حوار مع الشاعر
كمال عمر، نشر في أبريل 2010م بمناسبة صدور كتاب (سائس أعمى)؛ بصحيفتي (السوداني) و(الأخبار).
* من غير
(هل)؛ يقتات الشاعر على جرحٍ، ألمٍ، قدرة مفقودة على الاتزان.. من غير (هل) مرة
أخرى.. الشاعر غير المجروح؛ شاعر جائع؟
- برغم أزلية الجرح، واستحكامات
الغريزة: المجروح منزلةٌ تتشيَّد بالألم. وغالباً ما يبقى المجروح دلواً للأنين
حيناً؛ والصراخ حيناً آخر، والذرف أحياناً كثيرة. نعم؛ الجرح/الألم؛ مادة ثرَّة
لوقود الشعر، لكن الاقتيات عليه يحبس الشعرية في منزلة المرئي منكوب اللغة،
والتنصت المستديم لأدنى نتحة في الجرح؛ للإمساك بسرها، يحبسها عن منابع الخيال، المتدفقة
بالحيوات. والمجروح المتألم هو متوالَد المتمرد/ المتحدي/ الغاضب/ النائح/ المعترض.
أما الجائع؛ فهولٌ آخر، هذا اليبدأ بالتهام الحياة/الأشكال /المعاني/الموضوعات/وحتى
الجروح؛ ثم لا يأبه للمغزى، بل لغريزة التطلب؛ فيبدأ بخلق حيواته، أقواته، بعدة
الخيال الماهرة. والجائع طفلٌ أساءه الدلال، بكّاء، هو المخترِق الكبير الذي لا
يضاهَى، وأعشقه. المخترق الذي لا يبحث عن مقابلِ ماذا، أو ضد ماذا. بل هو الذاهب
للـ ما بعد، للـ ما وراء، السالك أرض الـ ما بين، ودروبها المجهولة؛ لورود
البحيرات الشاسعة ما وراء كل تخم. هذا حبيبي، أكثر من كل آخر، حيث تفاجئك الشعرية
على أيٍّ من هيئاتها.
* لغتك تلعب
بخشونة، جفاف حادّ يخترق وعيي بنص (كمال)، أمن شيء يرطب تلك القوة (الغاشمة) تجاه
شريك الكتابة (القارئ)؟
- من جهة، دعني أنطلق من
موقعٍ يخصني بوصفي كاتبَ النصّ: "سائس أعمى"، وتحت هذا أسرِّب عدم استساغتي
فكرة أن (النص يكتبني) المغرقة في سلب الإرادة تلك؛ فأتساءل إذن: أبعد "كل
هذا"؛ يبحث القارئ عن مرطبات مدلوقة على قوة النصوص قبالته؟ والـ "كل
هذا" هذه؛ تضم الكثير محتشداً، الذي دافع عن شكل وجوده بصورة متكررة؛ حتى أصبح
دفاعه؛ والسؤال عن منطق وجوده؛ مملَّيْن.
من جهة أخرى: ربما تمظهُر ما
تسميه بـ "جفاف حاد"، أو "قوة غاشمة"، كأقسى ما يكون، في نصوص
"سائس أعمى"، لا أبعد، كما آمل؛ هو في ما أعتقد بسبب أن أغلب نصوصه كتبت
تحت وطأة ألم كبير، ووعي مؤلم بصيرورات ومآلات كنت أحياها. أعتقد
أنني كنت أحاول إحداث أكبر قدر من الإيلام؛ إيلام اللغة، والقارئ المحتمل، أنت
تعرف مثل انتقامات الكتَّاب تلك، في أجواء المرارات التي يحياها كائن يقيم في هذا
الوطن، مع كل الأهوال التي تعصف به: هناك غبن كبير، وصراخ حاد مكتوم، وآلام رهيبة،
مما ترغب النفس في دلقه. وللمفارقة أقول: إن "سائس أعمى" تعرَّض إلى
عملية تلطيف كبيرة، وعلى مدى لغوي واسع؛ من أجل لجم جفافه الحارق، وأنت ما تزال تشعر
به جافاً! أنا كنت أريده مؤلماً أكثر، جافاً، وحارقاً أكثر، ولكنها الرحمة الشعرية.
