سواكن...)*
لم تكن التسعينيات جنّة، فقط الصفار وإحساس يخز الروح بأن ثمة من يسرق ذاتي، وأن ثمة هواء مفقوداً.
للصادق الرضي قيمته؛ تلك التي ندريها نحن أبناء النار. له ما يجعل اسمه مرادفاً لفوران هادئ يكاد يتنفس، له ما أردنا في غضون الأيام: ضراوة الحياة.
وللصادق مزاجه إذ نرعى حشيش الأرق القديم؛ فتتناثر كويكبات الاختناق كل حين شهيق؛ ولا هواء:
(خُذْ من شُعَاعِ الشَّمْسِ نافذةً
وحَلَّقْ في فضاءاتِ الغيابِ
إلى رحيلٍ أبديّْ
لا مكانَ الآنَ لكْ
والله يَسْكُنُ بالأماكنِ كُلِّها)*
وكأن جلال مسعود في مساءاته الخالية من الكهرباء، يتسلل خلف قلق العثور على الخبز والسكر، وخلف قلق الأمطار الوشيكة، وأنواع أخرى من القلق لآخرين (قلق ألا تأتي البنت، قلق أن تأتي الشرطة فيفسد كل شيء...)، وكأن جلال مسعود يتسلل من بين أصابع القهر ونحن ننتظر الحفل الخالي من تصوير الفيديو حدثاً يصنفر ما يتراكم على معدن الروح، من المدارس والسوق وعراكات كرة القدم وسيرة الممنوع والرهبة وليالي المطاردة في لا شيء.
وما جلال مسعود إن لم يكن حالة كامنة طي صوته؟ ليس مغنياً –لنا نحن أبناء الرمادة- بل هو الوعي بإحداثيات الزمان، هو إعادة وصلٍ ضد ما قُطع:
(الفي دلالو وما أعظم جلالو
استحل هلاكي ولي حرم حلالو
الهلال الشغل الناس هلالو
الظلام حين شاف محيو انجلالو
ناضرة خدودو بالأنوار يلالو
أراح أنفسنا بريحانة خِلالو)*
والصادق على مرمى أمتار من النهر، على مساطب أتينيه؛ يخز بشوكة الصمت مغربيات الشاي؛ شاشة العرض التي تمر عليها أجيال: نمرّ نحن، ومن قبلنا، ومن قبلهم، والصادق (نازل من نهار سرِّي..
مغبَّر ثرثرة..
مهمل..
حليق الكف..
إلا من الخطوة وضحايا الرمل)*
على بعد سنوات؛ يفرك جلال مسعود غدد الانفعال فتسخن، تلتهب، وهو يطلي التسعينيات بصوته؛ ما تبقى من بهاء الثمانينيات، وما قبلها كذلك.
(كم قلبي بالأنفاس لأنفاسك غمر
الجو سكر من ريّك اتعطر خُمر
ما بنسى ليلة كنا في شاطي النَهَر
نتعاطى خمر الحب بكاسات الزَهَر)*
والصادق يلتحف (شوشة) خارج أزمنته ويغني –كذلك- ربما للصاغ محمود أبوبكر، أبوداود، وما لا يكاد أحدنا يتبينه من غميس بئر الحقيبة، على حين صرخة من عشيّات رفاعة، وعلى بعد رائحة من البروق التي تشق اللون الكحلي لسحب البطانة في عصريات المجهول؛ تبدو أزمان الشاعر أكثر دكنة بالريف، أكثر بعداً عن ذواتٍ تتخلّق في القادم.
يبدو جلال مسعود في زمنه المحشو حُبّاً؛ خارج الأيديولوجيا؛ إذن، خارج قيد الأسطورة إلا في قلوب من دافعوا به ضد حماسة مخنوقة تصيح:
(أنا عائد أقسمت أني عائد
والحق يشهد لي ونعم الشاهد
ومعي القذيفة والكتاب الخالد
ويقودني الإيمان نعم القائد..)*
يخرج الصادق ناضجاً، هي بساطة يعرفها صيادو اللحظة من بين شوك التوقعات.
 يخرج جلال مسعود مغبراً بالكودة، لجنة الإجازة: التجاني، القتلة. هو تمرّد يعرفه الساكنون في تلافيف الذهن (العام).
وجلالٌ زنقار الآن؛ بزمنين، صوتين، وجهين للعنة، وزفير يملأ الجهة التي إليها الاستناد:
(دنت الثريا بقت قريب
بين السلوك في تاني دور
في ثانية كم سطعت بدور
وأهلة كان نوعن غريب
شيء ينعش الروح في الأديب
ويحيي روح ميت الشعور
للقاك تنشرح الصدور
ويفرح القلب الكئيب
يا مداعب الغصن الرطيب)*

(يلخص ياسر فائز، وهو محرر ثقافي عمل بأكثر من صحيفة خلال الأعوام الخمسة السابقة؛ يلخص واقع الانحطاط المعرفي المعاش الآن، بمفارقة طريفة مفادها أن الشاعر الصادق الرضي، منذ أن غادر البلاد إلى بريطانيا في يونيو من العام الماضي؛ نشرت عنه صحيفة "الغارديان" البريطانية وحدها، أكثر من 11 مقالا، بينما لم تتناوله الصحافة السودانية كلها أكثر من خمس مرات. بل إن الصحيفة التي كان يعمل محررا ثقافيا بها فصلته من العمل في الوقت الذي تضع فيه بريطانيا نماذج من شعره في متحف لندن!)*
يضحك الليل. يضحك النهر المستلقي قرب صحراء التيه تلك، تضحك الرحلة التي قطعتها أزمان الشعر وثناً وثناً، ويضحك الصادق عابراً نهارات التعثر في اليوميات الدفينة للأصدقاء.
