11
الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ما تراءى لي عدة مرات خلف السهوم المبهم بعينيه في كل صباح يعقب أحاديث الليل. كنا على مشارف الامتحانات الصيفية، نبعد عدة أيام عن موعد الأرق القمري وقراراته الطائشة، لكن شيئًا كابيًا رمّد حضوره، وحطّ على وجهه لأيام، حتى صار سواده النضير مدبوغًا برعب خفي يفلت أحيانًا منه فتفضحه نظراته لثوان قبل أن يستعيد تحكمه في نفسه. أخبرني بعد أن هبّ يلملم أشياءه كمن لن يعود، بأنه في حاجة شديدة إلى مقابلة «الفكي»، فقد استدعاه.
ظلّ «الفكي» موضوعًا دائمًا لكراهية «عامر العربي» وخوفه منه واحترامه له في الوقت نفسه. كان يعرف أنه سيعود إليه مرغمًا في يوم ما، لكنه ظل يماطل نفسه متمنيًا أن يحدث ما يعفيه من ذلك الإلزام القدري الذي ربط حياتيهما معًا منذ طفولته، كأن يموت أحدهما فينفك العهد الدموي بينهما ولا يعود مضطرًا للرجوع إليه مرة أخرى. لكن «الفكي» ظل صامدًا، حيًا، وخالدًا في معزله نفسه وسط فلاة العشب الصامتة التي حمله إليها أبوه يائسًا بعد أن غلب خوفه عليه خوفه من الرجل الذي شفاه طفلًا، وداوى أباه، وها هو يسلمه طفله مبتلعًا ارتياعه مما سوف يجده ويراه.
أصابت «عامر العربي» اللعنة عينها التي لحقت أباه وجده، لكنها أدركته في سن صغيرة جدًا، ربما عشر سنوات، حين كان سارحًا ببعض الشياه في حمى الفريق[1]، تهيئةً له لما سيكون مسار حياته وحياة أقرانه التي سترتبط بالماشية من ماعز وغنم وإبل إلى نهاية حياته.