وللمفارقة أيضاًَ
-وربما ذات المغزى- أنني كرهت "سائس أعمى" إلى درجة أن لم أستطع قراءته
وهو كتاب، حتى يومي هذا؛ ربما بسبب الكثير الذي لا يعجبني، ولا يمتعني فيه، الذي رغبت،
وحاولت تجاوزه في نصوص أخر. هذه المفارقة قد تدلف بنا إلى حديثي عن الكتابة، من موقع
المجروح في سؤالك السابق، وإلى مغزى الحديث عن أشياء مثل: الجفاف اللغوي، القوة
الغاشمة... الخ. وربما يعود إلى أمور الرفقة العادية بين الكاتب ونصوصه.
* درافير..
أنيال.. أهوال تعتري حياة اللغة لديك، نحتٌ مفاجئ، صور مظلمة في انسرابها بين
أصابع العقل.. ما الذي يحدث؟
- الأمر في جانبٍ يتعلق بمنح نفسك الحرية المطلقة أثناء
الكتابة، وإتاحة هذه الحرية لتتغذى عليها كل الكائنات التي تتحشَّد بالنص. وفي
جانب آخر يتعلق بالانجرافات الهائلة التي تحدث -أيضاً أثناء التنصُّص- في حياة
الرموز أثناء ذلك، ففي خضم الاستغراق الكتابي؛ يصبح من العادي أن تواجَه بأحد
الحروف الجارة/العلة/الناصبة... الخ، وهو يقف أمامك محتداً، رافضاً، ومطالباً
بكمال الذاتية ـ التذويت، كأي اسم متعارف، بما يمنح التنوين، والتعريف بالألف
واللام، وبناء سيرة موقع كامل الخطاب؛ من موقف الذاتية المكتملة. يصبح من المعتاد كذلك
أن تواجَه بلفظٍ/كلمة، ترفض تماماً أن تنصرف على درب السيبويهيين وأمثالهم، دفاعاً
عن جمالها الخاص، فتختار لنفسها جسداً/تصريفاً مختلفاً وكامل الجدة، ما يكسبها مشهداً
جمالياً يعْقِد لسان النشوة ذاتها. بديهي أن إلى جانب هذه الانجرافات؛ هناك اللغة
النائمة، المنتظرة، أو المتحركة في الظلال المظلمة، فبقيت بعيدة عن القواميس
الكتابية المتداولة. ودعنا نقول: إن اللسان السوداني مذهل في ما يرد عنه من
معالجات وأفاعيل باللغة، تستحق الانتباه، إذ تجد صيغاً للجمع، وللنسب، ولمختلف
التصاريف؛ هي من الإبداع بما يدهش حقاً، وبما يمنح المبدعين دروساً في الإمكانات
الحركية والحرة، اشتغالاً داخل اللغة.
من جانب
آخر، هناك أثر الهندسة، والرياضيات؛ في جانب معالجتي لتراكيبي اللغوية، ومسألة سكّ
الكلمات، ونحتها، حتى لأعترف أنني لا أطمئن إلى كلمة منحوتة، جاهزة، قبل أن أعرِّضها
لكل الاحتمالات، والتصاريف، والتصاريف المقارنة؛ قبل أن أختار ما يقع جمالياً عندي،
ولكنني برغم هذا الأثر أظل متوتراً؛ خشية تجاوز حدود المخاطرة؛ بتحويل المسألة إلى
معمل لغوي، وما يمكن أن يحدثه ذلك من أثر سيئ ومدمر أحياناً على النص في النهاية.
* سياسة..
