الاثنين، 28 نوفمبر 2011

بربّك.. إنهم في النظام

«وسائل الإعلام هي مؤسسات مندمجة مع بعض المؤسسات الرئيسية في البلاد. والأشخاص الذين يملكون ويديرون هذه المؤسسات ينتمون إلى نفس النخبة المحدودة من المالكين والمديرين الذين يسيطرون على الاقتصاد الخاص، الذين بالتالي يسيطرون على الدولة، لذلك فإنها رابطة أو فئة محدودة جداً من وسائل الإعلام المشتركة أو المتحدة والمديرين والمالكين. فهم يتشاركون نفس الفهم والإدراك، وهلم جرا (...) لذلك من الطبيعي أنهم يفهمون المسائل والمشاكل، القمع، السيطرة وصياغة مصالح الجماعات أو الفئات التي يمثلونها، وبشكل مطلق مصالح الملكية الخاصة للاقتصاد، وأين تتركز في الحقيقة. علاوة على ذلك فإن لوسائل الإعلام سوقاً قوامها المعلنون، وليس عامة الناس، فعلى الجمهور أن يشتري الصحف، بيد أن الصحف مصممة لتجعل الجمهور يشتريها، وبذلك يمكنها أن ترفع أجور ومعدلات أجورها، فالصحف تباع بشكل أساسي للمعلنين عن طريق الجمهور، وحيث إن المؤسسة تبيعها وإن سوقها يعتبر مجالًا للأعمال؛ فتلك ناحية أخرى يكون فيها النظام المشترك أو نظام العمل قادراً بشكل عام على ضبط وسيطرة رضاءات وسائل الإعلام. وبمعنى آخر إذا ما خرجت عن الخط بشكل لا يدعو للتخيل أو التصور؛ فإن المادة الدعائية ستسقط (...) وسلطة الدولة لها نفس التأثير، فوسائل الإعلام تريد إبقاء علاقتها الحميمة مع سلطة الدولة، فهي تريد أن تحصل على التسريبات منها، وهي تريد دعوتها إلى المؤتمرات الصحفية الرسمية، وهي تريد أن تحتك مع وزير الخارجية، وكل أنواع المهمات، ولفعل ذلك فإن عليها أن تمارس نفس اللعبة، وإن لعب اللعبة يعني قول الأكاذيب (...) بعيداً تماماً عن الواقع، ذلك أنهم يمضون ليفعلوا ذلك بأية طريقة خارجة عن مصلحتهم الخاصة وعن وضعهم الخاص في المجتمع، فهناك تلك الأنواع من الضغوطات التي تجبرهم على ذلك. إنه نظام ضيق جداً للسيطرة، بشكل مطلق».
نعوم تشومسكي (تواريخ الانشقاق)
1
أفترض دائماً أن ما يسمى (المهنية) في الوسائط إنما تعني الانحياز المستتر إلى السلطة، وليس كما يتم الترويج له بأنها تعني الحياد. وافتراضي غذته نظرتي إلى الوسائط بوصفها أدوات لـ(تغبيش) الوعي الجمعي – إن وجد – وصرف الانتباه عن ما يهم البشر الذين يقعون عرضة للاستغلال والسيطرة الموجهة إلى مصالح النخبة على حساب مصالح المجموع. وفي كتابة سابقة تناولت بعض أساليب هذا التغبيش البسيطة وضربت مثلاً بالتلاعب باللغة كأن تسمى الكوليرا (إسهالات مائية) والمجاعة (فجوة غذائية) والفقر (تعفف)... الخ الأمثلة التي تم تناولها وتناول الغرض من اختراع المصطلح ولصالح من يتم ذلك.
أحاول هنا التركيز بخفة شديدة على الإقصاء اللاواعي عن طريق اللغة الذي تمارسه الوسائط الإعلامية بغرض التغبيش الذي ذكرته.
2
برأيي أن الكاتب يختار قارئه عن طريق اللغة التي يستخدمها لقول ما يريد قوله، فإن كانت لغته (معتادة) لدى شريحة كبيرة من المتلقين إذن فهو اختار هذه الشريحة، وإن كانت (معقدة) – مع تحفظي على المصطلحين حاليا - فهو اختار شريحة ضيقة يمكنها التعاطي مع لغته تلك، ما يعني أنه – متعمداً أم غير متعمد – أقصى (السواد الأعظم) من المتلقين.
هناك تلاعب وتعقيد والتواء في اللغة المستخدمة الآن في الوسائط – في رأيي – بل حتى الرأي الذي يكتب حالياً في الصحف بدأت لغته تصبح طاردة وعدائية للقارئ غير المضطر. الناظر إلى الصياغة التي تسمى (المثلى) للأخبار يلاحظ مسحة من الرتابة المصحوبة بالمراوغة وذلك في الصحف التي تدعي أنها (مستقلة)، أما تلك التي تتبنى خطاً لا يحتاج إلى المراوغة فنجدها تتلاعب في طريقة صياغة الخبر لتوجيه القارئ نحو انفعال عاطفي يخدم مصلحة مالكيها. ذات الأمر يتكرر بهذا السياق في بقية الوسائط المسموعة والمرئية.