للصادق انحيازه إلى معتم الزوايا وإن تشابهت؛ شهوته للحياة الثالثة، ومنزلة لا يراها ربّاطة اللغة؛ لا يطأ بساطها من يزحمون الزمان.
للصادق نحن؛ آخر من تبقى من القارئين؛ أبناء الخيال المحض، ذوّاقة ما لن يتذوقه أحد بعد هذا.. أبداً. حقاً، للصادق ما سيندثر لولا بلادٌ في حبال الممكنات.
وجلال يغني – كما ينبغي للجلال أن يكون- رافعاً غطاء البلاد التي تهتز في فوراتها؛ سيلانها الضاري نحو مأكلة هي نحنُ، بآفات ليست –ولا ينبغي- نحنُ.
يغني جلال مسعود، لا بصوته، بل بآخر رجفات الروح التي تخرج في الآن –حينها، روح التسعينيات وهي في حجر أمها لم تزل. هو جلالُ شيء يتبخر تحت وطأة الظلام، شيء نزّاع وغريب.
(أنا صادق في حبك لو قلبي
يتصل بي قلبك.. هذا مقصودي
أنا أقصد ودك وأنت تحرمني
النظر في خدك..
لأذاي ديمة باذل جهدك
مع علمك بهواي منذ أيام مهدك.. إنت مريودي
إمتى تنجز وعدك وعني يذهب نحسي
وليَّ يطلع سعدك.. يا حبيب غثني
ما بطيق نار بعدك وإنت عارفني
ما بعيش من بعدك.. انتهى وجودي
الشباب في عصرك جملة معترفين
لجمالك وحسنك.. يا مهدّل يا مفدّل
يا المهفهف خصرك الكواكب والحور
قاصرين عن قدرك.. كيف أنا هجودي
إمتى يفرج سجنك وأشوف صورتي
في مراية وجنك.. تنجلي عيوني
بي تغزُل حسنك أكوي عذَّالي
بالتقرب منك وفيك أرى سعودي
قال لي لازم.. صبرك من وصالي قريب
الدخول في قبرك من زمن يا عشوق
ليَّ قاهر أمرك والعفاف يمنع قلبي
ليك يتحرك.. والجفا شهودي
قلت له بحق ربك أسلي كل أهلي
لو حظيت بي قربك حظي لو ساعد
ثانية بس أظفر بك بعد ذلك أموت
ما في شك بفخر بك إنت مريودي)*
من يغني مثل هذا في محيط كله نار وكله مقتلة؟ التسعينيات؛ أول الصدأ وهجمة العدم الكبرى، لكنها مركب جلال مسعود ليشق بحر النار ذاك، ولنشق –نحن- صغاراً شرنقة ما أريد لنا.
من يغني مثل هذا؟ فيكنس صوته شقوق البيوت الحكومية الصفراء، قيح راكبي المواتر الجدد، الأخضر الزاحف لا حسناً ولا ماءً يروي ظمأ الأيام، يكنس -بفعلٍ قادمٍ- ما اختزنته البلاد من العباد؛ عبادها، ومن أسئلة الصادق الرضي التي تشنقنا على ظل النخل في ماء النهر آناء التذكّر.
(لم أَقُلْ: إنَّ الفضيحةَ قد تراءتْ
في تلافيفِ العُمامةِ
وامتدادِ اللحيةِ ـ الزيفِ
لماذا لم تَقُلْ؟!
إنَّ العماراتِ استطالتْ
أفرغَتْ أطفالكَ الجوعى على وسخِ الرَّصيفْ
أنتَ تعرفُ أنَّهم يقفونَ
ضدَّكَ
ضدَّنا
ضدِّي
وأعرفُ أنني سأظلُّ ضِدَّ السُّلْطةِ ـ الـ لاوَعْيِ
نحنُ الآنَ في عُمْقِ القضيّةِ)*
هي "الظلال الجريحة"، والصادق في نهارات (أم جمعة) تدهمه دفقات صمتٍ، تقطع استرسال ضحكة، أو رشفتين من كوب القهوة، أو –ببساطة- هي الإشارة حين يكاد يصدأ تشبُّثٌ أخير بزمان تبعثر ساكنوه وبقي الصادق...
(ليقولَ، يكفي أن يفرِّغَ صوتَه من النُّعاسِ
ويمضي بخفَّةِ شمعةٍ
أو نجمةٍ
وحدها بقيتْ
تمشِّط الغرفةَ كلّها
أو تَنْقُضُ الفضاء)*
هي "الظلال الجريحة"، والصادق (سلطانٌ يكابدُ صُدْفَةً ما.. يجالدُ السُّلْطةَ بكأسِ القطرانِ)*.. هي الظلال ذاتها التي تضربها حيرة الآتي، في الصيف شديد السخونة؛ صيف (89م)، وصوت جلال مسعود بعده بسنوات قليلة يصبح المضاد الكامل للموت، اللاشيء، وترياقاً لقسوة الانضباط.