موقف سيا-حياتي، وعي أيديولوجي يخالسني كقارئ، حياة بكاملها (خلاء)، مزامير هنا
وهناك، صدى دوبيت غامض.. ما بك؟
- في عام 1990 كنت عضواً في فرقة مسرحية، وأنا
على عتبة المرحلة الثانوية. ما حدث بعدها أن الفرقة تم تشتيتها، وحوربت في واحد من
تمظهرات أيديولوجيا النظام الجديد وقتها. هذا الحادث؛ وما توالد عنه من إحساس مرير
بالظلم، وإهانة قيمة الحياة؛ كان كافياً لمدِّي بالوعي المباشر، عما يمكن للسياسي أن
يفعله بالمجال الفني/الأدبي. وكان كافياً كذلك لدفعي للاهتمام بالسياسي، الموجود
سلفاً في المحيط الأسري القريب. لا سيما أن
المسرح مثَّل وقتها مدخلاً مذهلاً بحق؛ لاكتشاف الذات، وإمتاعها،
لذا؛ ربما
لا أزال واقعاً تحت سطوة التيارات الصراعية، وهي - في ما أعتقد - واحد من تأثيرات
صيرورة الورطة السودانية المستحكمة منذ وقت طويل. فأنا من جيل نشأ وعاش عنفوان
شبابه تحت سطوة نظام سياسي لا تفلت منه الحريات إلا تسرُّباً، إن أفلحت! ربما من
هنا بدأ تسلسل انوجاد (السيا-حياتي) وتشعبه، حتى صرت أسير دواماته المتلاحقة.
ومن جهة أخرى؛ أنا سليل البداوة. شببت بأحد
أرياف السوكي، بالنيل الأزرق، وتشربتُ تراث الريف، والبادية السودانية، واختلاطات
الألسن بالطبيعة. كما واتتني الفرصة لاحقاً لأجوب تقريباً كل ركن في هذه الأرض
السودانية الشاسعة، فانعطنتُ - وحتى الآن – بالأعاجيب، من: لسان، وأدب، وطرائق
تفكير، وتراث، وتاريخ، وأهوال لا تأبه لشيء سوى نفسها. إن كان في السائس صدى
لمزامير، أو دوبيت، أو غيره، الكثير كما أظن؛ فهو الصدى لما أعجز حتى الآن عن
التعبير عنه، أو صوغه مما تضج وتحتشد به هذه الأرض التي أنا مِنْ عَطَنِها.
أما الخلاء؛
فهو - بما يفوق بأكوانٍ - المساءلة هنا، عن عواءات الحياة. إنه عشق الحياة قبل
التخريب، والأبديات المستعصمة بقداستها. والخلاء بعد ذلك منسرباً إلى كل الجزيئات،
و:
كل مدينةٍ
خلاءُ ذاتها
وثمة –دائماً-
ذئبٌ وحيد.
* أأردت قتل
نصٍّ بنشره، أم إسماع صوتك لفضاءٍ أصمّ، أم هي التقاليد: تكتب – تنشر؟ أعني: ماذا
يساوي الكتاب؟
- أردت له
حياة جديدة، بعد أن عاشني حيناً طويلاً، وعاش وحيداً، مبعثراً بين الأدراج حيناً أطول،
ولكنني أردت منحه حياة كاملة مستقلة بعيداً عني. أردت له الألم كما تألمت، والإهمال
كما أُهملت، والعزلة كما انعزلتُ، وأن يجرِّب الحبَّ، والعشق، والإهانة، والحنين
الممض. أردت له أن يتذوق مرارة الوجود بين آخرين، والحياة بينهم. أردت منحه فرصة أن
يختار، أعني: أعطيته حريته واستقلاله. وسأقف - ليس جانباً، وليس بمعزلٍ، وليس معه
- لأعرفه من جديد، لألتقيه (آخر).
* كمال عمر..
هل لحياتك حدود؟
- هذا سؤالٌ
عنيف، ومهدِّدٌ، ومصاغ بطريقة: حسنٌ، والآن بدون تأتأة؛ أجب وأوجز!! ولكنني لكي أجيبك؛
أحتاج أن أدرك ذاتي قبلاً؛ كي أفكر بحدودها، ثم إن لعبة الحدود تتضمن ثنائيات، من
شاكلة: الداخل/الخارج، أو الشيء وضده، أو الإمكان/الاستحالة، وحتى الآن أتحاشى السقوط
في إدراكي كنه ذاتي وفق هذه الثنائيات، ومَوْقَعةَ وجودي في إطارها.