3
بالاستناد إلى حديث تشومسكي الوارد في البداية يمكن افتراض أن المصالح التي تربط مالكي وسائل الإعلام مع النظام بسلطاته ومعلنيه وبنوكه... الخ هي أكبر بكثير من المصالح التي تربطهم بالناس – وهو الأمر الذي ينطبق على القادة السياسيين المعارضين والمؤيدين، لكن هذا حديث آخر – ويؤدي هذا الارتباط المصلحي إلى الاشتراك بينهم والنظام في استغلال هذا الذي يتم التحدث إليه وباسمه ويسمى (المواطن) مما يلغي توفر حسن النية في كثير من الأحيان حين تتحدث الوسائط أو رموز النظام عن الاهتمام بالمواطن.
إن أنماط التلاعب الظاهرة والمستترة من الرسوخ بمكان حتى إنها خلقت بنية تبريرية تغطيها وتجعلها تعمل على استنباط نمط لكل موقف وتنتج خطابات مسيطرة سرعان ما تندغم داخل نسيج البروباغاندا التي ظلت تغيّب الكثير من التفاصيل لصالح إبراز ما يقود إلى السيطرة الذهنية المرجوة.
4
من أين تأتي الأخبار التي تغذي الصحف والوسائط الأخرى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما الذي سيحدث إن لم تكن هناك أخبار وكانت الوسائط مختصة فقط بالتعبير عما في أذهان الناس وتفتح لهم الباب واسعا لقول ما يريدون؟
إن الطريقة التي تصنع بها الأخبار ومصادرها يشوبها الكثير من الفساد، مع ملاحظة أن أكثر الأخبار التي توضع تحت هذا التصنيف (أخبار) ليست أخباراً، إذ تعتري بنيتها الكثير من التلاعبات التي تجعلها توَجّه لتكون تبريراً أو دعاية.
حين تسند خبراً إلى وكالة، ولا تسنده هذه الوكالة إلى مصدر واضح، يصبح الخبر عائماً في فراغ الاحتمالات. بل حتى إن أسند إلى مصدر معلوم تظل نسبة صدقيته لا تتعدى 50% حتى التأكد مادياً منه، فما بالك بخبر يصعب اختباره والتأكد منه؟
إن الشعب يشبه (البطاريات) التي تغذي بالطاقة نخبة صغيرة تمسك بكل شيء، ومن مصلحة النخبة أن تظل البطاريات تنتج الطاقة. فيتم إقناع الناس بأن يظلوا كما هم، وأن المجهول مخيف حقاً، ويتم إقناعهم بأن غاية الحياة أن تخرج إلى العمل منذ الفجر وتعود آخر الليل تحمل (كيس الخضار واللحمة) وأن كل دعوة للتغير ستفقدهم هذا الكيس الثمين، طالما أن هناك كيسا تتعب من أجله لـ12 ساعة دون النظر إلى من يحصلون على كيسهم قبل الاستيقاظ من النوم ودون التفكير في أن مصاص دماء يستهلك حياتك؛ إذن لا مشكلة هناك.
أتذكر المخترق الأكبر للعبة السلطة؛ جورج أورويل، في مزرعة حيواناته، حين أقنعت الخنازير بقية الحيوانات بأنها تعمل عملاً أشق من العمل في الحقل، وهو عمل يسمى (التفكير)! وأذكر كذلك التحوير الأشهر لمبادئ الثورة عندما قام وزير إعلام الخنازير – في الرواية ذاتها – بتحويل العبارة (كل الحيوانات متساوية) إلى (كل الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر تساوياً من البعض الآخر).
إنني أسأل بكل سذاجتي المواطنية: أيهما يستحق الامتيازات؛ من يجلس في مقعد وكل عمله الكلام عن ما ينبغي فعله والتصويت، أم من دفع دمه ووقته وصحته وإنسانيته ثمناً لتلك الامتيازات؟ أم أن (التفكير) أصعب بكثير من العمل منذ الفجر إلى أواخر الليل؟
5
بربك، إنهم يدفعون الضرائب، ويضعون أموالهم في البنوك، ويحصلون على الامتيازات والمناصب. بربك كيف تكون مصالحهم هي ذات مصالحي؟