هما صوتان يجمعهما توق إلى معادلة الخراب بارتدادٍ إلى زهو الصبا. يلتقيان في ضيق المسافة بين الأزقة والخلاء الصرف؛ في انحياز إلى الذي يبقى؛ لنبقى شاهدين على حياة المعضلة. ويغني جلال؛ مدخلاً لنا مبكراً إلى هاشم:
(هسه خايف من فراقِك لما يحصل ببقى كيف
زي ورد في عز نداه خوفه بكرة يزوره صيف
من عِرفِتك كنت حاسس الزمن لي ما بسيبك
كنت حاسس رغم حبي إني زي الما حبيبك)*
وجلال مسعود يضرب كبد الأورغن لينوح؛ فتنوح الخلايا التي ستشيخ كمداً ونحن نرى كل شيء ليس كما نريد؛ نزحف نحو البعيد تصحبنا مواجع صغيرة تبددها لذة الاستعانة بغبار الآن في آنيته؛ وبشحن الدم حريقاً في جريانه صوب الضياع.
هي سنوات غنّى فيها جلال مسعود صعودنا صوب الأوكسجين المحرّم، طلى فيها الصادق الزمن ليناسب مقاسات ما أردنا سرّاً خلف الوصاية. هي السنوات تنشب الآن فينا الحنين إلى الزهو القديم.
(الخدود نجفة
العيون السود الحديث عفة
 البضوي الليل
في مشيهو تقيل خاتي من خفة
يا حليلو القام للبلد قفّ
البضوي الليل)*

ـــــــــــــ


الهوامش:
* (تصعدُ الجدرانُ في اللبلابِ...الخ): الصادق الرضي - قصيدة النيل ـ قراءة الشمس - (غناء العزلة) 1996م.
* (جيت أساءلك): يغنيها جلال مسعود بالأورغن- من أيقونات التسعينيات الباكرة في شرق الجزيرة.
* (أماه يا خضراءُ... الخ): الصادق الرضي - كتاب الفقر واللعنة – (غناء العزلة) 1996م.
* (صدفة غريبة.. بتمر عليَّ...): يغنيها جلال مسعود  بالعود (قعدة).
* (صب دمعي أنا يا سواكن): أغنية فنان الشرق إدريس الأمير – اشتهرت بصوت جلال مسعود في تسعينيات القرن الماضي بشرق الجزيرة
*( خُذْ من شُعَاعِ الشَّمْسِ نافذةً... الخ): الصادق الرضي - غناءُ العُزْلَةِ ضِدَّ العُزْلَةِ - (غناء العزلة) 1996م: وهي قصيدة شهيرة للغاية، غناها الراحل مصطفى سيد أحمد فزادها ناراً على نارها.
*(الفي دلالو وما أعظم جلالو): من أغاني الحقيبة التي أداها جلال مسعود بالأورغن، وأداؤه فيها يحمل رائحة (زنقارية) بتنقله بين حالتين من حالات صوته المدهش؛ فيكون رقيقاً ثم غليظاً.
*(نازل من نهار سرِّي... الخ): ابتدر عاطف خيري قصيدته هذه بإهداء يقول: (إلى أ.أ وهو كالعادة لا يغسل يديه قبل الرسم) ووقر لدى الكثيرين وأنا منهم أن (أ.أ) ليس غير الصادق الرضي.
*(كم قلبي بالأنفاس لأنفاسك غمر): سحر محمد بشير عتيق بصوت جلال.
* (أنا عائد أقسمت أني عائد): من الأدبيات الجهادية التي احتلت حيز السمع في التسعينيات الباكرة وكانت تُحسب ضمن الفنون!
* كانت (يا مداعب الغصن الرطيب) تكاد لا تُسمع في بلدتنا وما جاورها –في زمن ما- إلا بصوت جلال مسعود.
* (يلخص ياسر فائز، وهو محرر ثقافي... الخ): تأتي المفارقة الأعظم هنا في أن هذه الفقرة بالذات كانت عرضة للحذف من قبل أحد رؤساء التحرير بدعوى عدم إغضاب تلك الصحيفة التي فصلت الصادق! وهو الأمر الذي تسبب في جدال كانت نتيجته استقالة الكاتب من تلك الصحيفة.
* (أنا صادق في حبك): سحر عمر البنا وسحر جلال مسعود ودهشتنا حينها والآن.
* (لم أَقُلْ: إنَّ الفضيحةَ قد تراءتْ في تلافيفِ العُمامةِ.... الخ): الصادق الرضي - غناءُ العُزْلَةِ ضِدَّ العُزْلَةِ - (غناء العزلة) 1996م
* (ليقولَ، يكفي أن يفرِّغَ صوتَه من النُّعاسِ... الخ): الصادق الرضي - بئر الأحاجي - (أقاصي شاشة الإصغاء) 2001م
*(سلطانٌ يكابدُ صُدْفَةً ما.. يجالدُ السُّلْطةَ بكأسِ القطرانِ): الصادق الرضي - بئر الأحاجي - (أقاصي شاشة الإصغاء) 2001م
* (هسه خايف من فراقِك لما يحصل ببقى كيف): على غير ما فعلها هاشم ميرغني، يفعلها جلال، وكل شيخ وله طريقتو.
* (الخدود نجفة): غناها جلال.. كلمات أزهري محمد علي.
 

(خام كتابة عن نبيين في قاحل الصمت)


الخميس، 14 مارس 2013

اختبار بصيرة الأعمى



حوار مع الشاعر كمال عمر، نشر في أبريل 2010م بمناسبة صدور كتاب (سائس أعمى)؛ بصحيفتي (السوداني) و(الأخبار).