اتساقاً مع هذا؛ ستجدني أتساءل:
وما الحدود؟ ما احتمالية الحدود في الأعمى، مثلاً؟ لأن هذا الأعمى؛ هو واحد من
كينوناتي الحية، المتعددة، المتجددة! سأسألني: هل أتحدد بجسدي، بطاقاتي
الحية، وفعالياتي العليا، والإحساس، أو درجة التغيُّر النبضي الحادث في
ذراتٍ كونية لا أراها، ولا أدرك معادلات اتصالها بذراتي، ولا بخيوط الإدراكات
الكونية الشاملة؟ وكيف سأمتلك القدرة على التيقن من آخر مدى وصلته رجفةٌ حدثت بفعل
نشوةٍ أصابتني، أو أصابت كائناً اتَّصلَ؟
هل لحياتي حدود؟ أنا لا أعرف.
لم أفكر بهذا من قبل، ولا أمتلك جزماً بماهية الحدود، ولا بمواقعها. ولكن
يمكنني أن أحدثك عني: أنا كائن لا يكتفي. أنا ملل عضال. أنا قلق لا ينفد. وأنا أمَّالٌ
حتى أصغر نخاعٍ في ساق المستقبل الراكض حولي، وأمامي، ومن خلفي؛ لذا تجدني أكولة
مستعصية. ولكننى أيضاً محضُ ذرَّةٍ صغيرة أمام هذا العملاق الكوني، تشغلني وتهجسني
العلائق، والتأثيرات المتكثِّرة، ونسبيتي الضئيلة؛ في مقابل الكمون الكوني الكبير، الذي
يمنحني فرصة في استثارة ذراتي. وكما ذكرت قبلاً؛ تشغلني الاختراقات، آفة الحدود
المستعصية. يذهلني المخترِق المبثوث في كل مادةٍ ومفهوم، الذي لا يهدأ حتى يدمِّر،
ولا يقيم إلا في حركته الدائمة، خلال جزيئات الكائن/المفهوم، وإمكاناته. أحاول أن أموضعه
في مكانِ الأساسيّ من صيرورتي؛ لأقول لنفسي كل حين: حسناً وأي اختراقٍ سيعبر بي
هذا؟
إذن؛ أين أموضع
الحدود، يا حبيبى، وفق هذا؟ وعطفاً على السؤال: ما حياتي؟ وأين تقيم؟
* طيِّب، إذا
فتحتَ عينيك؛ ماذا ترى، قبل – بعد؟
- جميعهم انهماكٌ في الحَوْكِ.
* لن أسألك عن
النشر، ولا عن كتابك، ولكنني سأسأل عن الروح: كيف اعترتك رغبة صلبة كهذي؛ فأتممت
على ما تفعله النعمة؛ فكان السائس الأعمى يقودك/تقوده وسط تلك الصور؟
- كتبتُ "سائس
أعمى"، وغيره كُثر، لكنه كان من/ما حُظي بالنعمة. ولقد تخليت عنه كثيراً وسط
الطريق، مثل أي لقيط، ولكن روحان كانتا تخيمان دائماً علينا، نحن الاثنين، وتعيداننا
إلى المأوى، تانك هما: محمد الصادق الحاج، ومازن مصطفى. فلولاهما -جازماً أقول -
لما اكتمل سائساً كما هو الآن. لذا فالسائس هو ابن روح جمعاء، منها ماتَظَلَّل به
كما ذكرت، أو ما تسرَّب عبر كل صورة وكلمة، أو أثرٍ ضَمَّهُ، أو أوحى به الكتاب:
روح الجبل، والحقل، والأنيال، والدرافير، والعواءات، والأداريب، وقساوة العشق،
وخيباته المريرة، وجروحه المتفتحة دوماً و.. و.. هذه هي من أتمت النعمةَ على وجودِها؛
فاشتكلت سائساً أعمى.
