الاثنين، 8 أبريل 2024

المتبوع



11

الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ما تراءى لي عدة مرات خلف السهوم المبهم بعينيه في كل صباح يعقب أحاديث الليل. كنا على مشارف الامتحانات الصيفية، نبعد عدة أيام عن موعد الأرق القمري وقراراته الطائشة، لكن شيئًا كابيًا رمّد حضوره، وحطّ على وجهه لأيام، حتى صار سواده النضير مدبوغًا برعب خفي يفلت أحيانًا منه فتفضحه نظراته لثوان قبل أن يستعيد تحكمه في نفسه. أخبرني بعد أن هبّ يلملم أشياءه كمن لن يعود، بأنه في حاجة شديدة إلى مقابلة «الفكي»، فقد استدعاه.

ظلّ «الفكي» موضوعًا دائمًا لكراهية «عامر العربي» وخوفه منه واحترامه له في الوقت نفسه. كان يعرف أنه سيعود إليه مرغمًا في يوم ما، لكنه ظل يماطل نفسه متمنيًا أن يحدث ما يعفيه من ذلك الإلزام القدري الذي ربط حياتيهما معًا منذ طفولته، كأن يموت أحدهما فينفك العهد الدموي بينهما ولا يعود مضطرًا للرجوع إليه مرة أخرى. لكن «الفكي» ظل صامدًا، حيًا، وخالدًا في معزله نفسه وسط فلاة العشب الصامتة التي حمله إليها أبوه يائسًا بعد أن غلب خوفه عليه خوفه من الرجل الذي شفاه طفلًا، وداوى أباه، وها هو يسلمه طفله مبتلعًا ارتياعه مما سوف يجده ويراه.

أصابت «عامر العربي» اللعنة عينها التي لحقت أباه وجده، لكنها أدركته في سن صغيرة جدًا، ربما عشر سنوات، حين كان سارحًا ببعض الشياه في حمى الفريق[1]، تهيئةً له لما سيكون مسار حياته وحياة أقرانه التي سترتبط بالماشية من ماعز وغنم وإبل إلى نهاية حياته.

واحد وعشرون نصًا في خيطٍ طويل إلى حد الملل

 


 
محتويات
«يوميات»: أكتوبر 2023 - أبريل 2024 (تقريبًا)
«لا أقوى من لا أقوى»: مارس 2022
 
 
  
 
 
 يوميات
 
1
هذا احتجاجي على أن الأوان سُدًى..
هذا عقابي لأني حين صبَّني الله في الهيئة
ثم قال: اذهب طليقًا إن قدرتَ.. ولن؛
كنت أقول نفاقًا إني قبِلتُ المسافات
قبل خلق المسافةْ..
وإني رضيت بقَيْضِ الحياةِ عَمَىً.
 
  
 
2
أنت تعلم يا رب
أنني لست شاعرًا ولست موسيقيًا ولا كاتبًا
ولست زوجًا جيدًا ولا أبًا حنونًا
ولست إنسانًا تنزّ منه الحياة 
ولا حيوانًا ولا جمادًا 
ولا سعلةً لملاك غافل 
ولا فسوة شيطان مريد..
لست إلا لطخة مؤقتة على صفحة اليوم 
تعتريها انقباضات السير وتعميها الظنون عن لذة الإدراك..
إنني يا رب منهك من غضبي ومن لا مبالاتي معًا
متعب يا رب منك وأشعر بالنقص والضجر
أشعر بالقيد ولا أراه
وأشعر بفوت الفوات وبالدهشة وغثيان الرحلة التي لم تحدث
أريد مكانًا واضحًا يا رب أموت فيه
أريد طيّة تخصني يا رب فأحيا علانية
أريد معنى وظلًا وأرضًا أصلي إليها إن غفوتُ على تراب القيامة
وأنت تعلم يا رب كيف أني طيب أحيانًا وقليل التكلفة
تعلم كيف أني زاهد في الشيء 
وزاهد في الذات وفي المحبة واللهِ 
وزاهد فيَّ وفيك
فأعنّي يا إلهي على السفر
وجازني يا رب حتى ترضى.

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...