* من غير (هل)؛ يقتات الشاعر على جرحٍ، ألمٍ، قدرة مفقودة على الاتزان.. من غير (هل) مرة أخرى.. الشاعر غير المجروح؛ شاعر جائع؟
- برغم أزلية الجرح، واستحكامات الغريزة: المجروح منزلةٌ تتشيَّد بالألم. وغالباً ما يبقى المجروح دلواً للأنين حيناً؛ والصراخ حيناً آخر، والذرف أحياناً كثيرة. نعم؛ الجرح/الألم؛ مادة ثرَّة لوقود الشعر، لكن الاقتيات عليه يحبس الشعرية في منزلة المرئي منكوب اللغة، والتنصت المستديم لأدنى نتحة في الجرح؛ للإمساك بسرها، يحبسها عن منابع الخيال، المتدفقة بالحيوات. والمجروح المتألم هو متوالَد المتمرد/ المتحدي/ الغاضب/ النائح/ المعترض. أما الجائع؛ فهولٌ آخر، هذا اليبدأ بالتهام الحياة/الأشكال /المعاني/الموضوعات/وحتى الجروح؛ ثم لا يأبه للمغزى، بل لغريزة التطلب؛ فيبدأ بخلق حيواته، أقواته، بعدة الخيال الماهرة. والجائع طفلٌ أساءه الدلال، بكّاء، هو المخترِق الكبير الذي لا يضاهَى، وأعشقه. المخترق الذي لا يبحث عن مقابلِ ماذا، أو ضد ماذا. بل هو الذاهب للـ ما بعد، للـ ما وراء، السالك أرض الـ ما بين، ودروبها المجهولة؛ لورود البحيرات الشاسعة ما وراء كل تخم. هذا حبيبي، أكثر من كل آخر، حيث تفاجئك الشعرية على أيٍّ من هيئاتها.
* لغتك تلعب بخشونة، جفاف حادّ يخترق وعيي بنص (كمال)، أمن شيء يرطب تلك القوة (الغاشمة) تجاه شريك الكتابة (القارئ)؟
- من جهة، دعني أنطلق من موقعٍ يخصني بوصفي كاتبَ النصّ: "سائس أعمى"، وتحت هذا أسرِّب عدم استساغتي فكرة أن (النص يكتبني) المغرقة في سلب الإرادة تلك؛ فأتساءل إذن: أبعد "كل هذا"؛ يبحث القارئ عن مرطبات مدلوقة على قوة النصوص قبالته؟ والـ "كل هذا" هذه؛ تضم الكثير محتشداً، الذي دافع عن شكل وجوده بصورة متكررة؛ حتى أصبح دفاعه؛ والسؤال عن منطق وجوده؛ مملَّيْن.
من جهة أخرى: ربما تمظهُر ما تسميه بـ "جفاف حاد"، أو "قوة غاشمة"، كأقسى ما يكون، في نصوص "سائس أعمى"، لا أبعد، كما آمل؛ هو في ما أعتقد بسبب أن أغلب نصوصه كتبت تحت وطأة ألم كبير، ووعي مؤلم بصيرورات ومآلات كنت أحياها. أعتقد أنني كنت أحاول إحداث أكبر قدر من الإيلام؛ إيلام اللغة، والقارئ المحتمل، أنت تعرف مثل انتقامات الكتَّاب تلك، في أجواء المرارات التي يحياها كائن يقيم في هذا الوطن، مع كل الأهوال التي تعصف به: هناك غبن كبير، وصراخ حاد مكتوم، وآلام رهيبة، مما ترغب النفس في دلقه. وللمفارقة أقول: إن "سائس أعمى" تعرَّض إلى عملية تلطيف كبيرة، وعلى مدى لغوي واسع؛ من أجل لجم جفافه الحارق، وأنت ما تزال تشعر به جافاً! أنا كنت أريده مؤلماً أكثر، جافاً، وحارقاً أكثر، ولكنها الرحمة الشعرية.
وللمفارقة أيضاًَ -وربما ذات المغزى- أنني كرهت "سائس أعمى" إلى درجة أن لم أستطع قراءته وهو كتاب، حتى يومي هذا؛ ربما بسبب الكثير الذي لا يعجبني، ولا يمتعني فيه، الذي رغبت، وحاولت تجاوزه في نصوص أخر. هذه المفارقة قد تدلف بنا إلى حديثي عن الكتابة، من موقع المجروح في سؤالك السابق، وإلى مغزى الحديث عن أشياء مثل: الجفاف اللغوي، القوة الغاشمة... الخ. وربما يعود إلى أمور الرفقة العادية بين الكاتب ونصوصه.
* درافير.. أنيال.. أهوال تعتري حياة اللغة لديك، نحتٌ مفاجئ، صور مظلمة في انسرابها بين أصابع العقل.. ما الذي يحدث؟
 - الأمر في جانبٍ يتعلق بمنح نفسك الحرية المطلقة أثناء الكتابة، وإتاحة هذه الحرية لتتغذى عليها كل الكائنات التي تتحشَّد بالنص. وفي جانب آخر يتعلق بالانجرافات الهائلة التي تحدث -أيضاً أثناء التنصُّص- في حياة الرموز أثناء ذلك، ففي خضم الاستغراق الكتابي؛ يصبح من العادي أن تواجَه بأحد الحروف الجارة/العلة/الناصبة... الخ، وهو يقف أمامك محتداً، رافضاً، ومطالباً بكمال الذاتية ـ التذويت، كأي اسم متعارف، بما يمنح التنوين، والتعريف بالألف واللام، وبناء سيرة موقع كامل الخطاب؛ من موقف الذاتية المكتملة. يصبح من المعتاد كذلك أن تواجَه بلفظٍ/كلمة، ترفض تماماً أن تنصرف على درب السيبويهيين وأمثالهم، دفاعاً عن جمالها الخاص، فتختار لنفسها جسداً/تصريفاً مختلفاً وكامل الجدة، ما يكسبها مشهداً جمالياً يعْقِد لسان النشوة ذاتها. بديهي أن إلى جانب هذه الانجرافات؛ هناك اللغة النائمة، المنتظرة، أو المتحركة في الظلال المظلمة، فبقيت بعيدة عن القواميس الكتابية المتداولة. ودعنا نقول: إن اللسان السوداني مذهل في ما يرد عنه من معالجات وأفاعيل باللغة، تستحق الانتباه، إذ تجد صيغاً للجمع، وللنسب، ولمختلف التصاريف؛ هي من الإبداع بما يدهش حقاً، وبما يمنح المبدعين دروساً في الإمكانات الحركية والحرة، اشتغالاً داخل اللغة.