* أهو أمرٌ
مهم أن تغامر بإظهارك عارياً، أن تتكبد (الكتاب) كله في كامل السفور أمام الأعين؟
لماذا هذا القلق؟
- الكتابُ
تعبُ النصوص من وحدتها. تعب الكاتب من مجالدة/إيذاء روحه وحده. ومن ناحية أخرى:
يأسه التام من كفايته روحه شهوتها من الألم. لربما تكتنف الأمر بعض الاشتهاءات
الغامضة، والمتعالقة، ولكن الكتاب تالياً؛ التكبد الأقسى، هو في لحظات الكتابة،
وفي الحياة بالكتابة، أما الكتاب؛ فأراه عناءً هيناً إزاء المكابدة الحقيقية، آناء
خلقه. لا أعتقد أن كاتباً أحرقته الكتابة يأبه، يرهب، أو ينحرج؛ لمرآه سافراً،
عارياً، أمام الأعين؛ لأنه سيكون قد تعرى قبلها طويلاً، بالألم.
* تَغْمُضُ
أحياناً معاني ومجازات رؤيتك، حتى أخالها من أدكن البقع فيك أتت، ماذا حدث
للسهولة؟ أنا لا أقصد المباشرة، ألم تعد تكفي – السهولة – لتُرى/لتريك/لنرى؟
- حسنٌ، أنا لا أعتقد أن السهولة
تكفي لتريني، ولا تكفي ليدركني آخر. ولا أعرف إن كانت السهولة هي الحل لمن لا يرى/يتذوق/في
الشعر، إلا ما طفح فوق السطح الوجِل. هل عليّ أن أقول كل ذلك الكلام الممل،
والمكرر، عن التعقيد، والتعدد، والتفتت، والتحطمات، والانكسارات التي صارت طابعاً
لحياتنا؟ أنا – بالطبع - لا أقول إن الشعر هو انعكاس لهذا الكون المادي الذي نحياه
بشكل مباشر، لكن على الأقل حين تكون هذه مواصفات حياتي وأبعادها؛ فكيف يطلب مني أحدهم
أن أرمي بها جانبا! بسبب ذائقته الرهيفة التي لا تقوى على الغموض؟ كيف يمكنني أن أنزعها
وأرمي بها جانباً ثم أتبسَّط وأسهُل؟ أن أرتَدّ هكذا، مرة واحدة، كائناً سهلاً
قريب المنال؟ لا يا صديقي، السهولة لا تكفي حتى لتمرداتي. لا تكفيني لأتماهى مع
نصي لو أردت. لم تعد تكفيني، ولا أظنها ستكفي كل هذه الحيوات المتأيِّنة، على الأقل
هذا ما أنا عليه الآن. ثم أقولها صريحة: القارئ الذي لا يريد أن يُتعب روحه، ولا
وقت لديه للذهاب أبعد من التعابير المتداولة، والألفاظ المألوفة؛ الذي لا صبر عنده
لسبر النص الراقد أمامه، وليس لديه شغف الولوج إلى ما وراء الغامض، الداكن،
للإمساك بالغنيمة الكائنة عميقاً؛ هذا ليس من أعنيه بالقارئ، حين أتحدث عن الشعر.
وهو ليس من أعنيه حين أنتظر حياة نص أكتبُه.
* هل أنت أكثر
نظافة الآن مما كنت عليه؟
- يا إلهي
يا محفوظ! هل كان الشعر يوماً هو محلول النظافة الكوني؟ ماكينة الغسيل –لمهما كان؟
لا أعتقد أن الشعراء من خلال كتابتهم يبحثون عن النظافة! هل نحن بصدد أخلاقية ما،
في الفن؟ أو حديث عن الصالح والسيئ؟ ربما هناك من يعتقد هذا- ولكن لا أرى أن هذا
في حسبان الشاعر. ربما هذا من شأن الديانات، ونحن متعودون على تداول مفهوم الطهر
في الحياة الدينية. ولكن درب الفن آخر، ليس التطهر من الحياة هو ما يسلكه الفن،
وعلى العكس، ربما كان الاتساخ بكل ذرات الكون هو مسعاه - إن جاز لي استخدام كلمات نظافة/اتساخ
- من أجل العثور على الحياة الأكثر غنىً، والأشد ألقاً وجمالاً والكون الأكثر
أبعاداً. ترى؛ هل كان رجال/نساء قادتهم حياة الكتابة نحو الانتهاء إلى الجنون
والاضطرابات النفسية، والتحطم الجسدي، والانتحار، أو الاعتزال، وما إلى ذلك من