انتقاء

يشكل  اللون الأسود لدى من يريحون ذواتهم على فرضية أنهم من أعراق عليا، بيضاء بالضرورة؛ شائبة تقلق اتزانهم النفسي – اللاواعي – حين الاختبارات الأولية البسيطة التي تجعل ذلك الانتماء لا يصمد كثيراً إلا بتدعيمه بالكثير من التلفيقات والتبريرات التي تتشابك في آخر الأمر لتصنع ما يشبه أيديولوجيا تتخللها العقد النفسية وردود الأفعال النافية/المثبتة في سبيل دعم فرضياتها الهشة.
كانت ملاحظة ذكية – برأيي - تلك التي أوردها د.الباقر العفيف في كتابه (وجوه خلف الحرب) حين أشار إلى عملية الاستدراك الممارسة عن طريق الزواج للتخلص من اللون الأسود وذلك بانتقاء أنثى بيضاء لرفع نسبة البياض في النسل. لكن ما يثير التساؤل هو:  ما الذي تؤدي إليه عملية الانتقاء تلك؟
طيِّب، حين ينتقي ذكور سود إناثاً بيضاوات، فإن نسبة كبيرة من الإناث السوداوات يكن خرجن من (سوق) الزواج. وإذا كان الأطفال الذين ينتجون عن تلك الزيجات أقل سواداً من آبائهم، ثم انتقوا هم كذلك من جديد إناثاً بيضاوات، وخرجت من جديد الإناث ذوات الوصمة (اللون الداكن) من المنافسة؛ فسينتج أطفال أقل بياضاً من أمهاتهم وأقل سواداً من آبائهم.... إلخ. ما تجدر ملاحظته أن عدد السود إناثاً وذكوراً يسير إلى نقصان لصالح عملية التبييض المستمرة. ويأتي لا وعي العملية في أنها تتلثم بمفاهيم أنتجت لتبريرها، فمثلاً قواعد الجمال تغيرت كثيراً وتتغير لتصبح الأنثى الجميلة المشتهاة بيضاء كصفة مركزية تسعى إليها بالكيمياء ذوات الحظ العاثر الذي جعل لونهن أسود مما يخرجهن من المنافسة في سوق الزواج.
تسير هذه العملية (التبييض) بوتيرة تزداد قوة مدعومة بإفرازات الأيديولوجيا المتسترة خلف الكثير من الدعاوى، يغذيها تاريخ طويل من العقد النفسية والقفزات التاريخية المفاجئة والتناقض الحاد والتفاوت بين مكونات عجلة التطور.
إن ما يحدث أمام الجميع يومياً هو إقصاء منظم للون الأسود، في سبيل أن نصبح بيضاً (كما نعتقد) و(كما نبدو)، وهي لعمري طريقة شاقة لخياطة الصدع الذي ينتاب من يفكر في ذاته وكأنه ليس أسود، ليس زنجياً، ليس عبداً، ولكنه في ذات الوقت يحمل صفات السود، والزنوج، ويراه الآخرون عبداً.
أكتب ملاحظاتي هذه وفي ذهني ذلك السعار نحو الأبيض بدعاوى مختلفة على قمتها أنه جميل! فمعظم الإناث داكنات اللون يدركن أن حظوظهن أقل - وتقل بمرور الوقت – في الحصول على شريك ذكر؛ من الأخريات ذوات الألوان التي تميل إلى الأبيض. ورغم كل المعالجات التي يلجأن إليها للتبييض إلا أنهن يدركن أن احتمال نجاحهن ضئيل، سواء أكان نجاحهن في الحصول على عمل مرموق اجتماعياً، أم في الحصول على شريك مناسب.
إن محاولة التخلص من السواد تغذي الكثير من التصرفات والأفعال التي أراها مضحكة أحياناً. فمثلما لاحظ د.الباقر العفيف من قبل أن التبرعات كانت تجمع لفلسطين في عز الأزمة الإنسانية في دارفور؛ نلاحظ أيضاً أن درجة الانفعال بقضايا (البيض) الذين نفترض انتماءنا إليهم أكبر من انفعالنا بقضايا من يشاركوننا ذات الجغرافيا، وذات اللون، وذات السحنة، وذات المصير المشترك (الحقيقي). إنه لأمر يثير العجب!

المتبوع

11 الدافع الحارق الذي حمل «عامر العربي» على حزم حقيبته متعجلًا ذات أصيل في سنتنا الجامعية الثالثة، ليقرر العودة فجأة إلى قريته، كان هو نفسه ...