من جانب آخر، هناك أثر الهندسة، والرياضيات؛ في جانب معالجتي لتراكيبي اللغوية، ومسألة سكّ الكلمات، ونحتها، حتى لأعترف أنني لا أطمئن إلى كلمة منحوتة، جاهزة، قبل أن أعرِّضها لكل الاحتمالات، والتصاريف، والتصاريف المقارنة؛ قبل أن أختار ما يقع جمالياً عندي، ولكنني برغم هذا الأثر أظل متوتراً؛ خشية تجاوز حدود المخاطرة؛ بتحويل المسألة إلى معمل لغوي، وما يمكن أن يحدثه ذلك من أثر سيئ ومدمر أحياناً على النص في النهاية.
* سياسة.. موقف سيا-حياتي، وعي أيديولوجي يخالسني كقارئ، حياة بكاملها (خلاء)، مزامير هنا وهناك، صدى دوبيت غامض.. ما بك؟
 - في عام 1990 كنت عضواً في فرقة مسرحية، وأنا على عتبة المرحلة الثانوية. ما حدث بعدها أن الفرقة تم تشتيتها، وحوربت في واحد من تمظهرات أيديولوجيا النظام الجديد وقتها. هذا الحادث؛ وما توالد عنه من إحساس مرير بالظلم، وإهانة قيمة الحياة؛ كان كافياً لمدِّي بالوعي المباشر، عما يمكن للسياسي أن يفعله بالمجال الفني/الأدبي. وكان كافياً كذلك لدفعي للاهتمام بالسياسي، الموجود سلفاً في المحيط الأسري القريب.  لا سيما أن المسرح مثَّل وقتها مدخلاً مذهلاً بحق؛ لاكتشاف الذات، وإمتاعها،
لذا؛ ربما لا أزال واقعاً تحت سطوة التيارات الصراعية، وهي - في ما أعتقد - واحد من تأثيرات صيرورة الورطة السودانية المستحكمة منذ وقت طويل. فأنا من جيل نشأ وعاش عنفوان شبابه تحت سطوة نظام سياسي لا تفلت منه الحريات إلا تسرُّباً، إن أفلحت! ربما من هنا بدأ تسلسل انوجاد (السيا-حياتي) وتشعبه، حتى صرت أسير دواماته المتلاحقة.
 ومن جهة أخرى؛ أنا سليل البداوة. شببت بأحد أرياف السوكي، بالنيل الأزرق، وتشربتُ تراث الريف، والبادية السودانية، واختلاطات الألسن بالطبيعة. كما واتتني الفرصة لاحقاً لأجوب تقريباً كل ركن في هذه الأرض السودانية الشاسعة، فانعطنتُ - وحتى الآن – بالأعاجيب، من: لسان، وأدب، وطرائق تفكير، وتراث، وتاريخ، وأهوال لا تأبه لشيء سوى نفسها. إن كان في السائس صدى لمزامير، أو دوبيت، أو غيره، الكثير كما أظن؛ فهو الصدى لما أعجز حتى الآن عن التعبير عنه، أو صوغه مما تضج وتحتشد به هذه الأرض التي أنا مِنْ عَطَنِها.
أما الخلاء؛ فهو - بما يفوق بأكوانٍ - المساءلة هنا، عن عواءات الحياة. إنه عشق الحياة قبل التخريب، والأبديات المستعصمة بقداستها. والخلاء بعد ذلك منسرباً إلى كل الجزيئات، و:
كل مدينةٍ خلاءُ ذاتها
وثمة –دائماً- ذئبٌ وحيد.
* أأردت قتل نصٍّ بنشره، أم إسماع صوتك لفضاءٍ أصمّ، أم هي التقاليد: تكتب – تنشر؟ أعني: ماذا يساوي الكتاب؟
- أردت له حياة جديدة، بعد أن عاشني حيناً طويلاً، وعاش وحيداً، مبعثراً بين الأدراج حيناً أطول، ولكنني أردت منحه حياة كاملة مستقلة بعيداً عني. أردت له الألم كما تألمت، والإهمال كما أُهملت، والعزلة كما انعزلتُ، وأن يجرِّب الحبَّ، والعشق، والإهانة، والحنين الممض. أردت له أن يتذوق مرارة الوجود بين آخرين، والحياة بينهم. أردت منحه فرصة أن يختار، أعني: أعطيته حريته واستقلاله. وسأقف - ليس جانباً، وليس بمعزلٍ، وليس معه - لأعرفه من جديد، لألتقيه (آخر).