سيرة النصَّاصين: هل كان هؤلاء أبداً يبتغون النظافة! هل انتهوا إليها في تحطمهم
الأخير؟
* بعد دخولك
(النظام) بتقديمك (طلب عضوية) رمزي – الكتاب- أنفهم أن (كمال) ليس ضد النظام؟ وأين
إذن تذهب (الهيبية) الفاقعة التي تعتري أجزاء من متن نصك؟ أين الاحتجاج؟
- ومن الذي
عرَّف/حدَّد النظام يا محفوظ؟ من منح نفسه هذه المرتبة؟ كل هذه الأرتال من
المشافهة، وصارت الكتابة/الكاتب، هي/هو النظام!!؟ يا فرحي. هل حقاً أكملنا تحقيق
اشتراطات الصيرورة الدريدية؛ فصار النظام عندنا هو الكتاب؟ هل النظام هو حكم
السائد؟ إذن هل هو المقيم بالأدراج أوراقاً مبعثرة، أم هو الكتب مطبوعة في تمامها؟
وأين تقيم الاحتجاجية: في اللامرئي أوراقاً مبعثرة طي أدراجها، أم الصارخ كتلة
مارقة في السَهَلَة؟ وهل نحن بصدد احتجاجية ضدٍّ؛ عَبْرَ الأدوات، أم عبر ما يعتمل
في، وبالنصوص؟ استدراكاً لن أقلل من قيمة الشكل/الأداة بحد ذاته بوصفه فاعلاً
احتجاجياً، ولكن مفاهيم من شاكلة: الاحتجاج، والاحتجاجية، والهيبية، تتضمن غايات
ومآلات وأهداف لتتحقق. إذن تتبادر إلى الذهن تساؤلات عن ماهيات مثل: الفعالية. وعن
أفضل ما يمكن تقديمه لأجل حياة النصوص.
ويا صاحبي،
أنا لا أحب هيبية الغائب.
* عطفاً على
ذات السؤال: الشاعر- الحزب/الأيديولوجيات المتضادة أم (المتفقة؟) - ما بك؟ أتريد أن
تكون الكل المطلق أم ماذا؟ ماذا يحدث بك؟ لا أقصد حياتك بالمعنى المتعارف، ولكن،
ألا تلقي هذه الأيديولوجيا والنظم والقواعد؛ بكلكلها على (كلك)، على ما يخرج منه
إليك، وإلينا؟
- طبعا تُلقِي.
أنا –هل للأسف- مركَّب من الأيديولوجيات المتضادة، المتناقضة، المتفاعلة، في هذه
الذات. أنا أعتنق أيديولوجيا ما يعرف بالخدمة المدنية – موظف - بكل مفاهيمها،
وقيودها، وتحديداتها، ورؤاها، وأفعالها، وأفاعيلها، بطريقة تمضغ مفهومي للحرية
يوماً وراء يوم، وتقتات عليه بلا هوادة، وأنا واقع تماماً في سجنها. وأنا غارق في أيديولوجيا
الهندسة، حتى أنفقت جل حياتي أتحدد بها، وأتحرك في أفقها، وأستمد الكثير من متعي
عبر رؤاها، وقوانينها، وتمظهراتها، وفلسفتها. وهناك الأيديولوجيا المنشغلة بالتحرك
في حقل الفعالية السياسية، ومخرجاتها، وآليات عملها، من أحزاب أو أي تشكلات أخرى
تتصل بها، وأنا منشغل بما تجره أفاعيل السياسة على هذه الأرض الحبيبة، فلا أقوى
على الابتعاد عن ميادين الفعل المباشر في سوحها، وبالتالي تموقعي داخل إطار فعلٍ أتحرك
وفق نظام أفكاره وبرامجه. وهكذا يا صديقي، بقدر ما أتوق إلى التحلل من تحرشات
وتعكيرات كل هذه النظم من الأفكار؛ أجدني حتى الآن، وبشرط وجودي على هذه الأرض،
وما يستبطن ذلك من أسئلة حول هذا الوجود؛ مشاركاً في ميادين فعله. وهذه النظم
والقيود والأنساق، والحياة المباشرة، وصراعاتها الآنية، وفق آنية أغلبها معوق
للحرية الفردية، شاغل عن الفردنة؛ بالفعل تلقي عليَّ بالكلاكل كلها، وربما لولاها
لما كان السائس أعمى، ولا جافاً خشناً لا طعم له مثل "قَرْش الثلج". أنا
أدرك أني أحيا اللافكاك التوَّاق، حتى الآن.