* كمال عمر.. هل لحياتك حدود؟
- هذا سؤالٌ عنيف، ومهدِّدٌ، ومصاغ بطريقة: حسنٌ، والآن بدون تأتأة؛ أجب وأوجز!! ولكنني لكي أجيبك؛ أحتاج أن أدرك ذاتي قبلاً؛ كي أفكر بحدودها، ثم إن لعبة الحدود تتضمن ثنائيات، من شاكلة: الداخل/الخارج، أو الشيء وضده، أو الإمكان/الاستحالة، وحتى الآن أتحاشى السقوط في إدراكي كنه ذاتي وفق هذه الثنائيات، ومَوْقَعةَ وجودي في إطارها.
اتساقاً مع هذا؛ ستجدني أتساءل: وما الحدود؟ ما احتمالية الحدود في الأعمى، مثلاً؟ لأن هذا الأعمى؛ هو واحد من كينوناتي الحية، المتعددة، المتجددة! سأسألني: هل أتحدد بجسدي، بطاقاتي الحية، وفعالياتي العليا، والإحساس، أو درجة التغيُّر النبضي الحادث في ذراتٍ كونية لا أراها، ولا أدرك معادلات اتصالها بذراتي، ولا بخيوط الإدراكات الكونية الشاملة؟ وكيف سأمتلك القدرة على التيقن من آخر مدى وصلته رجفةٌ حدثت بفعل نشوةٍ أصابتني، أو أصابت كائناً اتَّصلَ؟
هل لحياتي حدود؟ أنا لا أعرف. لم أفكر بهذا من قبل، ولا أمتلك جزماً بماهية الحدود، ولا بمواقعها. ولكن يمكنني أن أحدثك عني: أنا كائن لا يكتفي. أنا ملل عضال. أنا قلق لا ينفد. وأنا أمَّالٌ حتى أصغر نخاعٍ في ساق المستقبل الراكض حولي، وأمامي، ومن خلفي؛ لذا تجدني أكولة مستعصية. ولكننى أيضاً محضُ ذرَّةٍ صغيرة أمام هذا العملاق الكوني، تشغلني وتهجسني العلائق، والتأثيرات المتكثِّرة، ونسبيتي الضئيلة؛ في مقابل الكمون الكوني الكبير، الذي يمنحني فرصة في استثارة ذراتي. وكما ذكرت قبلاً؛ تشغلني الاختراقات، آفة الحدود المستعصية. يذهلني المخترِق المبثوث في كل مادةٍ ومفهوم، الذي لا يهدأ حتى يدمِّر، ولا يقيم إلا في حركته الدائمة، خلال جزيئات الكائن/المفهوم، وإمكاناته. أحاول أن أموضعه في مكانِ الأساسيّ من صيرورتي؛ لأقول لنفسي كل حين: حسناً وأي اختراقٍ سيعبر بي هذا؟
إذن؛ أين أموضع الحدود، يا حبيبى، وفق هذا؟ وعطفاً على السؤال: ما حياتي؟ وأين تقيم؟
* طيِّب، إذا فتحتَ عينيك؛ ماذا ترى، قبل – بعد؟
 - جميعهم انهماكٌ في الحَوْكِ.
* لن أسألك عن النشر، ولا عن كتابك، ولكنني سأسأل عن الروح: كيف اعترتك رغبة صلبة كهذي؛ فأتممت على ما تفعله النعمة؛ فكان السائس الأعمى يقودك/تقوده وسط تلك الصور؟
- كتبتُ "سائس أعمى"، وغيره كُثر، لكنه كان من/ما حُظي بالنعمة. ولقد تخليت عنه كثيراً وسط الطريق، مثل أي لقيط، ولكن روحان كانتا تخيمان دائماً علينا، نحن الاثنين، وتعيداننا إلى المأوى، تانك هما: محمد الصادق الحاج، ومازن مصطفى. فلولاهما -جازماً أقول - لما اكتمل سائساً كما هو الآن. لذا فالسائس هو ابن روح جمعاء، منها ماتَظَلَّل به كما ذكرت، أو ما تسرَّب عبر كل صورة وكلمة، أو أثرٍ ضَمَّهُ، أو أوحى به الكتاب: روح الجبل، والحقل، والأنيال، والدرافير، والعواءات، والأداريب، وقساوة العشق، وخيباته المريرة، وجروحه المتفتحة دوماً و.. و.. هذه هي من أتمت النعمةَ على وجودِها؛ فاشتكلت سائساً أعمى.
* أهو أمرٌ مهم أن تغامر بإظهارك عارياً، أن تتكبد (الكتاب) كله في كامل السفور أمام الأعين؟ لماذا هذا القلق؟
- الكتابُ تعبُ النصوص من وحدتها. تعب الكاتب من مجالدة/إيذاء روحه وحده. ومن ناحية أخرى: يأسه التام من كفايته روحه شهوتها من الألم. لربما تكتنف الأمر بعض الاشتهاءات الغامضة، والمتعالقة، ولكن الكتاب تالياً؛ التكبد الأقسى، هو في لحظات الكتابة، وفي الحياة بالكتابة، أما الكتاب؛ فأراه عناءً هيناً إزاء المكابدة الحقيقية، آناء خلقه. لا أعتقد أن كاتباً أحرقته الكتابة يأبه، يرهب، أو ينحرج؛ لمرآه سافراً، عارياً، أمام الأعين؛ لأنه سيكون قد تعرى قبلها طويلاً، بالألم.