* هب أني لا أعرفك؛
وقرأت العنوان (سائس أعمى..)؛ ما احتمال أن أقرأك بعماء الدلالة، إسقاطها على ذات
جاهزة (كمال عمر)؟ أوَ لا يؤثر ذلك على قراءتي لك، التي ستؤثر ربما على قراءتك لك؟
- حسنٌ،
حتى الآن سائس أعمى هو: جفاف حاد بحاجة إلى الترطيب اللغوي، أو هو قوة لغوية غاشمة
كما تقول هنا، أو هو مثل "قرش التلج" كما يقول صديقي بكري البقاري، ولا أكتمك
أنني رأيته في حينٍ آخر مثل "خرط الحديد". إذن هل بقي لأي مطَّلعٍ على
هذا الحوار احتمال مقاربة هذا الأعمى، ويتشبث؟!
بقيت
الضآلة كلها، وتكفيني حتى الازدحام. ولكن أيضاً علينا أن نكون أكثر حذراً، فأنت لم
تعرفني، وأنت أعمى كالسائس ذاته، وثمة فسحة للتشكيك بـ "ذات جاهزة" هذه،
وفسحة لتسريب لذة عبر القوة الغاشمة، لذة ولو من نصيب المنحرفين، وهناك ما يثير
بالثلج لدرجة الرغبة بقَرْشِه، وهناك سائسٌ أعمى ويتشبث بالمضي. من هؤلاء تتسرب
الضآلة التي عنيت. هو المنطق معكوساً، أو الـ خِلال، أو الـ ما بيْن. هذا هو مَسْرَبُ
الضآلة الذي أنشد. هذا هو احتمالنا.
* كيف تراك
حين تسمع صوتك، حين تقرأ/ تلقي/ تنشد؟ هل تجد أن أمراً ما تغيَّر بين الصوت،
والورق، وما تختزنه عن النص فيك؟
- ربما بإمكان
المرء تذكُّر أيام الانتشاءات الكبرى والباكرة، المرتبطة بسماع صوتك الباطن،
الغائر، وهو يخرج محمولاً على ترددات وأنغام تبدو حتى غريبة باختلاجاتها
واعتمالاتها. وحين يقف المرء الآن؛ يدرك كم كان ذلك مثيراً، وغنياً بتعقيدات لا نهائية،
من حضور الذات وغيابها، ومن الهنا/الهناك الوجودي، ومن حشودات الآخرين، الـ هُمْ،
والأنوات. ذلك الذهول والإحساس بالامتلاء حد الرغبة في الصراخ المتواصل؛ من شدة أفاعيل
الـ فيك، يقودك إليه أثرٌ هو النص الجالس بين يديك ساعتها.
الآن وبرغم أنني نادراً ما ألقيت شعراً لأعيش تجربة
صوتي الشعري هذه مجدداً؛ إلا أنك تعرف، أنك تقرأ في هذه الحال ذواتك المقيمة داخل
النص. وتقرأ معها مواجهتك لاكتشافاتك المتجلية كتابةً التي لم تحسَبها. وهي توقدك
مرة إثر أخرى. أعرف أن المسألة الأساسية تتعلق بالصوت، صوتك الخاص، وليس أي صوت
آخر من الطبيعة، محملاً بك وبالمارق منك في النص. بالطبع يعتبر الجزء الأعظم من
التاريخ الشعري هو تاريخ المُنشدين/المُلقين العظام؛ بسبب سيادة الشفاهية، وإن
انحسرت هذه المكانة المنبرية لمصلحة الكِتاب/الكتابة، وبسبب تموقعات أخرى، وتأثرات
بالإيقاعات المختلفة للشعري.
ده شنو يا ولد؟
ردحذفالمشكلة ماف طريقة الزول ينط.
وشكرا على الاحتفاء الدائم يا محفوظي الاثير