* تَغْمُضُ أحياناً معاني ومجازات رؤيتك، حتى أخالها من أدكن البقع فيك أتت، ماذا حدث للسهولة؟ أنا لا أقصد المباشرة، ألم تعد تكفي – السهولة – لتُرى/لتريك/لنرى؟
- حسنٌ، أنا لا أعتقد أن السهولة تكفي لتريني، ولا تكفي ليدركني آخر. ولا أعرف إن كانت السهولة هي الحل لمن لا يرى/يتذوق/في الشعر، إلا ما طفح فوق السطح الوجِل. هل عليّ أن أقول كل ذلك الكلام الممل، والمكرر، عن التعقيد، والتعدد، والتفتت، والتحطمات، والانكسارات التي صارت طابعاً لحياتنا؟ أنا – بالطبع - لا أقول إن الشعر هو انعكاس لهذا الكون المادي الذي نحياه بشكل مباشر، لكن على الأقل حين تكون هذه مواصفات حياتي وأبعادها؛ فكيف يطلب مني أحدهم أن أرمي بها جانبا! بسبب ذائقته الرهيفة التي لا تقوى على الغموض؟ كيف يمكنني أن أنزعها وأرمي بها جانباً ثم أتبسَّط وأسهُل؟ أن أرتَدّ هكذا، مرة واحدة، كائناً سهلاً قريب المنال؟ لا يا صديقي، السهولة لا تكفي حتى لتمرداتي. لا تكفيني لأتماهى مع نصي لو أردت. لم تعد تكفيني، ولا أظنها ستكفي كل هذه الحيوات المتأيِّنة، على الأقل هذا ما أنا عليه الآن. ثم أقولها صريحة: القارئ الذي لا يريد أن يُتعب روحه، ولا وقت لديه للذهاب أبعد من التعابير المتداولة، والألفاظ المألوفة؛ الذي لا صبر عنده لسبر النص الراقد أمامه، وليس لديه شغف الولوج إلى ما وراء الغامض، الداكن، للإمساك بالغنيمة الكائنة عميقاً؛ هذا ليس من أعنيه بالقارئ، حين أتحدث عن الشعر. وهو ليس من أعنيه حين أنتظر حياة نص أكتبُه.
* هل أنت أكثر نظافة الآن مما كنت عليه؟
- يا إلهي يا محفوظ! هل كان الشعر يوماً هو محلول النظافة الكوني؟ ماكينة الغسيل –لمهما كان؟ لا أعتقد أن الشعراء من خلال كتابتهم يبحثون عن النظافة! هل نحن بصدد أخلاقية ما، في الفن؟ أو حديث عن الصالح والسيئ؟ ربما هناك من يعتقد هذا- ولكن لا أرى أن هذا في حسبان الشاعر. ربما هذا من شأن الديانات، ونحن متعودون على تداول مفهوم الطهر في الحياة الدينية. ولكن درب الفن آخر، ليس التطهر من الحياة هو ما يسلكه الفن، وعلى العكس، ربما كان الاتساخ بكل ذرات الكون هو مسعاه - إن جاز لي استخدام كلمات نظافة/اتساخ - من أجل العثور على الحياة الأكثر غنىً، والأشد ألقاً وجمالاً والكون الأكثر أبعاداً. ترى؛ هل كان رجال/نساء قادتهم حياة الكتابة نحو الانتهاء إلى الجنون والاضطرابات النفسية، والتحطم الجسدي، والانتحار، أو الاعتزال، وما إلى ذلك من سيرة النصَّاصين: هل كان هؤلاء أبداً يبتغون النظافة! هل انتهوا إليها في تحطمهم الأخير؟
* بعد دخولك (النظام) بتقديمك (طلب عضوية) رمزي – الكتاب- أنفهم أن (كمال) ليس ضد النظام؟ وأين إذن تذهب (الهيبية) الفاقعة التي تعتري أجزاء من متن نصك؟ أين الاحتجاج؟
- ومن الذي عرَّف/حدَّد النظام يا محفوظ؟ من منح نفسه هذه المرتبة؟ كل هذه الأرتال من المشافهة، وصارت الكتابة/الكاتب، هي/هو النظام!!؟ يا فرحي. هل حقاً أكملنا تحقيق اشتراطات الصيرورة الدريدية؛ فصار النظام عندنا هو الكتاب؟ هل النظام هو حكم السائد؟ إذن هل هو المقيم بالأدراج أوراقاً مبعثرة، أم هو الكتب مطبوعة في تمامها؟ وأين تقيم الاحتجاجية: في اللامرئي أوراقاً مبعثرة طي أدراجها، أم الصارخ كتلة مارقة في السَهَلَة؟ وهل نحن بصدد احتجاجية ضدٍّ؛ عَبْرَ الأدوات، أم عبر ما يعتمل في، وبالنصوص؟ استدراكاً لن أقلل من قيمة الشكل/الأداة بحد ذاته بوصفه فاعلاً احتجاجياً، ولكن مفاهيم من شاكلة: الاحتجاج، والاحتجاجية، والهيبية، تتضمن غايات ومآلات وأهداف لتتحقق. إذن تتبادر إلى الذهن تساؤلات عن ماهيات مثل: الفعالية. وعن أفضل ما يمكن تقديمه لأجل حياة النصوص.
ويا صاحبي، أنا لا أحب هيبية الغائب.
* عطفاً على ذات السؤال: الشاعر- الحزب/الأيديولوجيات المتضادة أم (المتفقة؟) - ما بك؟ أتريد أن تكون الكل المطلق أم ماذا؟ ماذا يحدث بك؟ لا أقصد حياتك بالمعنى المتعارف، ولكن، ألا تلقي هذه الأيديولوجيا والنظم والقواعد؛ بكلكلها على (كلك)، على ما يخرج منه إليك، وإلينا؟
- طبعا تُلقِي. أنا –هل للأسف- مركَّب من الأيديولوجيات المتضادة، المتناقضة، المتفاعلة، في هذه الذات. أنا أعتنق أيديولوجيا ما يعرف بالخدمة المدنية – موظف - بكل مفاهيمها، وقيودها، وتحديداتها، ورؤاها، وأفعالها، وأفاعيلها، بطريقة تمضغ مفهومي للحرية يوماً وراء يوم، وتقتات عليه بلا هوادة، وأنا واقع تماماً في سجنها. وأنا غارق في أيديولوجيا الهندسة، حتى أنفقت جل حياتي أتحدد بها، وأتحرك في أفقها، وأستمد الكثير من متعي عبر رؤاها، وقوانينها، وتمظهراتها، وفلسفتها. وهناك الأيديولوجيا المنشغلة بالتحرك في حقل الفعالية السياسية، ومخرجاتها، وآليات عملها، من أحزاب أو أي تشكلات أخرى تتصل بها، وأنا منشغل بما تجره أفاعيل السياسة على هذه الأرض الحبيبة، فلا أقوى على الابتعاد عن ميادين الفعل المباشر في سوحها، وبالتالي تموقعي داخل إطار فعلٍ أتحرك وفق نظام أفكاره وبرامجه. وهكذا يا صديقي، بقدر ما أتوق إلى التحلل من تحرشات وتعكيرات كل هذه النظم من الأفكار؛ أجدني حتى الآن، وبشرط وجودي على هذه الأرض، وما يستبطن ذلك من أسئلة حول هذا الوجود؛ مشاركاً في ميادين فعله. وهذه النظم والقيود والأنساق، والحياة المباشرة، وصراعاتها الآنية، وفق آنية أغلبها معوق للحرية الفردية، شاغل عن الفردنة؛ بالفعل تلقي عليَّ بالكلاكل كلها، وربما لولاها لما كان السائس أعمى، ولا جافاً خشناً لا طعم له مثل "قَرْش الثلج". أنا أدرك أني أحيا اللافكاك التوَّاق، حتى الآن.
* هب أني لا أعرفك؛ وقرأت العنوان (سائس أعمى..)؛ ما احتمال أن أقرأك بعماء الدلالة، إسقاطها على ذات جاهزة (كمال عمر)؟ أوَ لا يؤثر ذلك على قراءتي لك، التي ستؤثر ربما على قراءتك لك؟
- حسنٌ، حتى الآن سائس أعمى هو: جفاف حاد بحاجة إلى الترطيب اللغوي، أو هو قوة لغوية غاشمة كما تقول هنا، أو هو مثل "قرش التلج" كما يقول صديقي بكري البقاري، ولا أكتمك أنني رأيته في حينٍ آخر مثل "خرط الحديد". إذن هل بقي لأي مطَّلعٍ على هذا الحوار احتمال مقاربة هذا الأعمى، ويتشبث؟!
بقيت الضآلة كلها، وتكفيني حتى الازدحام. ولكن أيضاً علينا أن نكون أكثر حذراً، فأنت لم تعرفني، وأنت أعمى كالسائس ذاته، وثمة فسحة للتشكيك بـ "ذات جاهزة" هذه، وفسحة لتسريب لذة عبر القوة الغاشمة، لذة ولو من نصيب المنحرفين، وهناك ما يثير بالثلج لدرجة الرغبة بقَرْشِه، وهناك سائسٌ أعمى ويتشبث بالمضي. من هؤلاء تتسرب الضآلة التي عنيت. هو المنطق معكوساً، أو الـ خِلال، أو الـ ما بيْن. هذا هو مَسْرَبُ الضآلة الذي أنشد. هذا هو احتمالنا.
* كيف تراك حين تسمع صوتك، حين تقرأ/ تلقي/ تنشد؟ هل تجد أن أمراً ما تغيَّر بين الصوت، والورق، وما تختزنه عن النص فيك؟
- ربما بإمكان المرء تذكُّر أيام الانتشاءات الكبرى والباكرة، المرتبطة بسماع صوتك الباطن، الغائر، وهو يخرج محمولاً على ترددات وأنغام تبدو حتى غريبة باختلاجاتها واعتمالاتها. وحين يقف المرء الآن؛ يدرك كم كان ذلك مثيراً، وغنياً بتعقيدات لا نهائية، من حضور الذات وغيابها، ومن الهنا/الهناك الوجودي، ومن حشودات الآخرين، الـ هُمْ، والأنوات. ذلك الذهول والإحساس بالامتلاء حد الرغبة في الصراخ المتواصل؛ من شدة أفاعيل الـ فيك، يقودك إليه أثرٌ هو النص الجالس بين يديك ساعتها.
 الآن وبرغم أنني نادراً ما ألقيت شعراً لأعيش تجربة صوتي الشعري هذه مجدداً؛ إلا أنك تعرف، أنك تقرأ في هذه الحال ذواتك المقيمة داخل النص. وتقرأ معها مواجهتك لاكتشافاتك المتجلية كتابةً التي لم تحسَبها. وهي توقدك مرة إثر أخرى. أعرف أن المسألة الأساسية تتعلق بالصوت، صوتك الخاص، وليس أي صوت آخر من الطبيعة، محملاً بك وبالمارق منك في النص. بالطبع يعتبر الجزء الأعظم من التاريخ الشعري هو تاريخ المُنشدين/المُلقين العظام؛ بسبب سيادة الشفاهية، وإن انحسرت هذه المكانة المنبرية لمصلحة الكِتاب/الكتابة، وبسبب تموقعات أخرى، وتأثرات بالإيقاعات المختلفة للشعري.

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...